١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّه ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (١٣).

يحتمل أن يكون رهبة هَؤُلَاءِ في صدورهم على التحقيق، ويجوز أن تكون على التمثيل:

فأما وجه التمثيل فهو ما قال: {وَيَحْلِفُونَ بِاللّه إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}؛ فأخبر أنهم يعتذرون إليهم بالحلف؛ فيجوز أن يكون معاملتهم هذه -التمثيل- معاملة من يرهبهم؛ فسمى ذلك: رهبة في قلوبهم، وهذا نحو قوله - تعالى -: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ يعني: جمع ماله جمع من يحسب أن ماله أخلده؛ فكذلك الأول.

ويجوز أن يكون على التحقيق؛ ولذلك أوجه من التأويل:

أحدها: أنهم كانوا يظهرون الموالاة لكل فريق، وكان عندهم أن اللّه - تعالى - ولي أحد الفريقين لا محالة، وإذا نجا أحد الفريقين نجوا هم أيضًا؛ فكأنهم على هذا التأويل كانوا يرهبون الخلق جميعًا، لا أن يختص به المؤمنون، وكانوا لا يرهبون اللّه؛ لأنهم أمنوا ناحيته من الوجه الذي وصفنا.

ويجوز أن يكون رهبتهم من المؤمنين خاصة، وذلك أن أهل النفاق إنما كانوا من أحد الصنفين: أما إذا كانوا دهرية فنافقوا إذا كانوا أهل كتاب، وإن كانوا أهل كتاب فنافقوا، فإن كانوا دهرية فكانوا لا يرهبون اللّه - تعالى - لما كانوا غير مقرين بالصانع، وإن كانوا أهل كتاب، فإنهم قد أمنوا - أيضًا - لما كانوا يصفون من قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ}، وإذا سقطت الرهبة من كلا الجانبين من اللّه - تعالى - حصلت الرهبة من المؤمنين خاصة، واللّه أعلم.

ويجوز أن يكون تفسير قوله - تعالى -: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّه} في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}، وذلك يحتمل وجهين:

أحدهما: أنهم لا يفقهون أن البلايا التي في الدنيا ونعيمها تذكير لبلايا الآخرة ونعيمها، وكانوا يرون أنها جعلت لأنفسها، وإذا كان هذا وهمهم وحسبانهم لم يرهبوا من اللّه تعالى.

والثاني: أنهم قوم لا يفقهون من الوعد والوعيد؛ بل كانت رهبتهم ممن كانوا يأملون منهم المنافع ويحذرون مضارهم، فلا يرهبون من اللّه تعالى.

ولقائل أن يقول: إنه لا أحد من أهل الإسلام إلا ورهبته من الناس أشد من رهبة اللّه - تعالى - لأنك ترى الرجل يمتنع عن الزلة عند اطلاع الناس عليه ما لا يمتنع عن كثير من الزلات فيما بينه وبين اللّه تعالى.

والجواب عن هذا وجهان:

أحدهما: أنه ليس بإزاء الخوف من الإنسان رجاء يرجوه، وبإزاء رهبته من اللّه - تعالى - رجاء يرجوه من رحمته وفضله وإحسانه؛ فيجوز أن يكون الرجاء من رحمته وفضله يغلب عليه؛ فيقترف الذنوب ويرتكبها.

والوجه الثاني: إذا كان فيما يرتكبه من الذنب شرك فليس يهابهم، وإنَّمَا خوفه من قوم فيهم سمعة الصلاح وأمارة النصر لدين اللّه - تعالى - ليس من نفس المخلوقين، واللّه أعلم.

﴿ ١٣