١٠١

بديع السماوات والأرض . . . . .

قوله عز وجل : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } فيه لأهل التأويل خمسة أقاويل :

أحدها : معناه لا تحيط به الأبصار ، وهو يحيط بالأبصار ، واعتل قائل هذا بقوله : { فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ } فوصف اللّه الغرق بأنه أدرك فرعون ، وليس الغرق موصوفاً بالرؤية ، كذلك الإدراك هنا ، وليس ذلك بمانع من الرؤية بالإِبصار ، غير أن هذا اللفظ لا يقتضيه وإن دل عليه قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } .

والقول الثاني : معناه لا تراه الأبصار وهو يرى الأبصار ، واعتل قائلو ذلك بأمرين :

أحدهما : أن الأبصار ترى ما بينها ولا ترى ما لاصقها ، وما بين البصر فلا بد أن يكون بينهما فضاء ، فلو رأته الأبصار لكان محدوداً ولخلا منه مكان ، وهذه صفات الأجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان .

والثاني : أن الأبصار تدرك الألوان كما أن السمع يدرك الأصوات ، فلما امتنع أن يكون ذا لون امتنع أن يكون مرئياً ، كما أن ما امتنع أن يكون ذا صوت امتنع أن يكون مسموعاً .

والقول

الثالث : لا تدركه أبصار الخلق في الدنيا بدليل قوله : { لاَ تَدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } وتدركه في الآخرة بدليل قوله : { إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } " [ القيامة : ٢٣ ] وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة .

والرابع : لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة ، وتدركه أبصار المؤمنين ، وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة ، لأن الإِدراك له كرامة تنتفي عن أهل المعاصي .

والقول الخامس : أن الأبصار لا تدركه في الدنيا والآخرة ، ولكن اللّه يحدث لأوليائه حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس يرونه بها ، اعتِلاَلاً بأن اللّه أخبر برؤيته ، فلو جاز أن يُرَى في الآخرة بهذه الأبصار وإن زِيْدَ في قواها جاز أن يرى بها في الدنيا وإن ضعفت قواها بأضعف من رؤية الآخرة ، لأن ما خُلِقَ لإِدراك شيء لا يُعْدَمُ إدراكه ، وإنما يختلف الإِدراك بحسب اختلاف القوة والضعف ، فلما كان هذا مانعاً من الإدراك - وقد أخبر اللّه تعالى بإدراكه - اقتضى أن يكون ما أخبر به حقاً لا يدفع بالشبه ، وذلك بخلق حاسة أخرى يقع بها الإِدراك .

﴿ ١٠١