٨

وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّه تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللّه النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨).

ففي هذه الآية إلزام التوبة على بقاء اسم الإيمان؛ لأنه ألزمهم التوبة بعد أن سماهم مؤمنين، وأخبر أنه يكفر عنهم سيئاتهم بالتوبة، ومن مذهب الاعتزال: أن الصغائر مغفورة لأربابها إذا اجتنبوا الكبائر؛ فلا يحتاجون إلى التوبة عنها، وإذا كان كذلك فالآية في الكبائر عندهم، والكبائر تخرج أهلها -على قولهم- من الإيمان، واللّه - تعالى - قد أبقى لهم اسم الإيمان، فمن أزال عنهم الإثم، فقد خالف نص القرآن.

وإن زعموا أن الآية في الصغائر ففيه دلالة على أن اللّه تعالى يعذب على الصغائر وأنها

غير مغفورة، حتى وقعت لهم الحاجة إلى التوبة وطلب المغفرة، وقال أيضًا في آية أخرى: {وَتُوبُوا إِلَى اللّه جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فإما أن يكونوا أمروا بالتوبة عن الصغائر؛ فيكون فيه دلالة على أنها ليست بمغفورة؛ إذا احتاجوا إلى التوبة عن الصغائر، أو عن الكبائر؛ فيكون فيه دلالة بقائهم على الإيمان! وكذلك قال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، وإن كان استغفاره هذا عن الصغائر، ففيه دلالة على أنها غير مغفورة؛ لحاجته إلى طلب المغفرة، ولو كان الأمر على ما ظنت المعتزلة، لكان سؤاله المغفرة يخرج مخرج الاستهزاء برب العالمين؛ لأنه يطلب منه ما لا يملك، وذلك في الشاهد هزء واستخفاف بالمسئول.

وإن كان في الكبائر، ففيه دلالة بقائهم وثباتهم على الإيمان؛ لأنه قال: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}.

ثم قوله تعالى: {تَوْبَةً نَصُوحًا}.

قرئ بنصب النون وضمها: {نُصُوحًا}، والضم يخرج مخرج المصدر، والنصوح -بالفتح-: يخرج مخرج النعت للتوبة، والفَعُول من الأفعال هو اسم للمبالغة في الأمر، فكأنه يقول: توبوا توبة تناهت في نصحها، والمبالغة في النصح أن يكون صادقا في توبته، وعلامة الصدق أن يكون نادما بقلبه عما فعل، عازما على ألا يرجع إليه، وأن يقلع يديه عما كان فيه من المعاصي، وأن يستغفر اللّه بلسانه؛ فيستعمل كل جسده في الندم والانقلاع، كما استعمل سائره في التلذذ بالمآثم؛ فذلك هو المبالغة في النصح.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} بالتوبة، ففي هذا إبانة أن من السيئات سيئات لا تكفر إلا بالتوبة، ومنها ما يكفر باجتناب الكبائر بقوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}، لا أن يكفر كلها بالاجتناب عن الكبائر كما زعمت المعتزلة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.

وقد سبق بيان هذا.

وقوله - تعالى -: {وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.

وللمعتزلة بهذه الآية تعلق، وهو أن قالوا بأن اللّه تعالى أخبر أنه لا يخزي النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

والمؤمنين، والإخزاء يقع بالعذاب؛ فقد وعد ألا يعذب الذين آمنوا، ولو كان أصحاب الكبائر مؤمنين لم يخف عليهم العذاب؛ إذ قد وعد ألا يخزي المؤمنين ومن قولكم: إنهم يُخاف عليهم العقاب؛ فثبت أنهم ليسوا بمؤمنين.

ولكن نقول: إن هذا السؤال يلزمهم من الوجه الذي أرادوا إلزام خصومهم؛ لأن في الآية وعدا بألا يخزي الذين آمنوا، وهم مقرون بأن أهل الكبائر ممن قد آمنوا، ولكنهم بعد ارتكابهم الكبائر ليسوا بمؤمنين، والآية لم تنطق بنفي الإخزاء عن المؤمنين؛ لأنه لم يقل: يوم لا يخزي اللّه النبي والمؤمنين، وإنَّمَا قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}، وهم يقطعون القول بإخزاء من قد آمن؛ فصاروا هم المحجوجين بهذه الآية، ثم حق هذه الآية عندنا أن نقف على قوله: {النَّبِيَّ}، أي: لا يخزيه اللّه تعالى في أن يرد شفاعته أو يعذبه،

وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}، ابتداء كلام وخبره {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}؛ وهو كقوله - تعالى -: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}.

أو لا نخزي الذين آمنوا بعد شفاعة النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

ويحتمل أن الإخزاء هو الفضيحة، أي: لا يفضحهم يوم القيامة بين أيدي الكفار، ويجوز أن يعذبهم على وجه لا يقف عليه الكفرة، والخزي: هو الفضيحة، وهتك الستر، ولا يفعل ذلك بالمؤمنين بفضله، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}.

أي: بين أيديهم إذا مشوا، وبإيمانهم عند الحساب؛ لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم، وفيه نور وخير، أو يسعى النور بين أيديهم في موضع وضع الأقدام وبأيمانهم؛ لأن ذلك طريقهم وشمالهم طريق الكفرة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا}.

جائز أن يقولوا هذا عند انطفاء نور المنافقين؛ فيخافون انقطاع ذلك النور عنهم أيضًا.

أو يقولون هذا عند ضعف النور، فيسألونه إتمامه، واللّه أعلم.

﴿ ٨