تفسير الماوردى

النكت والعيون

أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري

قضاة آخر الدولة العباسية

الماوردي الشافعي (ت ٤٥٠ هـ ١٠٥٨ م)

مقدمة المصنف

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي هدانا لدينه القويم ومن علينا بكتابه المبين ، وخصه بمعجز

دل على تنزيله ، ومنع من تبديله ، وبين به صدق رسوله ، وجعل ما استودعه على

نوعين : ظاهراً جلياً وغامضاً خفياً يشترك الناس في علم جلية ويختص العلماء

بتأويل خفية حتى يعم الإعجاز ، ثم يحصل التفاضل والامتياز .

ولما كان ظاهر الجلي مفهوما بالتلاوة ، وكان الغامض الخفي لا يعلم إلا من

وجهين : نقل واجتهاد جعلت كتابي هذا مقصورا على تأويل ما خفي علمه ،

وتفسير ما غمض تصوره وفهمه ، وجعلته جامعاً بين أقاويل السلف والخلف ،

وموضحاً عن المؤتلف والمختلف ، وذاكراً ما سنح به الخاطر من معنى يحتمل ،

عبرت عنه بأنه محتمل ، ليتميز ما قيلب مما قلته ويعلم ما استخرج مما استخرجته .

وعدلت عما ظهر معناه من فحواه اكتفاء بفهم قارئه وتصور تالية ، ليكون

أقرب مأخذاً وأسهل مطلباً .

وقدمت لتفسيره فصولا ، تكون لعمله أصولا ، يستوضح منها ما اشتبه

تأويله ، وخفي دليله ، وأنا أستمد اللّه حسن معونته ، وأسأله الصلاة على محمد

وآله وصحابته .

أسماء القرآن

سمى اللّه القرآن في كتابه بأربعة أسماء :

أحدها : القرآن ، قال اللّه عز وجل : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا الْقُرآنَ }.

والثاني : الفرقان قال اللّه تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } .

والثالث : الكتاب قال اللّه تعالى : { الْحَمْدُ للّه الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ }.

والرابع : الذكر قال اللّه تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ }.

فأمَّا تسميته بالقرآن ففيه تأويلان :

أحدهما : وهو قول عبد اللّه بن عباس ، مصدر من قولك قَرَأْتُ أي

بينت ، استشهاداً ب

قوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأَناهُ فَاتِّبِعْ قُرْآنَهُ }يعني إذا بيناه فاعمل

به .

والتأويل الثاني : وهو قول قتادة ، أنه مصدر من قولك قرأت الشيء ، إذا

جمعته وضممت بعضه إلى بعض ، لأنه آي مجموعة ، مأخوذ من قولهم : ما قرأت

هذه الناقة سلى قط ، أي لم ينضم رحمها على ولد ، كما قال عمرو بن كلثوم :

تريك إذا دخلت على خلاء

وقد أمنت عيون الكاشحينا

ذراعي عيطل أدماء بكر

هجان اللون لم تقرأ جنبينا

أي لم تضم رحما على ولد ، ولذلك سمي قرء العدوة قرءاً لاجتماع دم

الحيض في الرحم .

فأما تسيمته بالفرقان ، فلأن اللّه عز وجل فرق بين الحق والباطل ، وهو

قول الجماعة ، لأن أصل الفرقان هو الفرق بين شيئين .

وأمَّا تسميته بالكتاب ، فلأنه مصدر من قولك كتبت كتابا ، والكتاب هو خط

الكاتب حروف المعجم مجموعة ومتفرقة ، وسمي كتاباً وإن كان مكتوباً ، كما قال

الشاعر :

تؤمل رجعة مني وفيها

كتاب مثل ما لصق الغراء

يعني مكتوبا ، والكتابة مأخوذة من الجمع من قولهم : كتبت السقاء ، إذا

جمعته بالخرز قال الشاعر :

لا تأمنن فزاريا خلوت به

على قلوصك واكتبها بأسياد

وأما تسميته بالذكر ، ففيه تأويلان :

أحدهما : أنه ذكر من اللّه تعالى ذكر به عباده ، وعرفهم فيه فرائضه وحدوده .

والثاني : أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به ، وصدق بما جاء فيه ، كما قال

تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ } يعني أن شرف له ولقومه .

أما التوارة ، فإن الفراء يجعلها مشتقة من قولهم : وري الزند إذا خرج

ناره ، يريد أنها ضياء .

وأما الزبور ، فإنه مشتق من قولهم : زَبَرَ الكتاب يزبُره إذا كتبه ، ومنه قول

الشاعر :

عرفت الديار كرقم الكتا

ب يزبره الكاتب الحميري

وأما الإنجيل ، فهو مأخوذ من نجلت الشيء ، إذا أخرجته ، ومنه قيل لنسل

الرجل نجله ، كأنه هو استخرجهم ، قال الشاعر :

أنجبت أيام والديه معا

إذ نجلاه فنعم ما نجلا

فصل

روى أبو بردة ، عن أبي المليح ، عن واثلة بن الأسقع ، عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) أنه

قال : " أعطاني ربي مكان التوراة السبع الطول ، ومكان الإنجيل المثاني ، ومكان

الزبور المئين ، وفضلني ربي بالمفصل " .

فأما السبع الطول ، فالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف

ويونس ، في قول سعيد بن جبير ونحوه ، عن ابن عباس ، وهو الصحيح ،

وإنما سميت السبع الطول لطولها على سائر القرآن .

أما { المئون } فهي ما كان من سور القرآن عدد آية مائة آية أو تزيد عليها شيئاً

أو تنقص عنها شيئاً . وأما المثاني ، ففيها ثلاثة أقاويل :

أحدها : أنها السور التي عني اللّه فيها القصص والأمثال والفرائض

والحدود ، وهذا قول عبد اللّه بن عباس وسعيد بن جبير .

والثاني : أنها فاتحة الكتاب ، وهو قول الحسن البصري ، قال الراجز :

نشدتكم بمنزل القرآن

أم الكتاب السبع من مثاني

نثين من آي من القرآن

والسبع سبع الطول الدواني

والثالث : أن المثاني ما ثنيت المائة فيها من السور ، فبلغ عددها مائتي آية

أو ما قاربها ، فكأن المائتين لها أوائل ، والثاني ثواني ، وقال بعض الشعراء :

حلفت بالسبع اللواتب طولت

ومائتين بعدها قد أمنت

وبمثاني ثنيت وكررت

وبالطواسين التي قد ثلثت

وبالحواميم التي قد سبقت

وبالتفاصيل التي قد فصلت

وأما المفصل ، فإنما سمي مفصلا لكثرة الفصول التي بين سوره ، وهو بسم اللّه الرحمن الرحيم ، وسمي المفصل محكما ، لما قيل إنه لم ينسخ شيء منه .

واختلفوا في أول المفصل على ثلاثة أقوال :

أحدها : وهو قول الآكثرين : أنه سورة محمد ( صلى اللّه عليه وسلم ) إلى سورة الناس .

والثاني : من سورة ق إلى الناس ، حكاه عيسى بن عمر ، عن كثير من

الصحابة .

والثالث : وهو قول ابن عباس : من سورة الضحى إلى الناس ، وكان يفصل

في الضحى بين كل سورتين بالتكبير ، وهو رأي قراء مكة .

فصل

وأما السورة من سورة القرآن ، وتجمع سورا ففيها لغتان :

إحداهما : بهمز .

والأخرى : بغير همز .

فأما السورة بغير همز ، فهي المنزلة من منازل الارتفاع ، ومن ذلك سمي

سور المدينة لارتفاعه على ما يحويه ، ومنه قول نابغة بني ذبيان :

ألم تر أن اللّه أعطاك سورة

ترى كل ملك دونها يتذبذب

يعني منزلة من منازل الشرف ، التي قصرت عنها منازل الملوك ، فسميت

السورة لارتفاعها وعلو قدرها .

وأما السورة بالهمزة ، فهي القطعة ، التي قد فضلت من القرآن على سواها

وأبقيت منه ، لأن سؤر كل شيء بقيته بعدما يؤخذ منه ولذلك سمي ما فضل في

الإناء بعد الشرب منه سؤرا ، وقال النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) : " إذا شربتم فأسئروا " يعني

فأبقوا فضلة في الإناء ، ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة يصف امرأة فارقته ، فأبقت

في قلبه بقية من حبها :

فبانت قد أسأرت في الفؤا

د صدعا على نأيها مستطيرا

والأول من القولين أصح .

وأما الآية من القرآن ، ففيها تأويلان :

أحدهما : إنما سميت آية لأنها علامة يعرف بها تمام ما قبلها ، لأن الآية

العلامة ، ومنه قول اللّه تعالى : { ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عبدا لأولنا وآخرنا وآية منك } يعني علامة منك لإجابتك دعاءنا . وقال الشاعر ، وهو عبد بني الحسحاس :

ألكني إليها - عمرك اللّه - يا فتى

بآية ما جاءت إلينا تهاديا

والتأويل الثاني : أن الآية في كلامهم ، القصة والرسالة ، كما قال كعب بن زهير :

ألا أبلغا هذا المعرض آية

أيقظان قال القول أو قال ذو حلم

فيكون معنى الآية القصة ، التي تتلو قصة بفصول ورسول وأصول .

وروي أبو حازم ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) قال : { نزل القُرآن على سبعة أحرف ، والمراء في القرآن كفر } ثلاث مرات { ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم فردوه إلى عالمه }.

وروى محمد بن عمر ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { أنزل القرآن على سبعة أحرف ، عليم حكيم غفور رحيم }.

اختلف المفسرون في تأويل السبعة الأحرف ، التي نزل القرآن بها على أربعة أقاويل :

أحدها : معناه على سبعة معان ، وهي أمر ونهي ووعد ووعيد وجدل وقصص

ومثل .

روى عون ، عن أبي قلابة قال : بلغني أن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) قال : " أنزل

القرآن على سبعة أحرف : أمر ، ونهي ، وترغيب ، وترهيب ، وجدل ، ومثل ،

وقصص " .

والثاني : يعني سبع لغات مختلفة ، لا مما يغير حكماً في تحليل ولا

تحريم ، مثل هل وتعال وأقبل ، هي مختلفة ومعانيها مؤتلفة ، فكانوا في صدر

الإسلام مخَّيرين فيها ثم اجتمعت الصحابة ، عند جمع القرآن على أحدها ،

فصار ما أجمعوا عليه مانعاً مما أعرضوا عنه .

والثالث : يريد على سبع لغات من اللغات الفصيحة ، لأن بعض قبائل

العرب أفصح من بعض لبعدهم من بلاد العجم ، فكان من نزل القرآن بلغتهم من

فصحاء العرب سبع قبائل .

والرابع : يريد على سبع لغات للعرب في صيغة الألفاظ ، وإن وافقه في

معناه ، كالذي اختلف القراء فيه من القراءات واللّه أعلم .

فصل

فأما إعجاز القرآن الذي عجزت به العرب عن الإتيان بمثله ، فقد اختلف

العلماء فيه على ثمانية أوجه :

أحدها : أن وجه إعجازه ، هو الإعجاز والبلاغة ، حتى يشتمل يسير لفظه

على كثير المعاني ، مثل

قوله تعالى : { وَلَكُمْ في القِصَاصِ حَيَاةٌ } فجمع في

كلمتين ، عدد حروفهما عشرة أحرف ، معاني كلام كثير .

والثاني : أن وجه إعجازه ، هو البيان والفصاحة ، التي عجز عنها الفصحاء ،

وقصّر فيها البلغاء ، كالذي حكاه أبو عبيد ، أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ :

{ فاصدع بما تؤمر } فسجد ، وقال سجدت لفصاحة هذا الكلام ، وسمع آخر

رجلا يقرأ : { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِياً } فقال : أشهد أن مخلوقاً لا يقدر

على مثل هذا الكلام .

وحكى الأصمعي قال : رأيت بالبادية جارية خماسية أو سداسية وهي

تقول :

أستغفر اللّه لذنبي كله

قتلت إنسانا لغير حله

مثل غزال ناعم في دله

فانتصف الليل ولم أصله

فقلت لها : قاتلك اللّه ما أفصحك ، فقالت : أتعد فصاحة بعد قول اللّه عزَّ وجلَّ : { وَأْوْحَيْنَا إِلَى أُمَّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمَّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِ ] إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكَ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } فجمع في آية واحدة ،

بين أمرين ، ونهيين ، وخبرين ، وإنشاءين .

والثالث : أن وجه إعجازه ، هو الوصف الذي تنقضي به العادة ، حتى صار

خارجا عن جنس كلام العرب ، من النظم ، والنثر ، والخطب ، والشعر ،

والرجز ، والسجع ، والمزدوج ، فلا يدخل في شيء منها ولا يختلط بها ، مع كون

ألفاظه وحروفه في كلامهم ، ومستعمله في نظمهم ونثرهم .

حكي أن ابن المقفع طلب أن يعارض القرآن ، فنظم كلاما ، وجعله

مفصلا ، وسماه سورا ، فاجتاز يوما بصبي يقرأ في مكتب : { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِيِ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } فرجع ، ومحا ما عمل ، وقال : أشهد أن

هذا لا يعارض أبدا ، وما هو من كلام البشر ، وكان فصيح أهل عصره .

والرابع : أن وجه إعجازه ، هو أن قارئه لا يكل ، وسامعه لا يمل ، وإكثار

تلاوته تزيده حلاوةً في النفوس ، وميلاً إلى القلوب ، وغيره من الكلام ، وإن كان

مستحسن النظمن مستعذب النثر ، يمل إذا أعيد ويستثقل إذا ردد .

والخامس : أن وجه إعجازه ، هو ما فيه من الإخبار بما كان مما علموه ، أو

لم يعلموه ، فإذا سألوا عنه ، عرفوا صحته ، وتحققوا صدقه ، كالذي حكاه من

قصة أهل الكهف ، وشأن موسى والخضر ، وحال ذي القرنين ، وقصص الأنبياء مع

أممها ، والقرون الماضية في دهرها .

والسادس : أن وجه إعجازه ، هو ما فيه من علم الغيب ، والإخبار بما

يكون ، فيوجد صدقه وصحته ، مثل قوله لليهود : { قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللّه خَالِصَةً مِّنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادقِينَ } ثم قال :

{ وَلَنْ يَتَمَنَّمْوهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أيدِيِهِمْ } فما تمناه واحد منهم ، ومثل قوله تعالى

لقريش : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا } فقطع بأنهم لا يفعلون ، فلم يفعلوا .

والسابع : أن وجه إعجازه ، هو كونه جامعاً لعلوم لم تكن فيهم آلاتها ، ولا

تتعاطى العرب الكلام فيها ، ولا يحيط بها من علماء الأمم واحد ، ولا يشتمل

عليها كتاب وقال تعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } وقال : { تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ } وقال النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) : " فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم هو الحق ليس بالهزل

من طلب الهدى من غيره ضل " وهذا لا يكون إلا عند اللّه الذي أحاط بكل

شيء علماً .

والثامن : أن إعجازه هو الصرفة ، وهو أن اللّه تعالى صرف هممهم عن

معارضته مع تحديهم أن يأتوا بسورة من مثله ، فلم تحركهم أنفه التحدي ، فصبروا

على نقص العجز ، فلم يعارضوه ، وهم فصحاء العرب مع توفر دواعيهم على

إبطاله ، وبذل نفوسهم في قتاله ، فصار بذلك معجزا لخروجه العادة كخروج سائر

المعجزات عنها .

واختلف من قال بهذه الصرفة على وجهين :

أحدهما : أنهم صرفوا عن القدرة عليه ، ولو تعرضوا لعجزوا عنه .

والثاني : أنهم صرفوا عن التعرض له ، مع كونه في قدرتهم ولو تعرضوا له

لجاز أن يقدروا عليه .

فهذه ثمانية أوجه ، يصح أن يكون كل واحدٍ منها إعجازاً ، فإذا جمعها

القرآن وليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزاً بأولى من غيره ، صار إعجازه من

الأوجه الثمانية ، فكان أبلغ في الإعجاز ، وأبدع في الفصاحة والإيجاز .

فصل

وإذا كان القرآن بهذه المنزلة من الإعجاز في نظمه ومعانيه ، احتاجت ألفاظه

في استخراج معانيها إلى زيادة التأمل لها وفضل الرويَّة فيها ، ولا يقتصر فيها على

أوائل البديهة ، ولا يقنع فيها بمبادئ الفكرة ، ليصل بمبالغة الاجتهاد وإمعان النظر

إلى جميع ما تضمنته ألفاظه من المعاني واحتملته من التأويل ، لأن الكلام الجامع

وجوهاً ، قد تظهر تارة ، وتغمض أخرى ، وإن كان كلام اللّه منزها من الآفتين :

الفكر والروية ، ليعمل فيما احتمله ألفاظه من المعاني المختلفة ، غير ما سنصفه

من الأصل المعتبر في اختلاف التأويل عند احتمال وجوده .

وقد روى سهل بن مهران الضبعين عن أبي عمران الجوني ، عن جندب بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : " من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ " فتمسك فيه بعض المتورعة ممن قلت في العلم طبقته ،

وضعفت فيه خبرته ، واستعمل هذا الحديث على ظاهرهن وامتنع أن يستنبط معاني

القرآن باجتهاده ، عند وضوح شواهده ، إلا أن يرد بها نقل صحيح ، ويدل عليها

نص صريح ، وهذا عدول عما تعبّد اللّه تعالى به خلقه في خطابهم بلسان عربي

مبين ، قد نبه على معانيه ما صرح من اللغز والتعمية ، التي لا يوقف عليها إلا

بالمواضعة إلى كلام حكيم ، أبَان عن مراده ، وقطع أعذار عباده ، وجعل لهم سبلا

إلى استنباط أحكامه ، كما قال اللّه تعالى : { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ولو كان

ما قالوه صحيحاً ، لكان كلام اللّه غير مفهوم ، ومراده بخطابه غير معلوم ، ولصار

كاللغز المعمَّى ، فبطل الاحتجاج به ، وكان ورود النص على تأويله ، مغنياً عن

الاحتجاج بتنزيله ، وأعوذ باللّه من قول في القرآن يؤدي إلى التوقف عنه ، ويؤول

إلى ترك الاحتجاج به .

ولهذا الحديث - إن صح - تأويل ، معناه : أن من حمل القرآن على رأيه ،

ولم يعلم على شواهد ألفاظه ، فأصاب الحق ، فقد أخطأ الدليل .

وقد روى محمد بن عثمان ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قال :

قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : " القرآن ذلول ذو وجوه فاحْمِلُوهُ عَلَى أحسن وجوهه " .

وفي قوله : " ذلول " تأويلان :

أحدهما : أنه مطيع لحامليه ، حتى تنطلق فيه جميع الألسنة .

والثاني : أنه موضع لمعانيه ، حتى لا تقصر [ عنه ] أفهام المجتهدين فيه .

وفي قوله : " ذو وجوه " تأويلان :

أحدهما : أن ألفاظه تحمل من التأويل وجوها لإعجازه .

الثاني : أنه قد جمع من الأوامر ، والنواهي ، والترغيب ، والتحليل ،

والتحريم .

وفي قوله : " فاحملوه على أحسن وجوهه " تأويلان :

أحدهما : أن تحمل تأويله على أحسن معانيه .

والثاني : أن يعمل بأحسن ما فيه ، من العزائم دون الرخص ، والعفو دون

الانتقام ، وهذا دليل على أن تأويل القرآن مستنبط منه .

فصل

فإذا صح جواز الاجتهاد في إستخراج معاني القرآن من فحوى ألفاظه ،

وشواهد خطابه ، فقد قسم عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه وجوه التفسير على

أربعة أقسام : فروى سفيان ، عن أبي الزناد قال ابن عباس : " التفسير على

أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب بكلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير

يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا اللّه عز وجل " وهذا صحيح .

أما الذي تعرفه العرب بكلامها ، فهو حقائق اللغة وموضوع كلامهم .

وأما الذي لا يعذر أحد بجهالتهن فهو ما يلزم الكافة في القرآن من الشرائع

وجملة دلائل التوحيد .

وأما الذي يعلمه العلماء ، فهو وجوه تأويل المتشابه وفروع الأحكام .

وأما الذي لا يعلمه إلا اللّه عز وجل ، فهو ما يجري مجرى الغيوب وقيام

الساعة .

وهذا التقسيم الذي ذكره ابن عباس صحيح ، غير أن ما لا يعذر أحد بجهالته

داخل في جملة ما يعلمه العلماء من الرجوع إليهم في تأويله ، وإنما يختلف

القسمان في فرض العلم به ، فما لا يعذر أحد بجهله يكون فرض العلم به على

الأعيان ، وما يختص بالعلماء يكون فرض العلم به على الكفاية ، فصار التفسير

منقسما على ثلاثة أقسام :

أحدهما : ما اختص اللّه تعالى بعلمه ، كالغيوب فلا مساغ للإجتهاد في تفسيره

ولا يجوز أن يؤخذ [ إلا ] عن توقيف ، من أحد ثلاثة أوجه :

إما من نصٌّ في سياق التنزيل .

وإما عن بيان من جهة الرسول .

وإما عن إجماع الأمة على ما اتفقوا عليه من تأويل .

فإن لم يرد فيه توقيف ، علمنا أن اللّه تعالى أراد لمصلحة استأثر بها ، ألاَّ يطلع عباده على غييه .

والقسم الثاني : ما يرجع فيه إلى لسان العرب ، وذلك شئيئان ، اللغة

والإعراب :

فأما اللغة ، فيكون العلم بها في حق المفسر دون القارئ ، فإن كان مما

[ لا ] يوجب العمل ، جاز أن يعمل فيه على خبر الواحد والإثنين ، وأن يستشهد

فيه من الشعر بالبيت والبيتين ، وإن كان مما يوجب العمل ، لم يعمل فيه على خبر

الواحد والإثنين ، ولا يستشهد فيه بالبيت والبيتين ، حتى يكون نقله مستفيضًا ،

وشواهد الشعر فيه متناصرة .

وقد روى أبو حاضر ، عن ابن عباس : أن رجلا سأل النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، أي

علم القرآن أفضل ؟ قال : " غريبه ، فالتمسوه في الشعر " . وإنما خص

الغريب لاختصاصه بإعجاز القرآن ، وأحال عن الشعر لأنه ديوان كلامهم ،

وشواهد معانيهم ، وقد قال ابن عباس : " إذا أشكل عليكم الشيء من كتاب اللّه ،

فالتمسوه في الشعر ، فإن الشعر ديوان العرب .

وأما الإعراب ، فإن كان اختلافه موجبا لاختلاف حكمه وتغيير تأويله ، لزم

العلم به في حق المفسر وحق القارئ ، ليتوصل المفسر إلى معرفة حكمه ،

ويسلم القارئ من لحنه ، وروي عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، أنه قال : " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه " .

وإن كان اختلاف إعرابه لا يوجب اختلاف حكمه ، ولا يقتضي تغيير تأويله ،

كان العلم بإعرابه لازماً في حق القارئ ليسلم من اللحن في تأويلاته ، ولم يلزم في

حق المفسر لوصوله مع الجهل بإعرابه إلى معرفة حكمه ، وإن كان الجهل بإعراب

القرآن نقصاً عامّاً .

والقسم

الثالث : ما يرجع فيه إلى اجتهاد العلماء ، وهو تأويل المتشابه ،

واستنباط الأحكام ، وبيان المجمل ، وتخصيص العموم ، والمجتهدون من علماء

الشرع أخص بتفسيره من غيرهم حملاً لمعاني الألفاظ على الأصول الشرعية ،

حتى لا يتنافى الجمع بين معانيها وأصول الشرع ، فيعتبر فيه حال اللفظ ، فإنه ينقسم

قسمين :

أحدهما : أن يكون مشتملاً على معنى واحد لا يتعداه ، ومقصوراً عليه ولا

يحتمل ما سواه ، فيكون من المعاني [ الجلية ] والنصوص الظاهرة ، التي يعلم

مراد اللّه تعالى بها قطعا من صريح كلامه ، وهذا قسم لا يختلف حكمه ولا يلتبس

تأويله .

والقسم الثاني : أن يكون اللفظ محتملاً لمعنيين أو أكثر ، وهذا على ضربين :

أحدهما : أن يكون أحد المعنيين ظاهراً جليًّا ، والآخر باطناً خفيّاً ، فيكون

محمولاً على الظاهر الجلي دون الباطن الخفي ، إلا أن يقوم الدليل على أن الجليَّ

غيرُ مُرَادٍ ، فيحمل على الخفي .

والضرب الثاني : أن يكون المعنيان [ جليَّين ، واللفظ مستعملاً فيهما

حقيقةً ، وهذا على ضربين :

أحدهما : أن يختلف أصل الحقيقة فيهما ، فهذا ينقسم على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكون أحد المعنيين مستعملاً في اللغة ، والآخر مستعملاً في

الشرع ، فيكون حملُه على المعنى الشرعيِّ أولى من حملِهِ على المعنى اللَّغَويِّ ، لأن الشرع ناقل .

والقسم الثاني : أن يكون أحد المعنيين مستعملاً في اللغة ، والآخر مستعملاً

في العرف ، فيكون حمله على المعنى العرفي أولى من حمله على معنى اللغة ، لأنه أقرب معهود .

والقسم

الثالث : أن يكون أحد المعنيين مستعملاً في الشرع ، والآخر

مستعملاً في العرف ، فيكون حمله على معنى الشرع أولى من حمله على معنى

العرف لأن الشرع ألزم .

والضرب الثاني : أن يتفق أصل الحقيقة فيهما فيكونا مستعملين في اللغة

على سواء ، أو في الشرع ، أو في العرف فهذا على ضربيين :

أحدهما : أن يتنافى اجتماعهما ولا يمكن استعمالهما كالأحكام الشرعية مثل

القرء الذي هو حقيقة في الطهر ، وحقيقة في الحيض ، ولا يجوز للمجتهد أن

يجمع بينهما ، لتنافيهما ، وعليه أن يجتهد رأيه في المراد فيهما بالأمارات الدالة

عليه ، فإذا وصل إليه ، كان هو الذي أراده اللّه تعالى منه ، وإن أدى اجتهاد غيره

إلى الحكم الآخر ، كان هو المراد منه فيكون مراد اللّه تعالى من كل واحد منهما ، ما أداه اجتهاده إليه .

ولو لم يترجح للمجتهد أحد الحكمين ، ولا غلب في نفسه أحد المعنيين

لتكافؤ الأمارات عنده ، فقيه للعلماء مذهبان :

أحدهما : أن يكون مخيراً ، للعمل في العمل على أيهما شاء .

والضرب الثاني : أن يأخذ بأغلظ المذهبين حكماً .

والضرب الثاني من اختلاف المعنيين : ألا يتنافيا ويمكن الجمع بينهما فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يتساويا ، ولا يترجح أحدهما على الآخر بدليل ، فيكون

المعنيان معاً مرادين ، لأن اللّه تعالى لو أراد أحدهما النصب على مراده منهما

دليلاً ، وإن جاز أن يريد كل واحد من المعنيين بلفظين متغايرين لعدم التنافي

بينهما ، جاز أن يريدهما بلف واحد ، يشتمل عليهما ، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة .

والضرب الثاني : أن يترجح أحدهما على الآخر بدليل ، وهو على ضربين :

أحدهما : أن يكون دليلاً على بطلان أحد المعنيين ، فيسقط حكمهن ويصير

المعنى الآخر هو المراد ، وحكمه هو الثابت .

والضرب الثاني : أن يكون دليلاً على صحة أحد المعنيين فيثبت حكمه

ويكون مراداً ولا يقتضي سقوط المعنى الآخر ، ويجوز أن يكون مراداً ، وإن لم

يكن عليه دليل ، لأن موجب لفظه دليل ، فاستويا في حكم اللفظ ، وإن ترجح أحدهما بدليل ، فصارا مرادين معاً .

وذهب بعض أهل العلم إلى أن المعنى الذي يرجح بدليل أثبت حكماً من

المعنى الذي تجرد عنه ولقوته بالدليل الذي ترجح به ، فهذا أصل يعتبر [ من ]

وجود التفسير ، ليكون ما احتمله ألفاظ القرآن من اختلاف المعاني محمولاً عليه ، فيعلم ما يؤخذ به ويعدل عنه .

فإن قيل : فقد ورد الخبر بما يخالف هذا الأصل المقرر ، وهو ما روي عن

النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، أنه قال : " ما نزل القرآن من آية إلا لها ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع " قيل ليس هذا الحديث - مع كونه من أخبار الآحاد -

منافيا لما قررناه من الأصول المستمرة ، لما فيه من التأويلات المختلفة .

أما قوله : " ما نزل من القرآن من آية إلا لها ظهر وبطن " ففيه أربعة

تأويلات :

أحدها : معناه أنك إذا فتشت عن باطنها وقسته على ظاهرها ، وقفت على معناها ، وهو قول الحسن .

والثاني : يعني أن القصص ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين ، وباطنها عظة

للآخرين ، وهذا قول أبي عبيد .

والثالث : معناه ما من آية إلا وقد عمل بها قوم ، ولها قوم سيعملون بها ، وهذا قول ابن مسعود .

والرابع : يعنى أن ظاهرها لفظها ، وباطنها تأويلها ، وهذا قول الجاحظ .

وأما قوله : " ولكل حرف حد " ففيه تأويلان :

أحدهما : معناه أن لكل لفظ منتهى ، فيما أراده اللّه تعالى من عباده .

والثاني : أن لكل حكم مقدارا من الثواب والعقاب .

وأما قوله : " ولكل حد مطلع " ففيه تأويلان :

أحدهما : معناه ولكل غامض من الأحكام مطلع يوصل منه إلى معرفته ،

ويوقف منه على المراد به .

والثاني : معناه أن كل ما استحقه من الثواب والعقاب سيطلع عليه في الآخرة ويراه عند المجازاة .

فصل الاستعاذة

ثبت بالكتاب والسنة ، أن يستعيذ القارئ لقراءة القرآن ، فيقول : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ، وهو نص الكتاب .

وروى أبو سعيد الخدري عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) أنه قال : " أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه " .

وفي الاستعاذة وجهان :

أحدهما : أنها الاستجارة بذي منعة .

والثاني : أنها الاستعاذة عن خضوع .

وفي موضعها وجهان :

أحدهما أنها خبر يخبر به المرء عن نفسه ، بأنه مستعيذ باللّه .

والثاني : أنها في معنى الدعاء ، وإن كانت بلفظ الخبر ، كأنه يقول : أعذني

يا سميع ، يا عليم من الشيطان الرجيم ، يعنى أنه سميع الدعاء ، عليم بالإجابة .

وفي قوله : " من الشيطان " وجهان :

أحدهما : من وسوسته .

والثاني : من أعوانه .

وفي " الرجيم " وجهان :

أحدهما : يعني الراجم ، لأنه يرجمُ بالدواهي والبلايا .

والثاني : أنه بمعنى المرجوم ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه مرجوم بالنجوم .

والثاني : أنه المرجوم بمعنى المشئوم .

وفيه وجه ثالث : أن المرجوم الملعون والملعون المطرود .

وقوله : " من نفخه ونفثه وهمزه " يعني بالنفخ : الكبر ، وبالنفث : السحر ، وبالهمز : الجنون ، واللّه أعلم .

سورة الفاتحة

قال قتادة : هي مكية ، وقال مجاهد : هي مدينة .

ولها ثلاثة أسماء : فاتحة الكتاب ، وأم القرآن ، والسبع المثاني .

روى ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن

رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) قال : " هي أم القرآن ، وهي فاتحة الكتاب ، وهي السبع المثاني " . فأما تسميتها بفاتحة الكتاب فلأنه يستفتح الكتاب بإثباتها خطاً وبتلاوتها لفظاً .

فأما تسميتها بأم القرآن ، فلتقدمها وتأخر ما سواها تبعاً لها ، صارت أما لأنه

فأما تسميتها بأم القرآن ، فلتقدمها وتأخر ما سواها تبعاً لها ، صارت أما لأنه

أمته أي تقدمته ، وكذلك قيل لراية الحرب : أم لتقدمها واتباع الجيش لها ، قال الشاعر :

على رأسه أم لها يقتدى بها

جماع أمور لا يعاصى لها أمر

وقيل لما مضى على الإنسان من سني عمره ، أم لتقدمها . قال الشاعر :

إذا كانت الخمسون أمك لم يكن

لرأيك إلا أن يموت طبيب

واختلف في تسميتها بأم الكتاب ، فجوزه الأكثرون ، لأن الكتاب هو

القرآن ، ومنع منه الحسن ، وابن سيرين ، وزعما أن أم الكتاب ، اسم اللوح المحفوظ ، فلا يسمى به غيره ل

قوله تعالى : { وَإِنَّهُ فِي أُمَّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌّ } . [ الزخرف : ٤ ] .

وأما [ تسمية ] مكة بأم القرى ، ففيه قولان :

أحدهما : أنها سميت أم القرى ، لتقدمها على سائر القرى .

والثاني : أنها سميت بذلك ، لأن الأرض منها دحيت ، وعنها حدثت ،

فصارت أما لها لحدوثها عنها ، كحدوث الولد عن أمه .

وأما تسميتها بالسبع المثاني ، فلأنها سبع آيات في قول الجميع .

وأما الثاني ، فلأنها تثنى في كل صلاة من فرض وتطوع ، وليس في تسميتها

بالمثاني ما يمنع من [ تسميته ] غيرها به قال أعشى همدان :

فلجوا المسجد وادعوا ربكم

وارسوا هذي المثاني والطول

١

قوله عز وجل :

بِسْمِ اللّه الْرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أجمعوا أنها من القرآن في سورة النمل ، وإنما اختلفوا في إثباتها في فاتحة الكتاب ، وفي أول كل سورة ، فأثبتها الشافعي في طائفة ، ونفاها أبو حنيفة في آخرين .

واختُلِفَ في قوله : { بِسْمِ } :

فذهب أبو عبيدة وطائفة إلى أنها صلة زائدة ، وإنما هو اللّه الرحمنُ الرحيمُ ، واستشهدوا بقول لبيد :

إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَلَيْكُما

وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقَدِ اعْتَذَرْ

فذكر اسم السلام زيادة ، وإنما أراد : ثم السلام عليكما .

واختلف من قال بهذا في معنى زيادته على قولين :

أحدهما : لإجلال ذكره وتعظيمه ، ليقع الفرق به بين ذكره وذكر غيره من المخلوقين ، وهذا قول قطرب .

والثاني : ليخرج به من حكم القسم إلى قصد التبرُّك ، وهذا قول الأخفش .

وذهب الجمهور إلى أن { بسم } أصل مقصود ، واختلفوا في معنى دخول الباء عليه ، فهل دخلت على معنى الأمر أو على معنى الخبر على قولين :

أحدهما : دخلت على معنى الأمر وتقديره : ابدؤوا

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وهذا قول الفراء .

والثاني : على معنى الإخبار وتقديره : بدأت بسم اللّه الرحمن الرحيم

وهذا قولُ الزجَّاج .

وحُذِفت ألف الوصل ، بالإلصاق في اللفظ والخط ، لكثرة الاستعمال كما حُذفت من الرحمن ، ولم تحذف من الخط في قوله : { إِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذَّي خَلَقَ } " [ العلق : آية ١ ] لقلَّة استعماله .

الاسم : كلمة تدل على المسمى دلالة إشارةٍ ، والصفة كلمة تدل على الموصُوف دلالة إفادة ، فإن جعلت الصفة اسماً ، دلَّت على الأمرين : على الإشارة والإفادة .

وزعم قوم أن الاسم ذاتُ المسمى ، واللفظ هو التسمية دون الاسم ، وهذا فاسد ، لأنه لو كان أسماءُ الذواتِ هي الذواتُ ، لكان أسماءُ الأفعال هي الأفعال ، وهذا ممتنع في الأفعال فامتنع في الذوات .

واختلفوا في اشتقاق الاسم على وجهين :

أحدهما : أنه مشتق من السمة ، وهي العلامة ، لما في الاسم من تمييز المسمى ، وهذا قول الفرَّاء .

والثاني : أنه مشتق من السمو ، وهي الرفعة لأن الاسم يسمو بالمسمى

فيرفعه من غيره ، وهذا قول الخليل والزجَّاج .

وأنشد قول عمرو بن معدي كرب :

إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ أَمْراً فَدَعْهُ

وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ

وَصِلْهُ بِالدُّعَاءِ فَكُلُّ أَمْرٍ

سَمَا لَكَ أَوْ سَمَوْتَ لَهُ وُلُوعُ

وتكلف من رَاعَى معاني الحروف ببسم اللّه تأويلاً ، أجرى عليه أحكام الحروف المعنوية ، حتى صار مقصوداً عند ذكر اللّه في كل تسمية ، ولهم فيه ثلاثة أقاويل :

أحدها : أن الباء بهاؤه وبركته ، وبره وبصيرته ، والسين سناؤه وسموُّه وسيادته ، والميم مجده ومملكته ومَنُّه ، وهذا قول الكلبي .

والثاني : أن الباء بريء من الأولاد ، والسين سميع الأصوات والميم مجيب الدعوات ، وهذا قول سليمان بن يسار .

والثالث : أن الباء بارئ الخلق ، والسين ساتر العيوب ، والميم المنان ، وهذا قول أبي روق .

ولو أن هذا الاستنباط يحكي عمَّن يُقْتدى به في علم التفسير لرغب عن ذكره ، لخروجه عما اختص اللّه تعالى به من أسمائه ، لكن قاله متبوع فذكرتُهُ مَعَ بُعْدِهِ حاكياً ، لا محققاً ليكون الكتاب جامعاً لما قيل .

ويقال لمن قال { بسم اللّه } بَسْمَلَ على لُغَةٍ مُوَلَّدَةٍ ، وقد جاءت في الشعر ، قال عمر بن أبي ربيعة :

لَقَدْ بَسْمَلَتْ لَيْلَى غَدَاةَ لَقِيتُهَا

فَيَا حَبَّذا ذَاكَ الْحَبِيبُ المُبَسْمِلُ

فأما قوله : { اللّه } ، فهو أخص أسمائه به ، لأنه لم يتسَمَّ باسمه الذي هو { اللّه } غيره .

والتأويل الثاني : أن معناه هل تعلم له شبيهاً ، وهذا أعمُّ التأويلين ، لأنه يتناول الاسم والفعل .

وحُكي عن أبي حنيفة أنه الاسم الأعظم من أسمائه تعالى ، لأن غيره لا يشاركه فيه . واختلفوا في هذا الاسم هل هو اسم عَلَمٍ للذات أو اسم مُشْتَقٌّ من صفةٍ ، على قولين :

أحدهما : أنه اسم علم لذاته ، غير مشتق من صفاته ، لأن أسماء الصفات تكون تابعة لأسماء الذات ، فلم يكن بُدٌّ من أن يختص باسم ذاتٍ ، يكون علماً لتكون أسماء الصفات والنعوت تبعاً .

والقول الثاني : أنه مشتق من أَلَهَ ، صار باشتقاقه عند حذف همزِهِ ، وتفخيم لفظه اللّه .

واختلفوا فيما اشْتُقَ منه إله على قولين :

أحدهما : أنه مشتق من الَولَه ، لأن العباد يألهون إليه ، أي يفزعون إليه في أمورهم ، فقيل للمألوه إليه إله ، كما قيل للمؤتمِّ به إمام .

والقول الثاني : أنه مشتق من الألوهية ، وهي العبادة ، من قولهم فلان يتألَّه ، أي يتعبد ، قال رؤبةُ بن العجاج :

للّه دَرُّ الْغَانِيَاتِ المُدَّهِ

لَمَّا رَأَيْنَ خَلِقَ الْمُمَوَّهِ

{ سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألهِي }

أي من تعبد ، وقد رُوي عن ابن عباس أنه قرأ : { وَيَذَرَكَ وءالِهَتَكَ } أي وعبادتك .

ثم اختلفوا ، هل اشتق اسم الإله من فعل العبادة ، أو من استحقاقها ، على قولين :

أحدهما : أنه مشتق من فعل العبادة ، فعلى هذا ، لا يكون ذلك صفة لازمة قديمة لذاته ، لحدوث عبادته بعد خلق خلقه ، ومن قال بهذا ، منع من أن يكون اللّه تعالى إلهاً لم يزل ، لأنه قد كان قبل خلقه غير معبود .

والقول الثاني : أنه مشتق من استحقاق العبادة ، فعلى هذا يكون ذلك صفة لازمة لذاته ، لأنه لم يزل مستحقّاً للعبادة ، فلم يزل إلهاً ، وهذا أصح القولين ، لأنه لو كان مشتقّاً من فعل العبادة لا من استحقاقها ، للزم تسمية عيسى عليه السلام إلهاً ، لعبادة النصارى له ، وتسمية الأصنام آلهة ، لعبادة أهلها لها ، وفي بطلان هذا دليل ، على اشتقاقه من استحقاق العبادة ، لا من فعلها ، فصار قولنا { إله } على هذا القول صفة من صفات الذات ، وعلى القول الأول من صفات الفعل .

وأما { الرحمن الرحيم } ، فهما اسمان من أسماء اللّه تعالى ، والرحيم فيها اسم مشتق من صفته .

وأما الرحمن ففيه قولان :

أحدهما : أنه اسم عبراني معرب ، وليس بعربي ، كالفسطاط رومي معرب ، والإستبرق فارسي معرب ، لأن قريشاً وهم فَطَنَةُ العرب وفُصَحَاؤهم ، لم يعرفوهُ حتى ذكر لهم ، وقالوا ما حكاه اللّه تعالى عنهم : {. . . وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً } " [ الفرقان : ٦٠ ] ، وهذا قول ثعلب واستشهد بقول جرير :

أو تتركون إلى القسّين هجرتكم

ومسحكم صلبهم رحمن قربانا

قال : ولذلك جمع بين الرحمن والرحيم ، ليزول الالتباس ، فعلى هذا يكون الأصل فيه تقديم الرحيم على الرحمن لعربيته ، لكن قدَّم الرحمن لمبالغته .

والقول الثاني : أن الرحمن اسم عربي كالرحيم لامتزاج حروفهما ، وقد ظهر ذلك في كلام العرب ، وجاءت به أشعارهم ، قال الشنفري :

أَلاَ ضَرَبَتْ تِلْكَ الْفَتَاةُ هَجِينَهَا

أَلاَ ضَرَبَ الرًّحْمنُ رَبِّي يَمِينَهَا

فإذا كانا اسمين عربيين فهما مشتقان من الرحمة ، والرحمة هي النعمة على المحتاج ، قال اللّه تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } " [ الأنبياء : ١٠٧ ] ، يعني نعمةً عليهم ، وإنما سميت النعمةُ رحمةً لحدوثها عن الرحمة .

والرحمن أشدُّ مبالغةً من الرحيم ، لأن الرحمن يتعدى لفظه ومعناه ، والرحيم

لا يتعدى لفظه ، وإنما يتعدى معناه ، ولذلك سمي قوم بالرحيم ، ولم يتَسَمَّ أحدٌ بالرحمن ، وكانت الجاهليةُ تُسمِّي اللّه تعالى به وعليه بيت الشنفرى ، ثم إن مسيلمة الكذاب تسمَّى بالرحمن ، واقتطعه من أسماء اللّه تعالى ، قال عطاء : فلذلك قرنه اللّه تعالى بالرحيم ، لأن أحداً لم يتسمَّ بالرحمن الرحيم ليفصل اسمه عن اسم غيره ، فيكون الفرق في المبالغة ، وفرَّق أبو عبيدة بينهما ، فقال بأن الرحمن ذو الرحمة ، والرحيم الراحم .

واختلفوا في اشتقاق الرحمن والرحيم على قولين :

أحدهما : أنهما مشتقان من رحمة واحدةٍ ، جُعِل لفظ الرحمن أشدَّ مبالغة من الرحيم .

والقول الثاني : أنهما مشتقان من رحمتين ، والرحمة التي اشتق منها الرحمن ، غير الرحمة التي اشتق منها الرحيم ، ليصح امتياز الاسمين ، وتغاير الصفتين ، ومن قال بهذا القول اختلفوا في الرحمتين على ثلاثة أقوال :

أحدها : أن الرحمن مشتق من رحمة اللّه لجميع خلقه ، والرحيم مشتق من رحمة اللّه لأهل طاعته .

والقول الثاني : أن الرحمن مشتق من رحمة اللّه تعالى لأهل الدنيا والآخرة ، والرحيم مشتق من رحمتِهِ لأهل الدنيا دُون الآخرة .

والقول

الثالث : أن الرحمن مشتق من الرحمة التي يختص اللّه تعالى بها دون عباده ، والرحيم مشتق من الرحمة التي يوجد في العباد مثلُها .

٢

قوله عز وجل : { الحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ } .

أما { الحمد للّه } فهو الثناء على المحمود بجميل صفاته وأفعاله ، والشكرُ الثناء عليه بإنعامه ، فكلُّ شكرٍ حمدٌ ، وليسَ كلُّ حمدٍ شكراً ، فهذا فرقُ ما بين الحمد والشكر ، ولذلك جاز أن يَحْمِدَ اللّه تعالى نفسه ، ولم يَجُزْ أن يشكرها .

فأما الفرق بين الحمد والمدح ، فهو أن الحمد لا يستحق إلا على فعلٍ حسن ، والمدح قد يكون على فعل وغير فعل ، فكلُّ حمدٍ مدحٌ وليْسَ كل مدحٍ حمداً ، ولهذا جاز أن يمدح اللّه تعالى على صفته ، بأنه عالم قادر ، ولم يجز أن يحمد به ، لأن العلم والقدرة من صفات ذاته ، لا من صفات أفعاله ، ويجوز أن يمدح ويحمد على صفته ، بأنه خالق رازق لأن الخلق والرزق من صفات فعله لا من صفات ذاته .

وأما قوله : { رب } فقد اختُلف في اشتقاقه على أربعة أقاويل :

أحدها : أنه مشتق من المالك ، كما يقال رب الدار أي مالكها .

والثاني : أنه مشتق من السيد ، لأن السيد يسمى ربّاً

قال تعالى : { أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً } " [ يوسف : ٤١ ] يعني سيده .

والقول

الثالث : أن الرب المدَبِّر ، ومنه قول اللّه عزَّ وجلَّ : { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ } وهم العلماء ، سموا ربَّانيِّين ، لقيامهم بتدبير الناس بعلمهم ، وقيل : ربَّهُ البيت ، لأنها تدبره .

والقول الرابع : الرب مشتق من التربية ، ومنه

قوله تعالى : { وَرَبَآئِبُكُمُ اللاَّتِي في حُجُورِكُمْ } " [ النساء : ٢٣ ] فسمي ولد الزوجة ربيبة ، لتربية الزوج لها .

فعلى هذا ، أن صفة اللّه تعالى بأنه رب ، لأنه مالك أو سيد ، فذلك صفة من صفات ذاته ، وإن قيل لأنه مدبِّر لخلقه ، ومُربِّيهم ، فذلك صفة من صفات فعله ، ومتى أدْخَلت عليه الألف واللام . اختص اللّه تعالى به ، دون عباده ، وإن حذفتا منه ، صار مشتركاً بين اللّه وبين عباده .

وأما قوله : { العالمين } فهو جمع عَالم ، لا واحد له من لفظه ، مثل : رهط وقوم ، وأهلُ كلِّ زمانٍ عَالَمٌ قال العجاج :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا الْعَالَمِ

واختُلِف في العالم ، على ثلاثة أقاويل :

أحدها : أنّه ما يعقِل : من الملائكة ، والإنس ، والجنِّ ، وهذا قول ابن عباس .

والثاني : أن العالم الدنيا وما فيها .

والثالث : أن العالم كل ما خلقه اللّه تعالى في الدنيا والآخرة ، وهذا قول أبي إسحاق الزجَّاج .

واختلفوا في اشتقاقه على وجهين :

أحدهما : أنه مشتق من العلم ، وهذا تأويل مَنْ جعل العالم اسماً لما يعقل .

والثاني : أنه مشتق من العلامة ، لأنه دلالة على خالقه ، وهذا تأويل مَنْ جعل العالم اسماً لكُلِّ مخلوقٍ .

٣

وأما { الرحمن الرحيم } ، فهما اسمان من أسماء اللّه تعالى ، والرحيم فيها اسم مشتق من صفته .

وأما الرحمن ففيه قولان :

أحدهما : أنه اسم عبراني معرب ، وليس بعربي ، كالفسطاط رومي معرب ، والإستبرق فارسي معرب ، لأن قريشاً وهم فَطَنَةُ العرب وفُصَحَاؤهم ، لم يعرفوهُ حتى ذكر لهم ، وقالوا ما حكاه اللّه تعالى عنهم : {. . . وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً } " [ الفرقان : ٦٠ ] ، وهذا قول ثعلب واستشهد بقول جرير :

أو تتركون إلى القسّين هجرتكم

ومسحكم صلبهم رحمن قربانا

قال : ولذلك جمع بين الرحمن والرحيم ، ليزول الالتباس ، فعلى هذا يكون الأصل فيه تقديم الرحيم على الرحمن لعربيته ، لكن قدَّم الرحمن لمبالغته .

والقول الثاني : أن الرحمن اسم عربي كالرحيم لامتزاج حروفهما ، وقد ظهر ذلك في كلام العرب ، وجاءت به أشعارهم ، قال الشنفري :

أَلاَ ضَرَبَتْ تِلْكَ الْفَتَاةُ هَجِينَهَا

أَلاَ ضَرَبَ الرًّحْمنُ رَبِّي يَمِينَهَا

فإذا كانا اسمين عربيين فهما مشتقان من الرحمة ، والرحمة هي النعمة على المحتاج ، قال اللّه تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } " [ الأنبياء : ١٠٧ ] ، يعني نعمةً عليهم ، وإنما سميت النعمةُ رحمةً لحدوثها عن الرحمة .

والرحمن أشدُّ مبالغةً من الرحيم ، لأن الرحمن يتعدى لفظه ومعناه ، والرحيم

لا يتعدى لفظه ، وإنما يتعدى معناه ، ولذلك سمي قوم بالرحيم ، ولم يتَسَمَّ أحدٌ بالرحمن ، وكانت الجاهليةُ تُسمِّي اللّه تعالى به وعليه بيت الشنفرى ، ثم إن مسيلمة الكذاب تسمَّى بالرحمن ، واقتطعه من أسماء اللّه تعالى ، قال عطاء : فلذلك قرنه اللّه تعالى بالرحيم ، لأن أحداً لم يتسمَّ بالرحمن الرحيم ليفصل اسمه عن اسم غيره ، فيكون الفرق في المبالغة ، وفرَّق أبو عبيدة بينهما ، فقال بأن الرحمن ذو الرحمة ، والرحيم الراحم .

واختلفوا في اشتقاق الرحمن والرحيم على قولين :

أحدهما : أنهما مشتقان من رحمة واحدةٍ ، جُعِل لفظ الرحمن أشدَّ مبالغة من الرحيم .

والقول الثاني : أنهما مشتقان من رحمتين ، والرحمة التي اشتق منها الرحمن ، غير الرحمة التي اشتق منها الرحيم ، ليصح امتياز الاسمين ، وتغاير الصفتين ، ومن قال بهذا القول اختلفوا في الرحمتين على ثلاثة أقوال :

أحدها : أن الرحمن مشتق من رحمة اللّه لجميع خلقه ، والرحيم مشتق من رحمة اللّه لأهل طاعته .

والقول الثاني : أن الرحمن مشتق من رحمة اللّه تعالى لأهل الدنيا والآخرة ، والرحيم مشتق من رحمتِهِ لأهل الدنيا دُون الآخرة .

والقول

الثالث : أن الرحمن مشتق من الرحمة التي يختص اللّه تعالى بها دون عباده ، والرحيم مشتق من الرحمة التي يوجد في العباد مثلُها .

٤

قوله تعالى : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قرأ عاصم والكسائي { مالِكِ } وقرأ الباقون { مَلِك } وفيما اشتقا جميعاً منه وجهان :

أحدهما : أن اشتقاقهما من الشدة ، من قولهم ملكت العجين ، إذا عجنته بشدة .

والثاني : أن اشتقاقهما من القدرة ، قال الشاعر :

مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا

يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا

والفرق بين المالك والملك من وجهين :

أحدهما : أن المالك مَنْ كان خاصَّ المُلكِ ، والملِك مَنْ كان عَامَّ المُلْك .

والثاني : أن المالك من اختص بملك الملوك ، والملك من اختص بنفوذ الأمر .

واختلفوا أيهما أبلغ في المدح ، على ثلاثة أقاويل :

أحدها : أن المَلِك أبلغ في المدح من المالك ، لأنَّ كلَّ مَلِكٍ مالِكٌ ، وليسَ كلُّ مالِكٍ ملِكاً ، ولأن أمر الملِكِ نافذ على المالِكِ .

والثاني : أن مالك أبلغ في المدح من مَلِك ، لأنه قد يكون ملكاً على من لا يملك ، كما يقال ملك العرب ، وملك الروم ، وإن كان لا يملكهم ، ولا يكون مالكاً إلا على من يملك ، ولأن المَلِك يكون على الناس وغيرهم

والثالث : وهو قول أبي حاتم ، أن مَالِك أبلغ في مدح الخالق من مَلِك ، ومَلِك أبلغ من مدح المخلوق من مالك .

والفرق بينهما ، أن المالك من المخلوقين ، قد يكون غير ملك ، وإن كان اللّه تعالى مالكاً كان ملكاً ، فإن وُصف اللّه تعالى بأنه ملك ، كان ذلك من صفات ذاته ، وإن وصف بأنه مالك ، كان من صفات أفعاله .

وأما قوله تعالى : { يَوْمِ الدِّينِ } ففيه تأويلان :

أحدهما : أنه الجزاء .

والثاني : أنه الحساب .

وفي أصل الدين في اللغة قولان :

أحدهما : العادة ، ومنه قول المثقَّب العَبْدِي :

تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي

أَهذَا دِينُهُ أَبَداً وَدينِي

أي عادته وعادتي .

والثاني : أنَّ أصل الدين الطاعة ، ومنه قول زهير بن أبي سُلمى :

لَئِن حَلَلْتَ بِجَوٍّ في بَنِي أَسَدٍ

في دِينِ عَمْرٍو وَمَالتْ بَيْنَنَا فَدَكُ

أي في طاعة عمرو .

وفي هذا اليوم قولان :

أحدهما : أنه يوم ، ابتداؤه طلوع الفجر ، وانتهاؤه غروب الشمس .

والثاني : أنه ضياء ، يستديم إلى أن يحاسب اللّه تعالى جميع خلقه ، فيستقر أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار .

وفي اختصاصه بملك يوم الدين تأويلان :

أحدهما : أنه يوم ليس فيه ملك سواه ، فكان أعظم من مُلك الدنيا التي تملكها الملوك ، وهذا قوله الأصم .

والثاني : أنه لما قال : { رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، يريد به ملك الدنيا ، قال بعده : { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } يريد به ملك الآخرة ، ليجمع بين ملك الدنيا والآخرة .

٥

قوله عز وجل : { إِيَاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }

قوله : { إِيَّاكَ } هو كناية عن اسم اللّه تعالى ، وفيه قولان :

أحدهما : أن اسم اللّه تعالى مضاف إلى الكاف ، وهذا قول الخليل .

والثاني : أنها كلمة واحدة كُنِّيَ بها عن اسم اللّه تعالى ، وليس فيها إضافة لأن المضمر لا يضاف ، وهذا قول الأخفش .

وقوله : { نَعْبُدُ } فيه ثلاثة تأويلات :

أحدها : أن العبادة الخضوع ، ولا يستحقها إلا اللّه تعالى ، لأنها أعلى مراتب الخضوع ، فلا يستحقها إلا المنعم بأعظم النعم ، كالحياة والعقل والسمع والبصر .

والثاني : أن العبادة الطاعة .

والثالث : أنها التقرب بالطاعة .

والأول أظهرها ، لأن النصارى عبدت عيسى عليه السلام ، ولم تطعه بالعبادة ، والنبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) مطاع ، وليس بمعبودٍ بالطاعة .

٦

اهدنا الصراط المستقيم

قوله عز وجل : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيم } إلى آخرها .

أما قوله : { اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ } ففيه تأويلان :

أحدهما : معناه أرْشُدْنا ودُلَّنَا .

والثاني : معناه وفقنا ، وهذا قول ابن عباس .

وأما الصراط ففيه تأويلان :

أحدهما : أنه السبيل المستقيم ، ومنه قول جرير :

أَميرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِراطٍ

إذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيم

والثاني : أنه الطريق الواضح ومنه

قوله تعالى : { وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُون } " [ الأعراف : ٨٦ ] وقال الشاعر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَصَدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّرَاطِ الْقَاصِدِ

وهو مشتق من مُسْتَرَطِ الطعام ، وهو ممره في الحلق .

وفي الدعاء بهذه الهداية ، ثلاثة تأويلات :

أحدها : أنهم دعوا باستدامة الهداية ، وإن كانوا قد هُدُوا .

والثاني : معناه زدنا هدايةً

والثالث : أنهم دعوا بها إخلاصاً للرغبة ، ورجاءً لثواب الدعاء . واختلفوا في المراد بالصراط المستقيم ، على أربعة أقاويل :

أحدها : أنه كتاب اللّه تعالى ، وهو قول علي وعبد اللّه ، ويُرْوَى نحوه عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) .

والثاني : أنه الإسلام ، وهو قول جابر بن عبد اللّه ، ومحمد بن الحنفية .

والثالث : أنه الطريق الهادي إلى دين اللّه تعالى ، الذي لا عوج فيه ، وهو قول ابن عباس .

والرابع : هو رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) وأخيار أهل بيته وأصحابه ، وهو قول الحسن البصري وأبي العالية الرياحي .

وفي قوله تعالى : { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمُ } خمسة أقاويل :

 أحدها : أنهم الملائكة .

والثاني : أنهم الأنبياء .

والثالث : أنهم المؤمنون بالكتب السالفة .

والرابع : أنهم المسلمون وهو قول وكيع .

والخامس : هم النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، ومَنْ معه مِنْ أصحابه ، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد .

٧

وقرأ عمر بن الخطاب وعبد اللّه بن الزبير : { صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }

وأما قوله : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } فقد روى عن عديِّ بن حاتم قال : سألتُ رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، عن المغضوب عليهم ، فقال : { هُمُ اليَهُود } وعن الضالين فقال : { هُمُ النَّصارى } .

وهو قول جميع المفسرين .

وفي غضب اللّه عليهم ، أربعة أقاويل :

أحدها : الغضب المعروف من العباد .

والثاني : أنه إرادة الانتقام ، لأن أصل الغضب في اللغة هو الغلظة ، وهذه الصفة لا تجوز على اللّه تعالى .

والثالث : أن غضبه عليهم هو ذَمُّهُ لهم .

والرابع : أنه نوع من العقوبة سُمِّيَ غضباً ، كما سُمِّيَتْ نِعَمُهُ رَحْمَةً .

والضلال ضد الهدى ، وخصّ اللّه تعالى اليهود بالغضب ، لأنهم أشد عداوة .

وقرأ عمر بن الخطاب { غَيْرِ الْمغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ الضَّآلِّين } .

صفحة فارغة

﴿ ٠