١٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَرَسُولِهِ}. الإيمان باللّه: أن يؤمن بأنه الواحد الأحد، الصمد الفرد، الذي لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ويؤمن بأن له الخلق والأمر، وأنه قادر لا يعجزه شيء، وعليم لا يخفى عليه شيء، وحكيم لا يخرج خلقه الأشياء المختلفة من السراء والضراء، والظلمة والنور، والمرض والصحة، عن حكمته. وأنه ليس كما قالت الثنوية: إن خالق الظلمة والشر والقبيح غير خالق النور؛ بل يعلمه أنه خالق كل شيء، سواء من ظلمة ونور، وشر وخير، وسقم وصحة. ولا على شبيه ما قالت المجوس: إن اللّه تعالى غفل غفلة فتولد منه الشيطان؛ بل هو لا يغفل عن شيء، ولا يخفى عليه شيء. ولا على ما قالت النصارى: حيث شبهوه بالخلق حتى أجازوا أن يكون له ولد. ولا على ما قالت القدرية: إنه لا يقدر شيئا من الشر والسقم والوجع. ولا على ما قالت المعتزلة: إنه ليس له في أفعال العباد صنع وتدبير؛ بل يعلمه عليما بكل شيء، قديرا على كل شيء، متعاليًا عن كل شيء من معاني الخلق، متنزها عن كل آفة وحاجة وعيب، فهذا هو الإيمان باللّه تعالى عندنا، واللّه تعالى أعلم. والإيمان بالرسول: هو أن يؤمن بأن ما جاء به - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وفهو حق وصدق. وقوله: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه}. هذا على وجهين: أحدهما: أن يقاتلوا أعداء اللّه تعالى. والثاني: أن يجاهدوا في طاعة اللّه تعالى، وفيما دعا إليه من الأمر بالجهاد ينصرف إلى أنواع أربعة: جهاد في سبيل اللّه بمقاتلة أعدائه، والاستقصاء في طاعته. وجهاد فيما بين الإنسان ونفسه أن يجاهد في قهرها ومنعها عن لذاتها وشهواتها، وعما يعلم أنه يهلكها ويرديها. وجهاد فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يدع الطمع فيهم، وأن يشفق عليهم ويرحمهم، وألا يرجوهم ولا يخافهم. وجهاد فيما بينه وبين الدنيا وهو أن يتخذها زادا لمعاده، أو مَرمَّة لمعاشه، ولا يأخذ منها ما يضره في عقباه. وكل هذه الأنواع يستقيم أن يسميها جهادا في سبيل اللّه. ثم إن هذه الآية تنتظم مسائل ثلاثًا: إحدها: أن كيف أمرهم بالإيمان بعد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؟ والثانية: أن كيف يرجى له النجاة إذا آمن باللّه ورسوله، ولم يجاهد في سبيل اللّه وقد أوجب عليه ذلك؟ والثالثة: أن كيف يخاف عليه العذاب إذا آمن باللّه ورسوله، وجاهد في سبيل اللّه، وأتى بالكبيرة مع قوله: {تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}؟ أما الجواب عن المسألة الأولى: أنه يحتمل أن يكون المراد من هذه الآية أهل النفاق؛ فيكون المعنى من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في الظاهر، {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، أي: تصدقون بقلوبكم. ويجوز أن تكون في أهل الكتاب أيضًا فكأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا بالكتب المتقدمة، آمنوا باللّه وبمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبهذا الكتاب. هذا إذا كان في الكفار. فأما إذا كان في المؤمنين يجوز أن يكون أمر بالإيمان من بعد ما آمنوا، بمعنى: الثبات عليه أو الزيادة وبحق التجدد، وأن الإيمان في حادث الأوقات له أسماء ثلاثة: الزيادة، والثبات، والتجدد؛ وذلك أن اللّه تعالى ذكر هذا النوع في كتابه مرة باسم الزيادة؛ حيث قال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}، ومرة باسم الثبات بقوله: {يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، ومرة بالإيمان بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه}. فإن كان على الزيادة والثبات، فذلك لطف من اللّه تعالى؛ وذلك أن الزيادة والثبات هما اسمان يطلقان على فعل دائم، وفعل الإيمان منقضٍ، ولكنه يجوز أن يكون اللّه تعالى بلطفه جعل المنقضي كالدائم؛ فيخرج هذا الفعل مخرج الزيادة والثبات، واللّه أعلم. وإن كان على التجدد في الأوقات الحادثة، فذلك مستقيم؛ وذلك لأن المرء منهي عن الكفر في كل وقت يأتي عليه إذا أتى بالإيمان في ذلك الوقت انتهى عن الكفر؛ فصار لإيمانه حكم التجدد، واللّه أعلم. |
﴿ ١٠ ﴾