٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}.

يحتمل أن يكون معناه: قوا أنفسكم مما تدعو إليه أنفسكم؛ لأن الأنفس تأمرهم بالسوء وتدعوهم إليه؛ كما قال اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}.

وجائز أن يكون قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ}، أي: قوها عن الطريق الذي إذا سلكتموه أفضى بكم إلى النار، وقوا أهليكم - أيضًا - عن ذلك الطريق، وذلك يكون بالعمل؛ لأن العمل على ضربين: عمل يفضي بصاحبه إلى الجنة، وعمل يفضي بصاحبه إلى النار، فيكون التقوى في هذا الوجه راجعا إلى الأعمال، وفي الوجه الأول إلى الأنفس.

ويحتمل قوا أنفسكم باكتساب الأسباب التي هي أسباب النجاة عن العطب والهلاك، وأهليكم في أن تعلموهم الأسباب التي هي أسباب الخلاص من النار.

وقال مجاهد: تأويله: قوا أنفسكم وأهليكم النار، ثم علمنا وجه الاتقاء بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.

قال: من التضرع إليه والفزع لديه؛ ليكون هو بفضله يقي عنا النار؛ لما علم ألا نصل إليه بقوى أنفسنا وحيلنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}.

فهذا على المبالغة في وصف شدة النار، وأخبر أن شدتها تنتهي إلى هذا في أن صير الناس وقودا لها وكذلك الحجارة، والناس والحجارة لا يتقدان في النار؛ لأن النار إذا عملت في الإنسان حرقته ولم تبقه؛ فلا يصير وقودًا، وكذلك إذا أصابت الحجارة رضَّتها ولاشتها، فيكون فيه تبين شدتها؛ إبلاغا في الزجر.

وجائز أن يكون أريد بالحجارة: التي اتخذوها أصناما يعبدونها من دون اللّه، فكانوا يعبدونها لتنصرهم وتدفع عنهم العذاب؛ كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ}،

وقال: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أي: تصير عذابا عليها، وهم رجوا أن تكون سببا لخلاصهم؛ فصارت عليهم ضدًّا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ}.

فجائز أن يكون هذا وصفهم: أنهم خلقوا غلاظا شدادا.

وجائز أن يكونوا أشداء على الكفار وأعداء اللّه تعالى، رحماء على أوليائه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، فبين أن اشتدادهم؛ لمكان الأمر؛ وهو كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، وصفهم بالشدة على الكفرة وبالرحمة على المؤمنين؛ فجائز أن يكون الملائكة كذلك في الآخرة، وفي هذا دلالة أن الملائكة امتحنوا بالأمر والنهي في الآخرة؛ لأن ملائكة الرحمة امتحنوا بإتيان التحف والكرامات إلى أهل الجنة، وملائكة العذاب امتحنوا بتعذيب أهل النار وبالغلظة عليهم والشدة، وإذا أمر كل واحد من الفريقين بما ذكرنا، فقد نُهي عن تركه.

قال أبو بكر الأصم: في قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}، وفي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّه تَوْبَةً نَصُوحًا. . .} الآية إلزام الوعيد بأهل الصلاة لأنه ألزمهم الاتقاء من النار، وألزمهم التوبة؛ ليكفر عنهم سيئاتهم، ولو لم يكن الوعيد لازما عليهم لم يكونوا يحتاجون إلى الاتقاء، وهذا منه ومن جملة أهل الاعتزال تحريف الكلام عن مواضعه؛ لأن اللّه تعالى ذكر هذا الوعيد في أهل الإيمان بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}،

وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّه تَوْبَةً نَصُوحًا}، ولم يذكر اللّه - تعالى - أهل الصلاة، ولا ألحق بهم الوعيد، فهم يقطعون الوعيد عمن ألحق اللّه تعالى بهم الوعيد وهم المؤمنون، ويلزمونه على من لم يجر ذكره في القرآن من أهل الصلاة ولا ألحق به الوعيد، وهذا تحريف الكلام وقلب القصة؛ ولأنه صار من أهل الصلاة بإيمانه؛ إذ لولا إيمانه لما كان هو من أهل الصلاة، فإذا ألحقوا الوعيد بأهل الصلاة فقد ألحقوه بأهل الإيمان؛ فلم يبق بيننا وبينهم إلا سوء الخلق، وإلا فلا معنى لقلبه عن أهل الإيمان وإلحاقه بأهل الصلاة، وأهل الصلاة هم أهل الإيمان.

ثم الوعيد على قولهم إنما يلزم أهل الإيمان في وقت خروجهم من الإيمان، ونحن

نقول في الوعيد المذكور في أهل الإيمان: إنه يجوز أن يلحقهم وقت إيمانهم، ويعذبهم اللّه تعالى بإجرامهم.

ويحتمل أن يقع لهم الوعيد إذا خرجوا من الإيمان، وهم يقطعون الوعيد عن أحد الوجهين ويجعلونه على الوجه الآخر، ونحن نلزمهم الوعيد إذا خرجوا من الإيمان، أولا ننفي الوعيد عين لم يخرج بعد من إييانه، فصرنا نحن أشد استعمالا لما يقتضيه ظاهر الآيات منهم؛ فصار العموم حجة عليهم لا علينا، واللّه أعلم.

﴿ ٦