| ١٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (١٣). فالهدى هو الدعاء إلى الحق، فيحتمل أن يكون لما دعينا إلى الحق -وهو القرآن- آمنا به؛ ألا ترى إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ}، أي: يدعو إليه، وقال اللّه تعالى في أول السورة: {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}. ويجوز أن يكون الهدى هو الاهتداء، أي: لما سمعنا ما به اهتدينا. وظن أبو بكر الأصم أنهم كانوا كفرة إلى أن سمعوا الهدى فآمنوا به؛ لأنه لو كانوا على الهدى من قبل لكان الإيمان منهم سابقا؛ فلا يكون لقوله: {آمَنَّا بِهِ} وقد آمنوا من قبل - معنى، وليس يثبت كفرهم بما ذكر؛ لأنه قد يجوز أن يكونوا على الإيمان فلما سمعوا الهدى، أحدثوا إيمانا بهذا الهدى على ما سبق منهم من الإيمان بالجملة؛ ألا ترى إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}، وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} أي: زادوا إيمانا؛ بالتفسير على ما سبق منهم من الإيمان بالجملة لأنهم لم يكونوا من قبل مؤمنين، فأحدثوه للحال، وكذلك قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وقد هدوا الصراط المستقيم، ولكنهم يريدون بهذا الدعاء أن اهدنا بالإشارة والتعيين إليه الصراط المستقيم على ما هديتنا في الجملة؛ فكذلك إحداثهم الإيمان بما سمعوا من الهدى لا ينفي عنهم الإيمان فيما سبق من الأوقات، بل يجوز أن يكونوا مؤمنين من قبل، ثم يحدثوا الإيمان بكل أمر يجيئهم من عند اللّه - عز وجل -، ولا يدل إيمانهم به على أنهم لم يكونوا من قبل مسلمين، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا}. قال - رحمه اللّه -: إنه لا أحد من أهل الإيمان من جني ولا إنسي يخاف البخس والرهق من اللّه تعالى إلا المعتزلة؛ فإنهم يخافون ذلك؛ لأنهم ليسوا يخرجون مرتكبي الكبائر من الإيمان، ثم يطلقون القول فيهم: إنهم يخلدون في النار، وفي التخليد خوف البخس والرهق، بل فيه ما يزيد على البخس؛ لأن البخس هو النقصان، وفي التخليد ذهاب منفعة الإيمان ومنفعة الخيرات التي سبقت منهم. وقال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، والمعتزلة تزعم أنه لو آخذهم بالخطأ والنسيان، كان جائرًا. وقال: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}، وهم يزعمون أنه لو أزاغ قلوبهم بعد الهدى، كان ذلك منه جورا وظلما، فهم أبدا على خوف من جور ربهم. ونحن نقول بأنه لو آخذهم به، كان يكون ذلك منه عدلا، وإذا عفا عنهم، كان ذلك منه إنعاما وإفضالا، فنحن ندعو اللّه تعالى، ونتضرع إليه ألا يعاملنا بعدله فنهلك، بل يعاملنا بالإفضال والإنعام. وعلى قول المعتزلة من ارتكب كبيرة، ردت عليه حسناته، وصار عدوًّا للّه تعالى، وخلد في النار أبد الآبدين، واللّه يقول: {إِنَّ اللّه لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا}، وأولى الحسنات التي يستوجب عليها المضاعفة هو الإيمان باللّه تعالى، فلا يجوز أن يخلد في النار، ويذهب عنه منفعة الإيمان، تعالى اللّه عما يقولون علوًّا كبيرا. ثم قوله: {بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} يحتمل وجهين: أحدهما: البخس: النقصان، أي: لا ينقص من حسناته، والرهق: الظلم؛ كقوله تعالى: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}، وأن يحمل عليه من سيئات ارتكبها غيره. والثاني: {فَلَا يَخَافُ بَخْسًا}، أي: ألا تقبل حسناته إذا تاب، {وَلَا رَهَقًا} أي: ظلم؛ فلا يحسب له من حسناته شيئا. | 
﴿ ١٣ ﴾