٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (٤). هذا يدل على أن المراد من الأقراء الحيض؛ وذلك لأن الأصل عندنا في الأصول أن الشيء متى ذكر باسم مشترك، ثم جرى البيان له عند ذكر البدل باسم خاص؛ دل على أن المراد من الاسم المشترك هذا الاسم الخاص المذكور عند البدل؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، وكان اسم الغسل مشتركا يتناول الماء وكل مانع، فلما قال عند ذكر البدل: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}، تبين أن المراد من ذلك الاسم المشترك هو هذا الاسم الخاص المذكور عند البدل، فكذلك الأول، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}. اختلفوا في قوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ}: أنه أريد به: إن ارتبتم في حيضهن أو في عدتهن؟ وعندنا الارتياب في عدتهن؛ لأنه لو كان المراد منه الارتياب في حيضهن، لكان من حق الكلام أن يقول: " إن ارتبتن " أو يقول: " واللائي ارتبن " ليكون منسوقا على قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} فلما قال: {ارْتَبْتُمْ} وثبت أن المراد: إن ارتبتم في عدة الآيسات والصغائر، فهي ثلاثة أشهر، واللّه أعلم. أو لأن المرتابة إذا رأت الحيض ارتفع ريبها، وصار عدتها بالحيض، وخرجت من ْالعدة بالشهور، وأما الآيسة والصغيرة؛ فإنه لا يتوهم عليهما ارتفاع الإياس والصغر؛ فيكون عدتهما بالأشهر؛ فلذلك قلنا: إن هذا الارتياب في عدة الآيسات والصغائر. ثم من قول أصحابنا: إن الرجل إذا طلق امرأته الآيسة أو الصغيرة أو الحامل للسنة يطلقها متى شاء، وليس له وقت معين في طلاقها للسنة، وإنما كان كذلك؛ لأنا قد وصفنا في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}: أن المراد منه: لقبل عدتهن، ومعلوم أن عدة التي ترى الحيض أحد شيئين: إما الدم ولم يعتبر ما يقابله وهو الطهر من العدة، وكذلك من جعل عدتها بالأطهار لم يعتبر ما يقابلها وهو الحيض من العدة، وإذا كان كذلك لم يكن بد من أن يكون هاهنا شيء يقابل عدتها؛ فثبت فيه معنى قبل عدتها؛ فجعل ذلك الطهر، وأما الآيسة والصغيرة والحامل فجميع أيامها من عدتها، وهي ثلاثة أشهر، وليس في أيامها شيء يقابل عدتها، فلذلك قلنا: إن له أن يطلقها في أي وقت شاء، وكذلك له أن يطلق الحامل التي من ذوات الأقراء؛ وذلك لأنه إنما نهي -عندنا- عن الطلاق على أثر الجماع في التي تحيض؛ لتوهم أن يكون الجماع أحبلها، فإذا طلقها ثم أراد نفي الحبل في العدة، لم يتهيأ له ذلك، وأما الآيسة والصغيرة والحامل، فليس فيهن هذا التوهم، واللّه أعلم. ثم إن هذه العدة وإن ذكرها في هذه السورة على أثر الطلاق الواحد؛ فكأنها في التطليقات الثلاث؛ لأن هذه العدة مكان العدة التي ذكر اللّه تعالى في سورة البقرة من قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}؛ لأنه ذكر هاهنا: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} على الإجمال وذكرها ثَمَّ على التفسير؛ فإذا التحق التفسير بالمجمل يصير في المعنى والحكم كأنه واحد، ومعلوم أن تلك في الواحدة والثلاث؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، وقوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} هي التطليقة الثالثة. وإذا كان الأمر على ما وصفنا، ثبت أن للمرء أن يطلق امرأته الحامل للسنة ثلاثا، واللّه أعلم. قال - رحمه اللّه -: في قوله: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} أوجه من الفقه: أحدها: أنه لما قال: {مِنْ بُيُوتِهِنَّ} دل أنه ألزمهن السكون في بيوتهن التي كن فيها في حالة قيام النكاح؛ فيكون دليلا لقول أصحابنا: إنه ليس للزوج أن يسكنها معه في بيته الذي هو فيه، بل يتركها في ذلك المسكن، وينتقل هو بنفسه إن كان يريد الانتقال؛ يصحح هذا قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} فلما أدخل حرف (من) في هذه الآية دل أن الواجب على الزوج أن يسكنها في بيت من بيوته، ولا يدخل عليها في ذلك البيت إلى أن تنقضي عدتها، واللّه أعلم. ثم المعنى عندنا في قوله: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ}؛ ليَحْصِنَّ ماءكم، ولا يخرجن؛ خوفا من وطء غير الأزواج واشتباه النسب لو حبلن، وإذا كان النهي عن إخراجها من البيت لهذا المعنى، لم يكن بد من إيجاب النفقة عليه؛ لأنها إنما تكتسب نفقتها بالخروج، فإذا نهيت عن الخروج؛ لتحصن ماءه، لم يحتمل أن تكون النفقة على غيره، واللّه أعلم. ثم قوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ}. روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: من شاء باهلته أن قوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} نزل بعد قوله في سورة البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}، وجعل عدة الحامل بوضع الحمل، ولا يعتبر أبعد الأجلين، لكن إن كان ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - يباهل، فعلي - رضي اللّه عنه - لا يباهَل، ويقول بأن قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ}، لا يجوز أن يدخل في قوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ}؛ وذلك لأن قوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} إنما ذكر في عدة الطلاق، وعدة الطلاق لا تتضمن عدة الوفاة إذا كانت بالحيض، لم تدخل عدة الطلاق في عدة الوفاة؛ ألا ترى أن من طلق امرأته وهي حائل ممن تحيض، ثم مات عنها زوجها قبل انقضاء عدتها، لم تدخل عدة الوفاة في الحيض الثلاث، بل الحِيَضُ هي التي تدخل في عدة الوفاة في الحيض، وتؤمر: أن تعتد بأبعد الأجلين، فكذلك أمر الحامل، وإذا اشتبه الحال أمرت فيه بالاحتياط أن تعتد بأبعد الأجلين، ولأن عدة الوفاة لم تلزم لوطء متقدم؛ ألا ترى أنها قد تلزم من لم يكن زوجها من أهل الوطء، وأما عدة الحبل والحيض، إنما لزمت لوطء متقدم، وإذا لم تكن عدة الوفاة من جنس العدة بالحبل، لم تدخل في عدة الحبل فلا نوجب فيها الاحتياط، وذلك في الاعتداد بأبعد الأجلين. ثم التخصيص بذكر الإنفاق على الحوامل يحتمل أن يكون بمعنى أنها في الحقيقة لا تدخل في قوله: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ}؛ لأنا قد وصفنا أنها إنما نهيت؛ لتحصين ماء الزوج، وإذا مضت تسعة أشهر، فقد خرجت عن التحصين، فكان الواجب أن تسقط النفقة بعد التسعة، لكن اللّه تعالى حث على الإنفاق في جميع المدة؛ لأنها لا محالة إنما بقيت في هذه المدة؛ لوطئه المتقدم؛ فلذلك حث اللّه تعالى في الإنفاق على الحوامل فيما يقع عندنا، واللّه أعلم. وأما ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - فإنه يجوز أن يكون قوله - تعالى -: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} عنده مبتدأَ خطاب، ليس بمعطوف على قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ}؛ لأنا نعلم أنه لا يجوز أن يقع الارتياب فيمن تحتمل القروء؛ وذلك لأن الأشهر في الآيسات إنما أقيمت مقام الأقراء في ذوات الحيض، وإذا كانت الحامل ممن تحتمل القروء لم يجز أن يقع لهم شك في عدتها؛ ليسألوا عن عدتها. وإذا كان كذلك، ثبت أنه خطاب مبتدأ، وإذا كان خطابا مبتدأ تناول العِدد كلها، ومما يدل على أنه مبتدأ خطاب ما روي في خبر سبيعة بنت الحارث الأسلمية: أنها وضعت بعد وفاة زوجها بخمس عشرة ليلة، فأمرها رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن تتزوج؛ فدل إباحته النكاح قبل مضي أربعة أشهر وعشر على أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل في جميع الأحوال. وقال الحسن: إن الحامل إذا وضعت أحد الولدين، انقضت عدتها، واحتج بقوله: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، ولم يقل: " أحمالهن "؛ ولكن لا يستقيم ما قاله؛ لوجهين أحدهما: أنه قرأ في بعض القراءات (أن يضعن أحمالهن). والثاني: أنه قال: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، ولم يقل: " يلدن "، بل علق بوضع حملهن، والحمل اسم لجميع ما في بطنهن، ولو كان كما قاله، لكان عدتهن بوضع بعض حملهن، واللّه تعالى جعل أجلهن أن يضعن حملهن، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يَتَّقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}. فقد وصفنا أن التقوى إذا ذكر مطلقًا مفردًا، تناول الأوامر والنواهي، فكأنه قال: ومن يتق اللّه في أوامره أن يضيعها أو في نواهيه أن يرتكبها، يجعل له من أمره يسرًا. ثم قوله: {يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}. له وجهان: أحدهما: له من أمره يسرًا في نفس التقوى أن نيسره عليه، كما قال في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}، وفي قوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}، يعني: ييسر عليه فعل التقوى والطاعة، فكذلك الأول. ويحتمل أن يكون في جميع الأمور في المكاسب والتجارات وغيرها: أن من اتقى اللّه من الحرام ييسر اللّه عليه الحلال، ومن اتقى اللّه من الشبه يسر عليه في المباح، ومن يتق اللّه في تجارته، رزقه ما يرجو من الربح ويأمله، وكذلك جميع الأمور على هذا السبيل، واللّه أعلم. |
﴿ ٤ ﴾