٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللّه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّه هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (٤).

في هذه الآية دلالة أن الحديث الذي أفشي كان بين زوجتين؛ لأن قوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللّه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ويدل على ذلك، فإنه كان أسر النبي - عليه السلا - عند إحداهما، ومنعها أن تفشي إلى الأخرى فأفشت، لكنا لا نعلم أن ذلك الحديث كان ماذا؟ لكنه كان منهما ما يجوز أن تعاتبا به وتدعيا إلى التوبة؛ لقوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللّه}، وإن خفي ذلك علينا، ثم إذا عرفنا أن اللّه - تعالى - جعل عقوبتهن وتأديبهن أشد من العقوبة على غيرهن بقوله: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}، فيجوز أن يندبن إلى التوبة بأدنى زلة حقها التجاوز عن غيرهن.

ثم قوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللّه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فجائز أن يكون قوله: (إِن) زيادة في الكلام، وحقه الحذف، فيكون معناه: توبا إلى اللّه؛ فقد صغت قلوبكما، ويوقف عليه ثم يبدأ بقوله: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ}.

وجائز أن يكون حقه الإثبات، فلا يكون حرف (إِن) زيادة، ويكون معناه: إن تتوبا

إلى اللّه، وإلا فإن اللّه هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين فيكون الجزاء فيه مضمرًا.

وجائز أن يكون جزاء صنيعهن أن يطلقهن، فكأنه قال: إن تتوبا إلى اللّه وإلا طلقكن، فيكون في هذا أنه حبب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إليهن حتى اشتد عليهن الطلاق، وخرج الطلاق مخرج العقوبة لهن على صنيعهن، واللّه أعلم.

وقوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}.

أي: مالت عن الحق الذي لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عليكما، وحق الرسول - عليه السلام - حق عظيم يرد فيه العتاب بأدنى تقصير.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ}.

هذا في الظاهر معاتبة؛ فينبغي أن يذكر على المخاطبة، فيقال: وإن تظاهرتما عليه، كما قال تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللّه}، قيل: جائز أن يكون معنى قوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللّه} تامًّا ورجعت على إرادة المعاتبة، وإن كان اللفظ لفظ المخاطبة، ولكن الصحيح: أن قوله: {وَإِنْ تَظَاهَرَا} على المخاطبة، معناه: وإن تتظاهرا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنَّ اللّه هُوَ مَوْلَاهُ}.

حق هذا أن يقف عليه ثم يقول: {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}؛ حتى لا يتوهم أن غير اللّه تعالى مولاه، ثم ذكر هذا إبلاغ في التهويل، وإلا فالواحد من هَؤُلَاءِ المذكورين يكفي لأزواج رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك في ذكر عقوبتهن إذا وجد منهن الخلاف في قوله: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}.

والأصل: أن المبالغة في التأديب مما يعين المؤدب على حفظ الحدود، وكذلك المجاوزة في حد العقوبة معونة له في تأديب النفس؛ حتى يملك حفظ نفسه عما تدعو إليه نفسه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}.

قيل: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}: أبو بكر وعمر - رضي اللّه عنهما - وذكر أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما طلق حفصة دخل عليها عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - فقال: " لو علم اللّه - تعالى - في آل عمر خيرا ما طلقك رسول اللّه "، فنزل جبريل - عليه السلام - على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

يأمره بمراجعتها، وذكر أنها صوامة قوامة؛ فجائز أن تكون حفصة - رضي اللّه عنها - تصوم النهار وتقوم الليل في غير نوبتها؛ فلا يعلم بذلك رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأطلعه جبريل - عليه السلام - على ذلك.

وروي عن أبي أمامة الباهلي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} أبو بكر وعمر "، رضي اللّه عنهما.

وقيل: هم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.

وذكر عن الحسن أنه قال: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} من لم يسر نفاقا ولا أظهر فسقا، ثم خص من المؤمنين الصالحين منهم، ولم يعم جملة المؤمنين، فهذا - واللّه أعلم - لأنه لو ذكر المؤمنين على الإجمال لدخل فيه الزوجان اللتان تظاهرتا؛ لأن إصغاء القلب لا يخرجهما عن أن تكونا من جملة المؤمنين؛ ولأنه ذكر هذا في موضع المعونة في أمر الدِّين، وصالح المؤمنين هم الذين يقومون بالمعونات في أمر الدِّين.

﴿ ٤