٥وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّه لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥). ظاهر هذه الآية أن هذا القول منه إنما كان لجملة المنافقين، وكذلك قوله تعالى: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}. وروى في الخبر أن هذه الآية نزلت في عبد اللّه بن أبي ابن سلول المنافق؛ لأنه روي أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان كلما قام يوم الجمعة قام عبد اللّه بن أُبي ابن سلول في ناحية المسجد، وقال: هذا رسول اللّه، فوقروه، وعظموه، حتى نزلت هذه السورة، فقال بمثل مقالته، فقال له عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " اجلس يا كافر؛ فإن اللّه تعالى قد فضحك "، قال: فخرج من المسجد قبل أن يصلي الجمعة، فاستقبله بعض القوم فسألوه عن خروجه من المسجد قبل أداء الجمعة، فأخبرهم عن القصة، فقالوا: ارجع إلى رسول اللّه وسله أن يستغفر لك، فلوى رأسه وقال: ما لي إلى استغفاره حاجة. وروي أنه لما قال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}، ثم أراد دخول المدينة من بعد هذه المقالة، فحبسه ابنه وقال: لا أدعك تدخلها ما لم تقر أنك الأذل وأن رسول اللّه هو الأعز، فبلغ ذلك رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأمره أن يخلي عن أبيه، ثم قال له: " إنك أولى أن تسمى: عبد اللّه بن أبيك "، فسمى من بعد ذلك: عبد اللّه، وكان يسمى حبابًا. فهذان الخبران يدلان على أن هذه الآية إنما نزلت في واحد منهم، وظاهرها يدل على أن ذلك كان في جملة المنافقين. ولكن الوجه في ذلك عندنا - واللّه أعلم - أنه يجوز أن يكون اعتقاد جملتهم على ذلك، فذكرهم اللّه تعالى؛ لاعتقادهم عليه، وذلك أنهم كانوا أقوامًا لا يؤمنون بالآخرة. والاستغفار إنما هو طلب المغفرة، وذلك إنما يتحقق في الآخرة، فإذا كان على هذا أصل اعتقادهم جملة ذكرهم اللّه تعالى على ذلك؛ وكذلك قوله: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} كان عندهم أن اللّه تعالى إنما آتاهم العز والغناء والشرف؛ لفضيلة لهم على مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فكانوا ينكرون عليه من ذلك الوجه، ثم إن اللّه قد ذكر في هذه الآية أنباء أنه قد كان آتاهم جميع ما به العز والشرف في الدنيا؛ ليمتحنهم بحقوق هذه النعم وتعظيمها وشكرها، وأنهم بلغوا في كل ذلك غاية ما عليه عمل الكفرة في سوء الصحبة بالنعم، وذلك أنه لما قال: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}، دل أنه كان آتاهم حسن الصورة وحسن البيان، ولما قال: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّه حَتَّى يَنْفَضُّوا}؛ دل أنه قد كان آتاهم الغناء، ولما قال: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} دل أنه قد كان آتاهم العز والشرف، ومعلوم أن هذه الأسباب التي وصفنا هي أسباب العز والشرف في الظاهر، ثم أخبر أنهم تركوا شكر ما أنعم عليهم في تعظيم الحق ولم يؤدوا شكره، وأنهم بلغوا في الباطن في كل شيء من ذلك غايته في سوء الصنع؛ لأنه دل بقوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا} على غاية البخل؛ حيث امتنع عن الإنفاق بنفسه، وأمر غيره ألا ينفق أيضًا وذلك في غاية البخل، ولما قال: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}، فكأنهم كانوا في الغفلة عن ذكر اللّه وقبول الموعظة غايته، ولما قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّه لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} دل أنهم كانوا في الاستخفاف به -حيث تركوا الإنصاف، وأخذوا سبيل الاعتساف والاستكبار عليه- غايته، ولما قال: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} دل أنهم كانوا في سوء السريرة غايته. قال: ويجوز أن يقع ذلك منهم لوجهين: أحدهما: أنهم رأوا ذلك حقًّا لهم على اللّه تعالى. أو يروا أن اللّه تعالى آتاهم ذلك؛ تفضيلا لهم على غيرهم، فكانوا يتكبرون ويستعظمون على غيرهم، ويستخفون برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لذلك الوجه، ولم يتأملوا ولم يتفكروا فيتبين لهم أن اللّه تعالى آتاهم جميع تلك النعم محنة عليهم، تعبدهم بأداء شكرها وتعظيم حقها، وذلك معنى {لَا يَفْقَهُونَ} أي: لا يستعملون النظر في هذه النعم، وذلك أنه لو لم يكن رسول اللّه، كان يلزمهم أن يتأملوا فيما أوتوا من النعم وينظروا، فإذا تفكروا في ذلك، ولم يجدوا لهم عند اللّه صنعا استوجبوا به عنده مكافأة لذلك، ولا لهم فضل يفضلهم اللّه به على غيرهم؛ فكان يتبين لهم أن اللّه تعالى إنما أعطاهم هذه النعم محنة؛ ليتعبدهم بأداء شكرها؛ ولذلك وقع الفصل فيما بين العلم والفقه: أن ما كان حقه التأمل والنظر، فحق اللفظ فيه أن يقال: يفقهون، ولا يفقهون، وما كان حق العلم به السماع والخبر، أطلق فيه لفظ (العلم)؛ ولذلك قال عند العزة والغلبة والنصر: {لَا يَعْلَمُونَ}؛ لأنهم لم يكونوا يعلمون النصر والغلبة لو لم يكن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله: {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}، له وجهان: أحدهما: رأيتهم يصدون عن طاعتك واتباعك. والثاني: يصدون ضعفتهم عن اتباعك. |
﴿ ٥ ﴾