٤(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ... (٤) أي: صوم شهرين لا مسيس فيه، حتى لو واقعها في وقت لم يتم صوم شهرين بعد يلزمه الاستئناف، وكأن معناه: لا مسيس في خلال الكفارة؛ فمتى وجد المسيس في وقت لم يتم الكفارة بعد يلزمه الاستئناف، وتأويل قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} عند أبي يوسف - رحمه اللّه -: أي: يعتق قبل وقت المسيس، ويصوم كذلك. ويقول بأن الآية خرجت لبيان وقت التكفير فيه: حتى إذا جامع امرأته في صوم الظهار أنه لا يستأنف الصوم، بل يصوم الباقي؛ إذ قد فات عن وقته فصار قاضيًا عما عليه، وليس بعد الجماع وقت لذلك الصوم، بل يكون ذلك على القضاء؛ فيجوز متفرقًا ومتتابعًا؛ كصوم شهر رمضان: لما تعين له وقت الأداء، ثم فات الوقت لا يجب متتابعًا؛ بل يجوز متفرقًا، كذا هذا، ولا يتصور المسألة في الإعتاق؛ لأنه لا يتجزأ عنده. ولا خلاف أنه إذا جامع بعدما أطعم ثلاثين مسكينًا أنه لا يلزمه استئناف الطعام، ولا خلاف أنه إذا جامع قبل الكفارة لا يلزمه شيء سوى التوبة والاستغفار في قول عامة الفقهاء. وعند بعضهم يلزمه كفارتان. لأبي يوسف - رحمه اللّه - ما ذكرنا، ولأنه قد رأى أداء بعضها في الوقت وبعضها في غير الوقت أولى من أداء الكل بعد الوقت؛ ولهذا المعنى في الطعام كذلك. ولأبي حنيفة - رحمه اللّه - أن الظهار ليس يوجب الكفارة؛ ولكن يوجب حرمة لا ترتفع إلا بالكفارة، ولا يؤمر هو بالكفارة مقصودًا، ولكن إذا أراد الاستمتاع بها يقال له: ليس لك ذلك إلا بالكفارة، فإذا كان كذلك فإذا أدى بعضها، ثم ماسها، ثم أدى البقية - لم يصر ما أدى بعد المماسة؛ فضاعف الوقت الذي قبل المماسة، فإذا لم يصر قضاء عن ذلك جعل كالنص إنما جاء في هذه الحالة: أن حرروا رقبة قبل أن تماسوا ثانيًا، وصوموا شهرين متتابعين إذا أردتم العود إليها؛ ولذلك قال - عليه السلام - للمظاهر الذي جامع امرأته: " استغفر اللّه، ولا تعد حتى تكفر ". لكن يدخل على هذا أمر الطعام أنه إذا أطعم بعض لطعام، ثم ماسها لم يلزمه الاستقبال، والعبارة التي ذكرناها توجب الاستئناف، لكن يستحسن في الطعام؛ لأن الطعام وقع في الأصل متفرقًا؛ إذ لو أطعم بعضه للحال وبعضه بعد سنة فإنه جائز من ذي الجهة، لكن يدخل عليه الإعتاق عند أبي حنيفة - رحمه اللّه - فإنه إذا أعتق بعضه للحال وبعضه بعد سنة يجوز أيضًا، ومع ذلك إذا وجد المسيس فيما بين ذلك يلزمه الاستئناف. وما ذهب إليه أبو يوسف - رحمه اللّه - من حمل الآية على بيان الوقت لا يصح؛ لأنا لو حملنا تأويل الآية على الوقت نفسه، لا فائدة تقع في الآية؛ لأن معرفة وقت ذلك ثابتة بدلالة العقل، وذلك أن قد علمنا إيجاب الحرمة بالظهار، وعلمنا أن تلك الحرمة لا ترتفع إلا بالكفارة؛ فصار وقت الحل بذكر الحرمة معلومًا؛ ولذلك هذا في جميع الحرمات من الطلاق وغيره أنه لا يرتفع إلا بسبب رفعه؛ فلو حمل تأويل الآية على بيان الوقت لم تفد شيئًا، ولو حمل على بيان إخلاء الكفارة عن المسيس، وعلى نفي المسيس في خلال الكفارة تفيد فائدة جديدة؛ فيكون هذا التأويل أحق وأولى. ثم في الآية دلالة بأن ليس ذلك على بيان الوقت، وهو قوله - تعالى -: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}، ثم ذكر في العتق والصوم ترك المماسة، ولم يذكر ذلك في الإطعام، ولو كان ذلك على جعل الوقت له لكان يذكر فيه المماسة؛ إذ الكفارة إذا كانت عن شيء واحد لا يختلف فيه أوقاتها، بل يكون وقتها واحداً، ولا يقال: إنما لم يذكر الوقت في الإطعام؛ لأن ذكره في العتق والصوم: ذكره في الإطعام؛ لأنه من أنواع هذه الكفارة؛ فذكر الوقت في بعض يكون ذكرًا في الباقي، فإذا أدى بعضه في الوقت وبعضه في غير الوقت كان أولى من أن يؤدي الكل في غير الوقت؛ لأنا نقول: ذكره في العتق والصوم لا يصلح أن يكون بيانًا في الإطعام؛ لأن البيان على وجوه ثلاثة: بيان نهاية، وبيان كفاية، وبيان تفصيل: فأما بيان الكفاية: فهو أن يكتفى ببيان الواحد أو القليل عن الكل؛ ليعرف ذلك بالاجتهاد والقياس على نظائره؛ فيدل ذلك على معنى مودع فيه، وأنه محل الاجتهاد والتقليد. وأما بيان النهاية: هو أن يبين الكل على المبالغة؛ حتى لا يبقى للاجتهاد فيه موضع. وأما بيان التفصيل: هو الذي يبين في أكثره، ولا يبلغ به نهايته؛ فهو فيما يبين لا يتعدى إلى غيره؛ إذ لو كان فيه معنى مودع يجمع الكل لم يكن لذكر الزائد عليه وترك بعضه معنى. وهاهنا بيان تفصيل دون كفاية؛ إذ لم يكتف بذكر في واحد، ولا هو بيان نهاية؛ إذ لم ينه البيان في الكل؛ فهو بيان التفصيل الذي ذكرنا أنه يقر في المذكور، ولا يتعدى إلى آخر، ولو كان ذكر ذلك لبيان الوقت لاكتفى بذكره في الواحد عن الكل؛ إذ ذكر في الكل على المبالغة؛ فلما ذكر على بيان التفصيل دل أنه ليس لبيان الوقت، ولكن لنفي المسيس عن خلال الصوم والعتق المذكورين دون الطعام الذي لم يذكر فيه، وتبين أن إخلاء الصوم والعتق عن المسيس حكم عرفناه بالنص غير معقول المعنى؛ فلا يتعدى عنه إلى غيره، ويكون مثاله ما ذكر في قوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً. . .} الآية، على ما عرف في موضعه، والحاصل في المسألة طريقان: أحدهما: بحق القياس، والآخر: بحق الاحتياط. أما القياس ما ذكرنا أن قوله - تعالى -: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} لإخلاء الصوم عن المسيس عن خلال الكفارة، لكن إنما ذكر في الإعتاق والصوم دون الإطعام؛ فدلنا ذلك على أنه بيان تفصيل؛ فيكون دليلا على قصر الحكم على المنصوص، ومنع التعدية إلى غيره؛ لما هو علم أن العقول تقصر عن إدراك ذلك المعنى، فجعلنا نفي المسيس عن خلال الصوم والعتق واجبًا بالنص؛ حتى لا يكون كفارة بدونه، ولم يجعل في باب الإطعام شرطًا. وأما طريق الاحتياط، فهو أنه لما احتمل أن يكون لبيان الوقت أو لنفي المسيس عن خلال الصوم، فأخذ فيه بالاحتياط، وفي الإطعام أخذ بالقياس؛ لما أنه لم يذكر فيه المسيس، وذكره في الصوم والعتق لم يكن بيان كفاية حتى يكون ذكره ذكرا في الإطعام؛ بل هو بيان تفصيل وأن حكمه القصر على المنصوص دون التعدي، واللّه أعلم. وفي الآية دلالة لصحة مذهب أبي حنيفة - رحمه اللّه - في أن العتق يحتمل التجزئة، وهو أن يعتق بعضه، ويبقى الباقي بحاله ثم يعتقه بأوقات بعده؛ إذ قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، أي: تحرير رقبة بلا مماسة في التكفير، ولو كان بعض العتق يوجب عتق الكل لكان لا يفيد قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، ألا يقع العتق إلا قبل المماسة؛ فلما قال دل أنه أراد - واللّه أعلم - بألا تمسوهن عندما أعتقتم بعضه ولم تعتقوا الكل حتى يكمل ويتم فيه الإعتاق؛ ولهذا قال بأنه يلزمه الاستئناف في العتق كما في الصوم؛ فدل أن الإعتاق متجزئ، واللّه أعلم. ثم جعل الكفارة فيه ما ذكرنا، ولم يجعل الكفارة فيه التوبة والاستغفار فقط؛ لوجهين: أحدهما: أنه لو جعل توبته به لكان لا يظهر ذلك، وأنه أمر بينه وبين المرأة؛ فلا يدري أنه تاب أو لم يتب، وربما يظهر التوبة بالقول وإن لم يتب حقيقة بقلبه؛ فتتهمه المرأة؛ فجعل التوبة فيه أمرا ظاهرًا يعرف به توبته؛ دفعًا للتهمة عنه، وتسكينًا لقلب المرأة، واللّه أعلم. والثاني: أن اللّه جعل الاستمتاع في النكاح نعمة عظيمة؛ فتشبيهها بالمحرم الذي يتأبد حرمته: أمر فظيع، فلم يجعل له الخروج منه بشيء لا يثقل عليه فيقدم ثانيًا وثالثًا لخفة أمره عليه؛ بل جعل ما يتألم عليه ويشتد عليه زجرا له عن مثله في المستقبل ولغيره: كما في الزنى وغيره من الأجرام. ثم لم يجعل ملك اليمين للاستمتاع خاصة -وإن أبيح لهم ذلك- ولا جعل لهن قبل السادات حق الاستمتاع؛ فلم يصر تشبيههن بمن ذكر كفران نعمة عظيمة، ولا إبطال حق لهن قبل مواليهن؛ لذلك افترقا، واللّه أعلم. وقيل: إن الظهار كان طلاق قوم، فأبدل إلى تحريم المتعة، ولم يكن للإماء حظ من الطلاق، وهو الطلاق، ولم يكن لهن حظ من الذي صار وانتقل إليه. ولكن إن ثبت هذا كان طلاقًا يوجب حرمة لا ترتفع أبدًا، لا طلاقًا يوجب حرمة ترتفع بالنكاح، على ما تقدم ذكره. والإماء لم يكن لهن حظ من هذا التحريم؛ لعدم تصور ملك النكاح مع ملك اليمين، فأما لهن حظ من الحرمة المؤبدة بالمحرمية: فإن كان تلك الحرمة هي الأصل، وهن أصل لها، مع قيام ملك اليمين، يكن أهلا لما ينتقل إليه من الحرمة المؤقته؛ دل أن الطريق ما قلنا، واللّه أعلم. وفي الآية دلالة جواز تأخير البيان؛ لأن ذلك الرجل ظاهر من امرأته اشتد بهم الحاجة إلى معرفة ما يجب فيه من الأحكام، ثم تأخر نزول بيان ما يجب عليهم؛ فطلبوا من عند رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بيان الحكم؛ فدل أن البيان قد يجوز أن يتأخر عن وقت قرع الخطاب السمع؛ بخلاف الأولى؛ لأن في الأول قد ظهرت الحاجة واشتدت لوقوع النازلة وفي نزول العام الذي أريد به الخصوص لا وكذلك على هذا ما نزل من أحكام الإيلاء والقاذف زوجته بعد وقوع النازلة بأوقات، دليل على ما ذكرنا، واللّه أعلم. ثم جعل صيام شهرين بدلا عن العتق في كفارة الظهار والقتل وكفارة الإفطار في شهر رمضان، وجعل في كفارة اليمين صوم ثلاثة أيام بدلا عن العتق، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ}. صرح صاحب [(الواضح)] بأن قوله: {ذَلِكَ}، أي: ذلك أمرتم ونهيتم؛ {لِتُؤْمِنُوا}. ولكن عندنا تأويل قوله: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّه} هو صلة قوله - تعالى -: {قَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا. . .} الآية، يقول: أخبركم بما كان ذلك منكم في السر، وأطلعكم على ذلك؛ لتؤمنوا باللّه ورسوله، أي: لتصدقوا وتعلموا أنه لا يخفى على اللّه من أعمالكم شيء. ومنهم من قال: ذلك راجع إلى قوله: {وَاللّه يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} أي: ذلك الفرج والمخرج عما امتحنتم به من الحرمة وما اشتد عليكم؛ لتؤمنوا باللّه ورسوله لما فرج عنكم بالخروج بما ذكر، واللّه أعلم. ومنهم من قال: {ذَلِكَ}: القول المنكر الزور الذي قلتم وأعلمكم أنه منكر وزور؛ لتؤمنوا باللّه ورسوله؛ فيخرج ذلك على الأمر بالشكر له ما أنعم عليهم، وجعل لهم من الفرج والمخرج عما امتحنوا بأدائها، وهكذا العبادات التي أمروا بها: أمروا؛ لإحدى ثلاث خلال: إما بحق الشكر بما أنعم عليهم. أو لتسليم الأمر له والخضوع. أو لحق الاستغفار والتكفير بما سبق من التفريط والتقصير، واللّه أعلم. وجائز أن يكون قوله - تعالى -: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ} على غير هذا، أي: ذلك الذي أنزل؛ لتؤمنوا، أي: لتجددوا الإيمان باللّه - تعالى - ورسوله في كل وقت وكل ساعة؛ إذ يلزم الناس إحداث الإيمان، وتجديده لإحداث الرخص والعزائم التي تجددت واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللّه}. قيل: أي الذي افترضه اللّه عليكم من الأحكام، وقال الزجاج {حُدُودُ اللّه}، أي: موانع اللّه تعالى؛ لذلك سمي الحاجب: حدادًا؛ لأنه يمنع الناس منه. وعندنا قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللّه} أي: زواجر اللّه وموانعه، على معنى أنه يمنع كل شيء عن الدخول في حد الآخر يمنع الباطل عن الدخول في حد الحق والاختلاط به. وفي الآية دلالة خلق أفعال العباد؛ لأنه أضاف الفرائض، وهي الطاعات إلى نفسه بقوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللّه}، وأنها أفعال العباد؛ دل أن أفعال العباد كلها مخلوقة للّه - تعالى - وإنما خص هذه الأعمال بالإضافة إلى نفسه، مع أن جميع الأفعال مضافة إليه بخلقه إياها تبجيلا وتعظيمًا لها، كما قال اللّه - تعالى -: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للّه}، أضاف المساجد لنفسه؛ تبجيلا وتعظيمًا لها. وعلى هذا يخرج تأويل من قال في قوله: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا}، من نفسي؛ فكيف أظهرها لمن دونه أراد بهذه الإضافة تبجيلا وتعظيمًا لأمر الساعة؛ فكأنه يقول: إنما لم أظهر أمر الساعة لذلك الخلق الذي هو بهذه المنزلة، فكيف أظهرها لكم أي: لا أفعل ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. أي: للكافرين باللّه وبحدوده عذاب أليم في الآخرة؛ لأن عذاب الكفر إنما يكون في الآخرة عذابًا دائمًا لا انقضاء له، ولا قوة إلا باللّه. |
﴿ ٤ ﴾