٦وقوله: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (٦) قَالَ بَعْضُهُمْ: النبي أولى بهم من بعضهم ببعض؛ كقوله: {وَلَا تَقتُلُوا أَنفُسَكُم}، أي: لا يقتل بعضكم بعضا؛ إذ لا أحد يقتل نفسه، {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي: يسلم بعضكم على بعض، ليس أنه يسلم الرجل على نفسه؛ ولكن ما ذكرنا؛ فعلى ذلك قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، أي: بعضهم من بعض. ثم يحتمل هو أولى بهم من أنفسهم من الطاعة له والاحترام له والتعظيم، أي: هو أولى أن يعظم ويحترم ويطاع من غيره. أو أن يكون أولى بهم في الرحمة والشفقة لهم، أي: أرحم بهم وأشفق من أنفسهم، وهو على ما وصفه من الرحمة والرأفة؛ حيث قال: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، وليس أحد من الناس يعز عليه ما يفعله من المآثم. أو أن يجوز أولى بهم:، أي: أَحبَّ إليهم من أنفسهم وأولادهم، محبة الاختيار والإيثار، ليست محبة الميل: ميل القلب؛ لأن ميل القلب يكون بالطبع. وذكر في الخبر أن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ليس بمؤمن حتى أكون أنا أحب إليه من نفسه وولده وأهله " أو كلام نحو هذا. أو أن يكون [{أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ}]، في الآخرة بالشفاعة لهم، يشفع فينجون من النار به لا بأعمالهم، واللّه أعلم. وذكر في بعض الحروف: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم): وهو حرف أبي وابن مسعود وابن عَبَّاسٍ، رضي اللّه عنهم. قوله: (وهو أب لهم) في الرحمة والشفقة، أو فيما يلزم من الطاعة والتعظيم والاحترام ونحوه. وقوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}. قال أهل التأويل: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}: في الحرمة؛ أي: لا يحل لهم أن يتزوجوهن أبدًا كالأمهات، ولكن يجب أن يكون ذلك بعد وفاته، فأمَّا في حياته إذا طلقهن فيجب أن يحللن لغيره؛ لأنه قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. . .} الآية، ولو لم يحللن لغيره، لم يكن لما ذكر لهن من التمتيع والتسريح معنى، وهذه الحرمة يجب أن تكون بعد الموت، وهو ما قال: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا}: إنما شرط هذا بعده؛ ليكن أزواجه في الآخرة. أو أن يكون قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}، أي: حرمة أزواجه من بعده ومنزلتهن كمنزلة أمهاتهم؛ يستوجبن ذلك لحرمة رسول اللّه ومنزلته قبلهم. وأما الباطنية فإنهم يقولون: في قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} دلالة أنه ليس يريد به أزواج النبي؛ ألا ترى أنه يحل للناس نكاح أولادهن، ولو كن أمهات لم تحل؛ لأنهم يصيرون إخوة وأخوات؛ فإذا حل ذلك دل أنه ما ذكرنا، هذا قولهم. لكن الجواب لذلك ما ذكرنا: أنه جائز أنه سمَّاهن: أمهات، أي: منزلتهن وحرمتهن كمنزلة الأمهات؛ لحرمة رسول اللّه ومنزلته؛ وذلك جائز لأنه ذكر الشهداء أحياء عنده، وإن كانوا في الحقيقة موتى؛ لفضل الكرامة لهم والمنزلة عند اللّه، فعلى ذلك ذِكرُ الأمهات لأزواجه ما ذكرنا، واللّه أعلم. وقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه}. قَالَ بَعْضُهُمْ: {فِي كِتَابِ اللّه}: في حكم اللّه؛ كقوله: {كِتَابَ اللّه عَلَيْكُمْ}، أي: حكم اللّه عليكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فِي كِتَابِ اللّه}: فيما أنزل من الكتاب، وهو الذي ذكر، وكذلك: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. . .}، إلى آخر ما ذكر: المكتوب عليهم: الذي ذكر على أثره. ثم اختلف في تأويل قوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: إن المواريث في بدء الأمر لم تكن تجري إلا فيما بين المؤمنين المهاجرين من القرابات والأرحام، فإن كان مؤمنًا لم يهاجر لم يرث ابنه ولا أباه ولا أخاه المهاجر ولا سائر قراباته إذا مات أحدهما، إلا أن يكونا مؤمنين مهاجرين؛ فعند ذلك يتوارثون؛ فعلى ذلك التأويل يكون تأويل قوله: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا}: الذين لم يهاجروا من المؤمنين أن تُوصوا لهم شيئًا، فيقول قائل هذا التأويل: إن هذا نسخ بالآية التي ذكر في سورة الأنفال، وهو قوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ. . .}. ولم يذكر فيها الهجرة إذا كانوا مسلمين. وأمَّا الكافر فإنه لا يرث المسلم، وعلى ذلك روي في الخبر أنه قال: " لا يرث، المسلم الكافر ولا الكافر المسلم "، وقال: " لا يتوارث أهل ملتين ". وقَالَ بَعْضُهُمْ: تأويل قوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} من الأقربين منهم، أي: أولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين الأقرب فالأقرب منهم، {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} من الأبعدين في المواريث أي: الأقرب منهم بعضهم أولى ببعض من الأبعدين. {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا}. على هذا التأويل يكون قوله: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ}: الأبعدين {مَعْرُوفًا}: وصية أو شيئا، فذلك معروف فصارت المواريث للقرابات الأدنى فالأدنى من المؤمنين دون الأبعدين؛ فيكون الآية التي في الأنفال وهذه سواء على هذا التأويل، بل يكون الأقرب فالأقرب والأدنى فالأدنى أولى بالمواريث من غيرهم. وبعضهم يقول: إن الآية نزلت ناسخة لما كان منهم من التوارث بالمؤاخاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يؤاخي بين رجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته، حتى نسخ ذلك بالآية التي ذكر؛ فعلى ذلك يكون قوله: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} هو أن يصنعوا إلى الذين آخى بينهم النبي معروفًا. ثم اختلف في أولي الأوحام المذكورين في الآية: قَالَ بَعْضُهُمْ: هم الذين ذكرهم في قوله: {يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. . .}، إلى آخر ما ذكر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليسوا هم؛ وإنَّمَا الذي ذكر في ذلك هم الذين بيّن لهم حد مواريثهم، فأما غيرهم فإنما هم في قوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فإنما يرث الأقرب فالأقرب منهم، وكذلك يقول أبو حنيفة - وحمه اللّه -: إن أولي الأرحام إنما يرث الأقرب فالأقرب منهم، ليس كالعصبات؛ لأن الابنة لا شك أنها أقرب من ابن العم، ثم يكون النصف للابنة والبقية لابن العم. وقوله: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}. قَالَ بَعْضُهُمْ: في اللوح المحفوظ بأن المؤمنين بعضهم أولى ببعض في المواريث من الذين كانوا يتوارثون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فِي الْكِتَابِ}، أي: في التوراة مكتوبًا: أن يصنع بنو إسرائيل إلى بني لؤي بن يعقوب معروفًا؛ ليعود الغني على الفقير، واللّه أعلم. |
﴿ ٦ ﴾