٢٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللّه وَرِسَالَاتِهِ ... (٢٣). فمنهم من جعل قوله: {إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللّه وَرِسَالَاتِهِ} استثناء من قوله: قل إني لا أملك لكم ضرًّا ولا رشدا إلا بلاغا من اللّه أي: إني لا أملك لكم هدايتكم ولا إضلالكم إلا ما كلفت لأجلكم من تبليغ الرسالة. ومنهم من جعل هذا استثناء من قوله: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللّه أَحَدٌ} إن عدلت عن أمره، ولم أبلغ الرسالة؛ فلا يجيرني من عذابه إلا أن أبلغ الرسالة؛ قال اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، وقال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ}. ولأنه لا يجوز أن تقع له الحاجة إلى الإجارة من عذاب اللّه تعالى، ولم يوجد منه تقصير ولا تضييع يستوجب به العقاب؛ فلا بد من أن يُمْكِن فيه ما ذكرنا من التقصير في التبليغ والعدول عما كلف؛ حتى يستقيم ذكر الإجارة فيه. وذكر أبو معاذ -صاحب التفسير-: أن الاستثناء راجع إلى قوله: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا}، ليس إلى قوله: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللّه أَحَدٌ}، واستدل على ذلك بقراءة عبد اللّه بن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه كان يقرأ: (قل إني لا أملك لكم غيًّا ولا رشدا إلا بلاغًا من اللّه)، وليس فيما ذكرنا قطع الاستثناء على قوله: قل إني لا أملك لكم ضرًّا ولا رشدا إلا بلاغا من اللّه؛ للوجه الذي ذكرنا. ولأن أكثر أهل التأويل أجمعوا على صرف الاستثناء إلى قوله: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللّه أَحَدٌ}؛ فلا يجوز أن يحمل قولهم على الخطأ بما ذكره أبو معاذ، وما ذهبوا إليه وجه الصحة والسداد. وجائز أن يكون البلاغ والرسالة واحدًا؛ فيكون قوله الذي يبلغ بلاغا من اللّه ورسالاته، ويكون ذلك على التكرار؛ وهو كقول {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، قيل: إنهما واحد. وجائز أن تكون الرسالة نفس ما أنزل، وهو الكتاب، والبلاغ ما أودع فيه من الحكمة والمعاني؛ وكذلك قيل في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}: إن الكتاب هو المنزل نفسه، والحكمة: ما تضمن فيه من المعاني. وجائز أن يكون البلاغ من اللّه تعالى منصرفا إلى حكمه، ورسالاته إلى غيره. أو تكون رسالاته حكمه، والبلاغ خبره؛ وهو كقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}: صدقا أخباره، وعدلا أحكامه، أو إبلاغا من اللّه حق اللّه عليهم ورسالاته بما به مصالحهم، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} قالوا: لا ملجأ وممالًا، أي: موضعا يمال إليه، والالتحاد الإمالة، سمي اللحد: لحدا من هذا؛ لأنه يمال عن سننه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، وقال في موضع آخر {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}، وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}، وكل من ارتكب المآثم، فقد دخل في حد العصيان وإيذاء الرسول، ولكن المراد هاهنا من يعتقد عصيان الرسول وأذاه؛ لأن اللّه تعالى أضاف الأذى والعصيان إلى نفسه، ولا أحد يقصد قصد أذى اللّه تعالى، واللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يؤذى، ولكن أضاف أذى الرسول وعصيانه إلى نفسه، وقد كانوا يعتقدون عصيانه وأذاه؛ فجعل عصيانهم وأذاهم لرسوله أذى منهم للّه تعالى وعصيانا له؛ فثبت أن هذا في الاعتقاد، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه}، وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}، فجعل طاعة الرسول طاعة له، وعصيان رسوله عصيانا له. ولأنه ذكر العصيان على أثر تبليغ الرسالة؛ فثبت أن العصيان هاهنا في ترك القبول لما أنزل على الرسول، وفي اعتقاد العصيان له. وروي عن أبي حنيفة - رحمه اللّه - أنه قال: من آمن باللّه تعالى، ولم يؤمن برسوله، فهو ليس بمؤمن؛ لأن جهله باللّه تعالى هو الذي حمله على تكذيب الرسول؛ لأن الرسول ليس يدعوه إلا إلى ما يقربه إلى اللّه تعالى، وإلى ما ينجيه من عذابه؛ فلو كان يحب اللّه تعالى، ويؤمن به، لكان يدعوه ذلك إلى حب الرسول، وإلى طاعته؛ فثبت أن المكذب للرسول جاهل بربه، والمطيع له مطيع للّه تعالى. |
﴿ ٢٣ ﴾