٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللّه كَذِبًا (٥). ذكر أبو بكر الأصم أنهم كانوا اعتقدوا أن للّه تعالى صاحبة وولدا؛ بما سمعوا الجن والإنس يقولون ذلك، وكان عندهم أنهم في ذلك صادقون؛ فذلك المعنى هو الذي حملهم على القول بأن للّه تعالى ولدا وصاحبة؛ فلما ظهر عندهم كذب من يدعي اتخاذ الولد والصاحبة تبرءوا عمن يقول ذلك؛ فثبت بهذا أنهم كانوا أهل شرك إلى ذلك الوقت؛ فلما استمعوا إلى قراءة الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولاحت لهم الحجج، وارتفعت عنهم الشبه، آمنوا به، وتبرءوا عن مقالتهم المتقدمة. وقد يحتمل غير ما ذكره عنهم أبو بكر من التأويل، وهو أن القوم كانوا أنشئوا على الهدى والإيمان؛ فكانوا يظنون أن الجن والإنس على الهدى، وأنهم لا يكذبون على اللّه تعالى حتى ظهر عندهم كذب الإنس والجن، بقولهم: إن للّه ولدا وصاحبة. وجائز أن يكون معناه: إنا كنا نظن ألا تسخو نفس أحد من الممتحنين بالكذب على اللّه تعالى بما أراهم اللّه تعالى قبح الكذب، وقرر عندهم بالحجج والأدلة تنزيهه عن اتخاذ الأولاد والصاحبة؛ حتى ظهر عندهم ذلك بما أظهروه بألسنتهم. ثم الذي يدل على أن التأويل الذي ذكره أبو بكر ليس بمحكم: أنه قد كان في الجن والإنس مصدق يصف اللّه تعالى بالتنزيه، وقد كان فيهم من يقول بالولد والصاحبة؛ ألا ترى إلى قوله حكاية عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ}، وإلى قوله: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ}، ولا يحتمل أن يقع عندهم أن الفريقين جميعا على الصواب، ولكن كان في ظنونهم أن القوم جميعا على الهدى على ما هم عليه، فلما تبين عندهم الكذب من أُولَئِكَ قالوا هذا القول واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (١٣). ذكر أن الإنس، هم قوم من العرب كانت إذا نزلت بواد استجارت بسيد الوادي، وقالت: نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه. ثم اختلف بعد هذا: فمنهم من ذكر أنهم كانوا يجيرونهم. ومنهم من زعم أنهم كانوا لا يجيرونهم، وكان ذلك يزيد في رهق الإنس من الجن. وقالوا: الرهق: هو الخوف، والفرق؛ كذلك روي عن أبي رءوف. ومنهم من يقول: هو الذلة والضعف، فكانوا يزدادون الضعف والذلة والخوف والفرق بامتناعهم عن الإعاذة. ومنهم من يقول بأنهم كانوا يجيرون من استجارهم، ولكن مع هذا كانوا يفرقون منهم، ومن كيدهم في الأماكن التي لم يستجيروا فيها إليهم، وفي غير الأوقات التي وقعت فيها الإجارة. وعلى اختلافهم اتفقوا أن الجن هي التي كانت تزيد الإنس رهقا. وقيل بأن هذا الفعل من الإنس -وهو الاستجارة بهم- شرك؛ لأن اللّه تعالى هو المجير؛ فكان الحق عليهم أن يستجيروا باللّه تعالى؛ ليدفع عنهم مكايد الجن، وألا يروا لأنفسهم ناصرا غير اللّه تعالى، فإذا فزعوا في الاستجارة إلى الجن، فقد رأوا غير اللّه تعالى يقوم عنهم بالذب والنصر؛ فكان ذلك منهم شركا. ولأن الجن أضعف من الإنس؛ ألا ترى أنها تختفي من الإنس وتتصور بغير صورتها؛ فرقا؛ لئلا يشعر بها الإنس، وبلغ في ضعفها: أنها لا تقدر على إتلاف أحد من البشر، ولا تقدر على سلب أموالهم، ولا إفساد طعامهم وشرابهم، واستنصار القوي بالضعيف أداة الذلة؛ فيخرج تأويل من قال بأن الرهق هو الذلة والضعف على هذا. ومنهم من يقول بأن الإنس هي التي كانت تزيد الجن رهقا، وقال: الرهق: التجبر، والتكبر. وقيل: هو السفه والجهل. وقيل: هي المآثم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: هو العبث والظلم؛ يقال: فلان مرهق في دينه؛ إذا كان مفسدا. ووجه زيادة الرهق: هو أن الرؤساء من الجن كانوا يرون لأنفسهم الفضل على أتباعهم من الجن وعلى الإنس جميعا بما رأوا من افتقار الإنس إليهم حتى احتاجوا إلى الاستعاذة بهم؛ فكان يتداخلهم الكبر من ذلك، ويزدادون به تجبرا وتعظما؛ فكان ذلك يمنعهم عن النظر في حجج الرسل، وكذلك أكابر الكفرة من الإنس كانوا يمتنعون عن الإجابة لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما يرون لأنفسهم من الفضل على من سواهم؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا. . .} الآية. فمن زعم أن الرهق: هو الإثم، أو السفه، أو الجور والظلم، أو العبث - يرجع كله إلى هذا المعنى الذي ذكرنا؛ لأن سفههم هو الذي كان يحملهم على التجبر والتكبر؛ لأنه كان لا يستعيذ بهم إلا الجاهل السفيه، وليس في إعاذة الجاهل السفيه منقبة ما يتكبر لأجلها، وهم بتكبرهم ازدادوا إثما وبعدا من رحمة اللّه تعالى، واللّه أعلم. |
﴿ ٥ ﴾