٥٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (٥٤)

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} قد ذكرناه وبيناه في غير موضع،

وقوله: {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} يحتمل وجهين:

 أحدهما: مِن ص مَثَلى، أي: من كل صفة؛ كقوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} أي: الصفات العليا.

والثاني؛ المثل: هو الشبيه؛ كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.

فإن كان التأويل: الشبيه؛ فكأنه يقول - واللّه أعلم - {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا}، أي: بينا {فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} من كل ما بهم حاجة إلى معرفة ما غاب عنهم؛ جعل لهم شبيها مما شاهدوا أو عرفوا ليعرفوا به ما غاب عنهم.

وإن كان تأويل المثل: الصفة، فكأنه يقول - واللّه أعلم -: ولقد بيّنا في هذا القرآن من كل ما يؤتى وما يتقى صفة: يعرفون بها ما لهم وما عليهم، وما يأتون وما يتقون، واللّه أعلم.

وقوله: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}.

قال أهل الشأويل: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ} يعني: الكافر {أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}، أي: جدالا؛ كقوله: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ}.

ويشبه أن يكون قوله: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}، أي: وكان جوهر الإنسان أكثر جدلا من غيرهم من الجواهر؛ لأن الجن لما عرض عليهم القرآن والآيات قبلوها على غير مجادلة ذكرت؛ حيث قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. . .} الآية، وكذلك الملائكة لم يذكر منهم الجدال ولا المحاجة في ذلك.

وقد ظهر في جوهر الإنسان المجادلات والمحاجات في الآيات والحجج، من ذلك قوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ. . .} الآية،

وقوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}،

وقوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}،

وقوله: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ}، وأمثال هذا؛ لذا احتيج إلى إنزال كثرة الآيات والحجج؛ لكثرة ما ظهرت منهم المجادلة.

وفيه الإذن بالمجادلة والمحاجة في الدِّين على الوصف الذي ذكر، واللّه أعلم.

﴿ ٥٤