٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنِ اعْبُدُوا اللّه وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) فكأنه قال: أنذرهم على عبادة غير اللّه، ومرهم بعبادة من يستحق العبادة، وهو اللّه تعالى؛ إذ الأمر بالإنذار يقتضي النهي عما هم عليه ويدعو إلى خلافه، وبين لهم الخلاف الذي دعوا إليه؛ لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اعْبُدُوا اللّه وَاتَّقُوهُ}.

وقيل: {اعْبُدُوا اللّه}، أي: وحدوه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل عبادة جرى بها الأمر في القرآن على الإرسال فهي منصرفة إلى التوحيد.

فكأن الذي حملهم على هذا التأويل هو أن الآيات التي فيها أمر بالعبادة نزلت في أهل الكفر؛ لأنه خاطب بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، ولم يخاطب بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: يا أيها الذين آمنوا اعبدوا ربكم، وإذا ثبت أنها في أهل الكفر، والكافر أول ما يؤمر يؤمر بالتوحيد ليس يخاطب بعبادة أخرى سواه؛ لأنه ما لم يأت بالتوحيد لم يقبل منه شيء من العبادات، فجعلوا تأويل العبادة التوحيد لهذا؛ لا أن يكون العبادة عبارة عن التوحيد خاصة، بل العبادة يراد بها التوحيد مرة إذا ذكرت عقيب الكفر، وإذا ذكرت في أهل الإيمان فالعبادة منهم أن يفوا بمعاملة ما اعتقدوه بالقول؛ وأن ينجزوا ما وعدوا من أنفسهم، وهذا كما ذكرنا في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: أنهما إذا ذكرتا في أهل الكفر، انصرف المراد من ذلك إلى الاعتقاد لا إلى الفعل؛ لأنهم ليسوا من أهل الفعل، وإذا ذكرتا في أهل الإسلام أريد بالإقامة والإيتاء إيجاد الفعل، فكذلك الحكم في العبادة بقوله: {اعْبُدُوا اللّه} أي: وحدوه واتقوه، أي: اتقوا الإشراك في عبادته، وأطيعوني فيما آمركم به من توحيد اللّه تعالى وألا تشركوا به شيئا.

وجائز أن يكون قوله: {وَاتَّقُوهُ}، أي: اتقوا المهالك كلها، واتقوا النار؛ كما قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، وقوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}، فالتقوى إذا ذكر على الانفراد مرسلا، اقتضى الانتهاء عما فيه الهلاك، واقتضى الأمر بالعبادة والطاعة، وإذا جمع بين العبادة والتقوى،

كانت العبادة منصرفة إلى إتيان الأفعال، وانصرف التقوى إلى اتقاء المهالك، وهو كما قلنا في البر والتقوى: إن كل واحد منهما إذا ذكر مفردا اقتضى ما يقتضيه الآخر، وإذا جمعا في الذكر، صرف أحدهما إلى جهة والآخر إلى جهة أخرى، وكذلك الإسلام والإيمان إذا أفرد بذكر أحدهما يكون معنى كل واحد منهما هو معنى الآخر، وإذا جمعا في الذكر صرف كل واحد منهما إلى جهة على حدة.

وقال الحسن في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّقُوهُ}، أي: اتقوا اللّه في حقه أن تضيعوه فهو يجمع ما يؤتى وما يتقى.

ثم الأصل أن الطاعة قد تكون لمن سوى اللّه، والعبادة لا تكون إلا للّه تعالى؛ فلذلك قال عند الأمر بالعبادة: {اعْبُدُوا اللّه}، فأضافها إلى اللّه تعالى، وأضاف الطاعة إلى نفسه بقوله: {وَأَطِيعُونِ}، ففيه دلالة أن ليس في الطاعة لآخر إشراك باللّه تعالى في الطاعة، بل اللّه تعالى جعل الإشراك في الطاعة بقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه}، وذم من يعدل باللّه تعالى في العبادة بقوله تعالى: {وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}، فالعبادة كأنها تقتضي الخضوع والتضرع على الرجاء والخوف، واللّه تعالى هو الذي يرجى منه ويخاف من نقمته، فأما الطاعة فهي تقتضي فعلا على الأمر لا غير؛ وعلى ذلك لما صرفت الكفرة الرجاء والخوف إلى الأصنام بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، وقولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}، سموا: عباد الأصنام، فكل من يفعل الفعل على الخوف والرجاء فذلك منه عبادة له.

﴿ ٣