٨وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٨) يخبر أن عنده من اللطائف والقدرة، ما لو شاء لجعلهم جميعًا أمة واحدة وعلى دين واحد، وهو ما قال: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ. . .} الآية، فلو جعل ذلك لأهل التوحيد والإيمان، لكانوا جميعًا على دين الإسلام؛ على ما أخبر أنه لو كان ذلك مع أهل الكفر لكانوا جميعًا أهل كفر. ثم قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} لا يحتمل مشيئة الجبر والقسر على ما يقوله المعتزلة لوجوه: أحدها: لما لا يكون الإيمان في حال الجبر والقهر؛ لأنه لا صنع لهم في ذلك، ولا اختيار لهم. والثاني: أنّ كل أحد بشهادة الخلقة مؤمن موحد للّه - تعالى - ثم لم يصيروا بذلك مؤمنين؛ فعلى ذلك بالجبر والقهر؛ إذ في الحالين يكون فعل المؤمن إنما هو فعل غيره؛ فدل أنه أراد أن يشاء منهم ما يكون مختارين في الإيمان لا مجبورين. والثالث: أن الإيمان بالجبر والقهر مِمَّا لا يعرفه الناس، ولا يطلق اسم الإيمان عليه في العرف، وقد وعدهم الإيمان، وجعل الدِّين واحدا، وهذا عند المتعارف ينصرف إلى ما يوجد منهم عن طوع واختيار، لا بالجبر والقهر؛ فتكون الآية منصرفة إلى المعهود عند الناس؛ على ما هو الأصل في الكلام، واللّه الموفق. وعندنا: أراد به مشيئة الاختيار، وأخبر أن عنده من اللطائف ما لو أعطى الكل لآمنوا جميعًا عن اختيار، لكنه لم يعطهم ذلك ولم يشأ؛ لما علم منهم أنهم لا يرغبون فيه، ولا يختارون ذلك، ولكن إنّما يختارون ضد ذلك ونقيضه؛ لذلك لم يشأ لهم، وإنَّمَا يشاء لمن علم أنه يختار ذلك فضلا. وقوله: {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} يخبر أن من أعطى ذلك إنما يعطيه رحمة منه وفضلا، لا أنهم يستوجبون ذلك منه، ويستحقونه عليه، واللّه الموفق. ثم إن اللّه تعالى سمى الإيمان مرة: رحمة بقوله: {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ}، ومرة سماه: منة بقوله: {وَلَكِنَّ اللّه يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}، وبقوله: {بَلِ اللّه يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ. . .} الآية، فلو كان الإيمان يقوم بالذي يكون الكفر من القدرة ولم يكن من اللّه - تعالى - إلى المؤمنين إلا وقد كان مثله إلى الكافر، على ما يقوله المعتزلة: إن الإيمان إنما يكون بالذي يكون الكفر، لم يكن لتسمية هذا نعمة ومنَّة ورحمة، وتسمية الكفر ضده - معنى، واللّه أعلم. وبعد: فإنه لو كان على ما يقوله المعتزلة لكان ما ذكر من النعمة والمنَّة والرحمة إنما يكون بالخلق منهم، لا باللّه - تعالى - ومنه دل أن عنده لطائف، من أعطى تلك اللطائف آمن واهتدى، ومن لم يعطه إيَّاها لم يؤمن، وقد أعطى المؤمن تلك، ولم يعط الكافر؛ لذلك كان ما ذكرنا، واللّه الموفق. ثم في تخصيص أم القرى ومن حولها بالنذارة وجوه، لأنه ذكر في آية أخرى أنه نذير للعالمين جميعًا بقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}، فإذا كان مبعوثًا إلى جميع العالم، لا إلى بعض دون بعض، كما كان بعض الأنبياء - عليهم السلام - فلا بد أن يكون لتخصيص أم القرى ومن حولها معنى وحكمة: أحدها: لما يحتمل أن يكون لأهل مكة طمع في شفاعته وإن لم يتبعوه: إما بحق القرابة والاتصال، وإما بحق الأيادي، ومن حولهم بحق الجوار؛ فذكر تخصيصهم بالإنذار بيوم الجمع حتى يزول طمعهم بدون الاتباع، والنزوع عن الشرك؛ إذ ذلك لا يزول بمطلق الإنذار؛ لما عندهم -في زعمهم- أن المراد بذلك غيرهم؛ لما لهم من زيادة سبب الوسيلة معه. والثاني: أن ينذر هَؤُلَاءِ ومن ذكر شفاهًا، ولمن بعد منهم خبرًا. أو خصّ هَؤُلَاءِ بحق البداية ثم بالأقرب فالأقرب، وعلى ذلك يخرج قوله - تعالى -: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، على الوجوه التي ذكرنا. وقوله - سبحانه وتعالى -: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}، أي: ما لهم من وليّ يشفع، ولا من نصير ينصرهم، ويمنعهم من عذاب اللّه. |
﴿ ٨ ﴾