١٥٩

فَبِما رَحْمَةٍ تقديم الجار و المجرور للحصر و ما مزيدة للتأكيد و مزيد الدلالة على الحصر كائنة مِنَ اللّه عليك و على أمتك لِنْتَ لَهُمْ اى للمؤمنين و رفقت بهم و اغتممت لاجلهم بعد ما خالفوك بتوفيق اللّه تعالى و حسن الهامه ثم بين وجه كون ذلك اللين رحمة بقوله وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا سى ء الخلق جافيا غَلِيظَ الْقَلْبِ قاسية لَانْفَضُّوا تفرقوا مِنْ حَوْلِكَ و لم يسكنوا إليك و حينئذ يتخلعوا عن ربقة الإسلام و استحقاق الجنة و يقل أجرك بقلة اتباعك فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما كان حقك وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ فى حقوق اللّه تعالى وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ امر الحرب و غيره مما يتعلق بالمشاورة «١» و ليس فيه عندك علم من اللّه تعالى استظهارا برأيهم و تطيبا لنفوسهم و تمهيد السنة المشاورة للامة- روى البغوي بسنده عن عائشة قالت ما رايت رجلا اكثر استشارا «٢» للرجال من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فَإِذا عَزَمْتَ على شى ء بعد المشاورة فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه اى فوض أمرك اليه و اعتمد عليه و كان هذا شأنه عليه الصلاة و السلام و لذا قال بعد ما خرج للقتال يوم أحد لا ينبغى لنبى ان يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل يعنى بعد المشاورة اعتمد على اللّه تعالى لا على رأيك و آراء المتشاورين «٣» لان بناء

(١) روى عن ابن عباس و شاورهم فى الأمر أبا بكر و عمرو فى رواية عن ابن عباس قال نزلت هذه الاية فى ابى بكر و عمر فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم لو اجتمعتما فى مشورة ما خالفتكما- و عن ابن عمر كتب ابو بكر الى عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يشاور فى الحرب فعليك به- و عن الضحاك قال كان عمر بن الخطاب يشاور حتى المرأة- منه رحمه اللّه.

(٢) فى الأصل استشارة-.

(٣) فى الأصل مستشارين-.

المشاورة استخراج ما عندهم من العلم بالأصلح بتلاحق الافكار بناء على جرى العادة و لا يعلم ما فى الواقع من الغيب الا اللّه تعالى- و قد يتخبط العقول فى النظر و قد يفعل اللّه تعالى على خرق العادة فلا وجه للاعتماد على الآراء- و التوكل ان يلتجى ء الى اللّه خاصة و يطلب منه ان يجعل عاقبة سعيه خيرا و يحسن الظن به فى ذلك قيل التوكل ان لا تعصى اللّه من أجل رزقك و هذا القول مستلزم للالتجاء و لا التجاء فى المعصية و قيل معناه ان لا يطلب لنفسك ناصرا غير اللّه و لا لرزقك خازنا غيره و لا لعملك شاهدا غيره-

قلت و تخصيص الالتجاء و الطلب منه تعالى لا يتصور بدون هذه الأمور عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يدخلون الجنة سبعون الفا من أمتي بغير حساب قيل يا رسول اللّه من هم قال هم الذين لا يكتوون و لا يسترقون و لا يتطيرون و على ربهم يتوكلون متفق عليه و كذا روى البغوي عن عمران بن حصين- و عن عمر بن الخطاب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو انكم تتوكلون على اللّه حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو اخماصا و تروح بطانا رواه الترمذي و ابن ماجة-

فان قيل الظاهر من حديث ابن عباس ان التوكل ترك التشبث بالأسباب العادية كالاكتواء و الاستراق-

قلت لابل ترك الاعتماد على الأسباب الا ترى الاستيشار من باب التشبث بالأسباب فاللّه سبحانه امر بالاستشارة ثم امر بترك الاعتماد عليه و قوله عليه الصلاة و السلام فى الحديث و على ربهم يتوكلون ليس تفسيرا لقوله لا يكتوون و لا يسترقون فان العطف يقتضى المغائرة- و لعل ذلك السبعون الف لا يتشبّثون بالأسباب غالبا- او المراد ترك التشبث ببعض الأسباب المكروهة كيف و تشبث الأسباب من لوازم هذه النشئة فان الاكل و الشرب من اسباب الحيوة عادة و الصلاة و الصوم من اسباب دخول الجنة غالبا و الواجب إتيانها إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) عليه و كونه محبوبا للّه تعالى هو المقصد الأسنى- و ايضا التوكل على اللّه يفضى الى ان ينصرهم اللّه و يهديهم الى الصلاح قال اللّه تعالى وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه فَهُوَ حَسْبُهُ و قال فى الحديث القدسي انا عند ظن عبدى بي.

﴿ ١٥٩