٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّه وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللّه وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨).

وما نسق عليه من قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ. . .}،

وقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ. . .} الآيات ظاهر هذا يقتضي إيجاب حق لهم؛ لأنه إذا قيل: لفلان، لم يكن بد من أن يقال: كذا وكذا، وإذا كان كذلك لم يكن به من حق يذكر لهم، ولا يحتمل أيضًا أن يخفي اللّه - تعالى - علم ذلك الحق الذي أوجب لهذه الأصناف عن خلقه؛ فالسبيل في ذلك من جهة التأويل عندنا، واللّه أعلم.

ثم يحتمل أن يكون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن جوابه: لمن؟ قال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ}.

ويحتمل أن يكون الرسول سأل ربه - جل وعلا - عن جوابه: لمن؟ فأخبر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ}.

ثم إنه يجوز أن يكون ذلك الحق، هو ما وظف من الخراج على أهل القرية إذا فتحت وهو ما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال لعلي وابن مسعود - رضي اللّه عنهما - حين فتح سواد الكوفة: أني أستشيركم في أمر، قد أغناني اللّه - تعالى - عن مشورتكم حين تلوت هذه الآية، ثم تلا: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ}، ثم قال: لهَؤُلَاءِ خاصة، وتلا قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، ثم قال: ليس لهَؤُلَاءِ خاصة، وتلا قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ. . .}.

وروي أن بلالا قال له: اقسم بيننا كما قسم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خيبر بين أهل العسكر،

وقال: اللّهم اكفني بلالا وأهله. ثم قال عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " لو قسمتها بينكم لتركت آخر عصابة في الإسلام لم تصب من هذا، وأخبر اللّه بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} أنهم شركاء هَؤُلَاءِ؛ فجائز أن يكون عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - حين تلا هذه الآيات تذكر خبرا أخبر به رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فعلم أن الحق الذي أوجب اللّه - تعالى - لهَؤُلَاءِ ذلك.

أو يجوز أن يكون اللّه - تعالى - بلطفه ألهمه وعليا وابن مسعود - رضي اللّه عنهم - لأنه روي أنهما أشارا عليه بذلك؛ ولذلك قال أصحابنا: إن الإمام إذا افتتح قرية من قرى أهل الحرب فهو فيها بالخيار: إن شاء قسمها بين أهلها ووظف عليهم الخراج، وإن شاء قسمها بين أهل العسكر. وإنَّمَا كان كذلك؛ لأن المقصود من المقاتلة أحد معنيين: إما لتوسيع أمكنة الإسلام أن تضيق، أو يضيق المكان بهم؛ ليستسلموا لدين اللّه، وينقادوا لأمره، وينظروا في حججه، وليست مقاتلتهم عقوبة كفرهم؛ بل لما وصفنا من المعنى، وهذا المعنى قد يستفاد إذا وظف عليهم الخراج؛ فلذلك كان للإمام الخيار، واللّه أعلم.

ولو فهم بلال - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - المعنى الذي لأجله قسم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خيبر بينهم لم يقس سواد الكوفة عليه.

والمعنى من قسمته - عليه السلام - خيبر بينهم، عندنا - واللّه أعلم -: هو أن المسلمين لما صدوا عن البيت بالحديبية بشرهم اللّه - تعالى - بفتح قريب؛ عوضًا عما نالهم فيما أصابهم، وأما سواد الكوفة فلم يكن فيها شيء من هذا المعنى؛ فلم يجز أن يكون أمره مقيسًا عليه، واللّه أعلم.

وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} يحتمل أن يكون المراد منه المجاهدين المقاطعين لأسباب عيشهم من الأموال والديار، أي: لهم هذا الحق الذي سبق وصفه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}.

لم يخرجوهم من ديارهم في الحقيقة، ولكنهم ضيقوا عليهم حتى خرجوا، فإذن أضيف الإخراج إليهم؛ لما كانوا أسبابًا لخروجهم، وهذا كقوله - تعالى -: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}، وإبليس -عليه اللعنة- لم يتول إخراجهما من الجنة، ولكن حرضهما على سبب إتيانه؛ فلم يستقرا بعده في ذلك المكان؛ فأضيف الفعل إليه، وقد وصفنا أن هذه الأفعال إذا أضيفت إلى العباد فإنما معنى ذلك أسباب تكون منهم لا حقيقة تلك الأفعال، وما أضيف إلى اللّه - تعالى - من ذلك فهو يحتمل الأمرين جميعًا: الحقيقة والسبب في ذلك؛ لأجل أن العبد لا يمكنه أن يقدر آخر على فعل في وقت فعله إلا على التسبب، فأما رب العالمين فإنه قادر على إقدار العبد على فعل وقت فعله؛ فلذلك قلنا: إنه يجوز أن يراد حقيقة الفعل فيما يضاف إلى اللّه تعالى، وهو الموفق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ}.

يدل على أنه كانت لهم بمكةَ ديار وأموال، ثم مع هذا لم يرو عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رَدُّ شيء من ديارهم عليهم بعد فتح مكة، ولا تضمين أُولَئِكَ شيئًا من أموالهم؛ ليعلم أن أهل الحرب إذا غلبوا على أموال المسلمين ملكوها، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّه}.

يعني: أنهم هاجروا لدينهم، وانقطعوا عن أسباب عيشهم من الأموال؛ يبتغون الرزق من اللّه تعالى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَنْصُرُونَ اللّه وَرَسُولَهُ}.

دل أن هذا الحق للمجاهدين منهم، ثم قوله: {وَيَنْصُرُونَ اللّه}؛ يحتمل وجهين:

أحدهما: ينصرون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذكر (اللّه) صلة.

والثاني: ينصرون دين اللّه، ويطيعون رسوله، عليه السلام.

وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.

يعني: الذين أظهروا صدق الإيمان من قلوبهم؛ لهجرتهم لدينهم وسعيهم إلى ما يزلفهم إلى اللّه - تعالى - ويقرب إليه.

﴿ ٨