١٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (١٢). فأخبر عنها بإحصانها فرجها، وذلك بالأسباب، وهي ما اتخذت بين نفسها وبين الناس حجابا؛ لئلا يقع بصر الناس عليها، ولا يقع بصرها عليهم لتصل به إلى تحصين فرجها؛ قال اللّه تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}، وهم إذا غضوا الأبصار، وصلوا إلى حفظ الفروج؛ ففي الحجاب غض البصر، وفي غض البصر وصول إلى حفظ الفرج وإحصانه، وقال في آية أخرى: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّه اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ}، وتطهيره إياها في أن طهرها من الفواحش والزنى، فأضاف الإحصان إليها في الآية الأولى، وأضاف التطهير هاهنا إلى نفسه، فوجه إضافة الإحصان إليها ما ذكرنا: أنها تكلفت الأسباب التي هي أسباب الموانع للزنى، الدواعي إلى الإحصان، وأضاف إلى نفسه التطهير؛ لأن وقوع ذلك وحصوله كائن به، ففيه دلالة أن كل فعل من أفعال العباد لا يخلو من أن يكون للّه - تعالى - فيه صنع وتدبير. وقوله - تعالى -: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا}. أي: خلقنا فيه ما به تحيا الصور والأبدان. وقوله: {فِيهِ}، أي: في عيسى، وقال في آية أخرى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا}، أي: في نفس عيسى - عليه السلام - والنفس مؤنث. ثم تشبيهه بالنفخ: أن الروح إذا خلق فيه انتشر في الجسد كالريح إذا نفخت في شيء انتشرت فيه. أو التشبيه بالنفخ لسرعة دخوله فيما نفخ فيه كالريح، واللّه أعلم. وقوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا}. فجائز أن يكون الكلمات هي التي بشرت بها مريم من قوله: {إِنَّ اللّه يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ}، وقوله: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ}، وقوله: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّه اصْطَفَاكِ}، وقوله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ}، فصدقت بجملتها أنها من عند اللّه، لا شيء ألقى إليها الشيطان. أو {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} أي: بحجج ربها وبراهينه؛ لقوله: {وَيُحِقُّ اللّه الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}، أي: بحججه: وأدلته. ثم تكون الحجج حجج البعث أو حجج الرسالة أو الوحدانية، أو يكون قوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا}، أي: بالكلمات التي يستعاذ بها من الشرور، فصدقت أنها تعيذ من تعوذ بها، واللّه أعلم. وقوله - تعالى -: {وَكُتُبِهِ}، وقرئ {وَكِتَابِهِ}. وفي تصديقها بالكتاب تصديق منها بالكتب؛ لأن من آمن بكتاب من كتب اللّه تعالى، فقد آمن بسائر كتبه؛ لأنها يوافق بعضها بعضًا، ومن آمن بكتبه فقد آمن بكل كتاب له على الإشارة إليه؛ فثبت أن في الإيمان بكتاب إيمانًا بسائر الكتب، فكل واحدة من القراءتين تقتضي معنى القراءة الأخرى؛ فإن قوله: [{وَكِتَابِهِ}] أي بالإنجيل، وقوله [{وَكُتُبِهِ}] أي: بالإنجيل وسائر الكتب المتقدمة المنزلة من عند اللّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}. قيل: من المصلين؛ لأنه قال في آية أخرى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}، وإذا وصف الصلاة، فالتزمت هذا الأمر؛ فصارت من القانتين. وقيل: أي: من المطيعين لربها، واللّه أعلم بالصواب. * * * |
﴿ ١٢ ﴾