١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللّه شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّه إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢).

المبايعة والهجرة كانتا واجبتين في عهد النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ومعناهما اليوم واجب أيضًا: وذلك أن الهجرة إنما كانت من مكة إلى المدينة؛ لما كان أحدهم إذا أسلم يخاف على نفسه من فساد الدِّين بالكفران لو أقام بين أظهرهم، وكان أيضًا يحتاج إلى علم الشرائع والأحكام، وإنما ارتفعت الهجرة اليوم من مكة إلى المدينة. فأما واحد من أهل الحرب إذا أسلم وخشي على نفسه فساد الدِّين بالكفران لو أقام بين أظهرهم، فالواجب عليه أن يهاجر منها إلى دار الإسلام؛ ليأمن فساد دينه، ويحصل على علم الشرائع.

وأما المبايعة فإن معناها في النساء: ترغيب الكفرة في الإسلام، وفي الرجال: حمل الكفرة إلى الإسلام، وذلك أن الذي أمر به النساء من المبايعة من مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، والكفرة إذا علموا أن هذا يؤمر فيه بمحاسن الأمور: رغبهم ذلك في الإسلام. والذي أمر به الرجال إنما هو من جهة النصر والمجاهدة مع النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك يظهر الإسلام ويبين، وهذان المعنيان على كل في نفسه في زماننا هذا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللّه شَيْئًا}

يتوجه إلى الاعتقاد والمعاملة جميعًا.

وقوله: {وَلَا يَسْرِقْنَ}.

يتضمن النهي عن الخيانة في الأموال كافة، والنقصان عن العبادة جملة؛ لأنه يقال: أسرقُ السارق من سرق من صلاته.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَزْنِينَ}.

يحتمل أن يكون على حقيقة الزنا وعلى دواعيه؛ على ما روي من قوله - عليه السلام -: " اليدان تزنيان، والعينان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ".

وقوله: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ}.

يحتمل أن يكون نهيًا عن إلحاق الولد بأزواجهن وهن يعلمن أنه من الزنا، وهكذا روي عنه ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللّه عَنْهُ.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}.

فكأنه أمرهن أن ينتهين عن هذه المناهي وأن يتبعن أمره؛ ألا ترى إلى قوله: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}، يجوز أن يكون هذا كناية عن الأمر؛ لأنه بين النواهي والمناكير، ثم قال اللّه - تعالى -: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}؛ فكأنه أمرهن أن ينتهين عن هذه المناهي وأن يتبعن أمره؛ ألا ترى إلى قوله: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّه}، ولم يقل هاهنا: امتحنوهن، كما قال في المهاجرات، ومعنى ذلك عندنا وجهان:

أحدهما: أنه قد تبين هاهنا وجه الامتحان بقوله: {لَا يُشْرِكْنَ بِاللّه شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ}، فاستغنى عن ذكر الامتحان.

والوجه الثاني: أن المهاجرات إنما كن يأتين من دار الحرب، ولم يكن علمن الشرائع؛ فاحتجن إلى الامتحان، وأما هَؤُلَاءِ: كن في دار الإسلام، وقد علمن شرائعه؛ فلم يذكر الامتحان لذلك، واللّه أعلم.

وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّه} هذا يدل على أن الكبائر لا تخرجهن عن الإيمان؛ لأنه يعلم أن الاستغفار لما يجيء منهن من تضييع هذه الحدود ولو كن يخرجن بتضييعها من الإيمان لم يؤمر النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالاستغفار لهن؛ لأن الاستغفار طلب المغفرة، ويستحيل أن يطلب منه مغفرة من ليس له غفران؛ فدل على ما وصفنا: أن ارتكاب الكبائر لا يخرج صاحبه من الإيمان، واللّه أعلم

﴿ ١٢