٥٨

إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها حتى فرغ من الاية

و اخرج سنيد فى تفسيره عن حجاج بن جريح و الأزرقي عن مجاهد قال نزلت هذه الاية فى عثمان بن طلحة أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم منه مفتاح الكعبة فدخل به البيت يوم الفتح فخرج و هو يتلو هذه الآية فدعا عثمان فناوله المفتاح قال و قال عمر بن الخطّاب لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من الكعبة و هو يتلو هذه الاية فداه ابى و أمي و ما سمعته يتلو قبل ذلك فالظاهر انها نزلت فى جوف الكعبة و روى ايضا نحوه عن سعيد بن المسيّب و فيه خذوها يا بنى طلحة خالدة لا يظلمكموها الّا كافر و روى ابن سعد عن ابراهيم بن محمد العبدري عن أبيه و محمد بن عمرو عن شيوخه قالوا قال عثمان بن طلحة لقينى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بمكة قبل الهجرة فدعانى الى الإسلام فقلت يا محمد ا تعجب لك حيث تطمع ان اتبعك و قد خالفت دين قومك و جئت بدين محدث و كنا نفتح الكعبة فى الجاهلية الاثنين و الخميس فاقبل يوما يريد ان يدخل الكعبة مع الناس فاغلظت عليه و نلت منه فحلم عنى ثم قال يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت فقلت لقد هلكت قريش و ذلّت قال بل عمرت و عزت و دخل الكعبة فوقعت كلمة منى موقعا ظننت ان الأمر سيصير الى ما قال فاردت الإسلام فاذا قومى يزبروننى زبرا شديدا فلما كان يوم الفتح قال لى يا عثمان ايت بالمفتاح فاتيته به فاخذه منى ثم دفعه الىّ و قال خذها خالدة تالدة لا ينزعها منكم الّا ظالم يا عثمان ان اللّه استأمنكم على بيته فكلوا مما وصل إليكم من هذا البيت بالمعروف فلما و ليت نادانى فرجعت اليه فقال الم يكن الذي قلت لك فذكرت قوله لى بمكة قبل الهجرة فقلت بلى اشهد انك رسول اللّه و روى الفاكهاني عن جبير بن مطعم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما ناول عثمان المفتاح قال له غيّبه قال الزهري فلذلك يغيب المفتاح قلت و لعل الوجه فى الأمر بتغييب المفتاح ان الناس كانوا يطمعون فى ان يكون المفتاح عندهم كما ذكرنا من رواية ابن مردوية طمع عباس فيه و روى ابن عابد و الأزرقي ان عليا قال للنبى صلى اللّه عليه و سلم اجمع لنا الحجابة و السقاية فنزلت هذه الاية فدعا عثمان فقال خذوها يا بنى طلحة خالدة مخلدة لا ينزعها منكم الّا ظالم و روى عبد الرزاق و الطبراني عن الزهري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما خرج من البيت قال علىّ رضى اللّه عنه انا أعطينا النبوة و السقاية و الحجابة ما من قوم بأعظم نصيبا منا فكره رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مقالته ثم دعا عثمان بن طلحة فدفع اليه و قال غيّبوه و ذكر البغوي انه لما دخل النبي صلى اللّه عليه و سلم مكة يوم الفتح اغلق عثمان باب البيت و صعد السطح فطلب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المفتاح فقيل له انه مع عثمان فابى و قال لو علمت انه رسول اللّه لم امنعه المفتاح فلوى على رضى اللّه عنه عنقه فأخذ منه المفتاح و فتح الباب فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم البيت و صلى ركعتين فلما خرج ساله العباس المفتاح ان يعطيه و يجمع له بين السّقاية و السدانة فانزل اللّه تعالى هذه الاية فامر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عليا ان يرد المفتاح الى عثمان و يعتذر اليه ففعل ذلك على فقال له عثمان أكرهت و آذيت ثم جئت ترفق فقال لقد انزل اللّه فى شأنك

و قرا عليه الاية فقال عثمان اشهد ان محمّدا رسول اللّه و كان المفتاح معه فلما مات دفعه الى أخيه شيبة فالمفتاح و السدانة فى أولادهم الى يوم القيامة (فائدة:) نزول الاية و ان كان فى إعطاء المفتاح لبنى طلحة لكن الاية بعموم لفظها يفيد وجوب أداء كل امانة الى أهلها عن انس قال قلّما خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الّا قال لا ايمان لمن لا امانة له و لا دين لمن لا عهد له رواه البيهقي فى شعب الايمان و فى الصحيحين عن ابى هريرة و عبد اللّه بن عمرو مرفوعا انه صلى اللّه عليه و سلم ذكر من علامات النفاق إذا اؤتمن خان «١» (فائدة:) ليس أداء الامانة منحصرا فى مال الوديعة و نحو ذلك بل كل حق

(١) قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أول ما يرفع من الناس الإماتة و اخر ما يبقى الصلاة و رب مصل لا خير فيه رواه الحكيم عن زيد بن ثابت

و اخرج ابن جرير عن ابن عباس انه لم يرخص لموسر و لا لمعسر

و اخرج البيهقي عن ميمون ابن مهران قال ثلاثة يؤدين الى البر و الفاجر الرحم توصل كانت برة او فاجرة و الامانة تؤدى الى البر و الفاجر و العهد يوفى للبر و الفاجر

و اخرج عبد الرزاق و ابن ابى شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و البيهقي عن ابن مسعود رض قال ان القتل فى سبيل اللّه يكفر الذنوب كلها الا الأمانة يجاء بالرجل يوم القيامة و ان كان قتل فى سبيل اللّه فيقال له ادّ أمانتك فيقول من اين و قد ذهبت الدنيا فقال انطلقوا به الى الهاوية فينطلق به فتتمثل أمانته كهيئتها فى قعر جهنم فيحملها فيصعد بها حتى إذا ظن انه خارج بها زلت من عاتقه فهوت و هوى معها ابد الآبدين قال زاذان فاتيت البراء بن عازب فقلت اما سمعت ما قال أخوك ابن مسعود قال صدق ان اللّه يقول إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها و الامانة فى الصلاة و الامانة فى الغسل من الجنابة و الامانة فى الحديث و الامانة فى الكيل و الامانة فى الوزن و الامانة فى الدين و أشدّ ذلك فى الودائع منه رحمه اللّه-.

لاحد على أحد امانة يجب أداؤه لاهله كما يدل عليه سبب نزول هذه الاية فلهذا قال الصوفية العلية ان الوجود و توابعه و كل كمال فى الممكن فهو ليس لذاته بل مقتبس من مرتبة الوجوب جلّت عظمته و امانة مودعة مستعارة منه تعالى و مقتضى هذه الاية وجوب ردّ تلك الأمانات الى أهلها «١» بحيث يرى نفسه عاريا منها كما ان السّلطان إذا لبس كنّاسا لباس الامارة فالواجب على الكنّاس ان يرى نفسه فى كل حين عاريا كما كان منتسبا لباسه الى مالكه و إذا غلب على الصّوفى هذه الملاحظة وجد نفسه فى نفسه معدوما خاليا عن الوجود و عن سائر الكمالات مبدأ للشرور و المناقص و ذلك هو مرتبة الفناء ثم قد ينتفى عنه هذه الرؤية المستعارة ايضا و ذلك فناء الفناء ثم يرى نفسه موجودا بوجود مستعار من اللّه تعالى متصفا بصفات مضافة اليه سبحانه باقيا ببقائه و ذلك مرتبة البقاء و من هاهنا قال اللّه تعالى فى الحديث القدسي كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به الحديث فاذا وصل الصوفي الى تلك المرتبة المعبر عنها بالفناء و البقاء المكنى عنها بأداء الامانة لا يتصور حينئذ ان يصدر من الصوفي تزكية لنفسه حيث يرى نفسه معدوما خاليا عن الكمالات و جاز له حينئذ التكلم بما أعطاه اللّه من الكمالات و التحديث بما أنعم اللّه عليه من الفضائل و المقامات و المعاملات لان الكمالات حينئذ مضافة الى اللّه تعالى و كل ثناء واقع على تلك الكمالات راجعة الى اللّه سبحانه و يظهر استغراق المحامد للّه و انحصار المدائح فى اللّه تعالى فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعالَمِينَ فكأنّ هذه الاية متصلة بقوله تعالى فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ «٢» ...

(١) فى الأصل الى اهله-.

(٢) هكذا فى الأصل و النقول لعله سباق قلم او تصحيف من الناسخ لان قوله تعالى المتقدم ليس هكذا بل هو أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللّه يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ نعم وقع فى سورة و النجم فلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ٢ بو محمد عفا اللّه عنه.

بَلِ اللّه يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ و ما بينهما اعتراض و معنى الآيتين لا تزكوا أنفسكم فان كمالاتكم ليست ناشية من أنفسكم بل اللّه يزكى من يشاء بإعطاء نور من أنواره و رشحة من بحار كماله و اللّه يأمركم ان تؤدوا الأمانات التي عندكم من الكمالات الى أهلها حتى لا يتصوّر منكم تزكية نفوسكم و يتاتى منكم أداء بعض محامد ربكم و من هاهنا يظهر لك جواب ما اعترض بعض الجهال على كلمات المشائخ المشعرة بالتفاخر فانها بعد أداء الأمانات الى أهلها ناشية على سبيل التحديث بالنعمة بإذن ربّهم على مقتضى الحكمة و اللّه اعلم-

وَ إِذا حَكَمْتُمْ الظرف متعلق بمحذوف دل عليه ما بعده تقديره و يأمركم ان تحكموا بالعدل إذا حكمتم اى قضيتم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ تفسير للمحذوف لا محلّ له من الاعراب و الحكم بالعدل ايضا من باب أداء الامانة و الإخلال به خيانة- عن ابى ذرّ قال قلت يا رسول اللّه استعملني قال يا أبا ذرّ انك ضعيف و انها امانة و انها يوم القيامة خزى و ندامة الا من أخذ بحقّها وادي الذي عليه فيها و فى رواية قال يا أبا ذرّ انى أراك ضعيفا و انى احبّ لك ما احبّ لنفسى لا تأمرن على اثنين و لا تولين مال يتيم رواه مسلم و كذا ما يذكر بعد ذلك من إطاعة اللّه و الرسول و اولى الأمر ايضا امانة إِنَّ اللّه نِعِمَّا ما نكرة منصوبة على التمييز موصوفة بيعظكم او موصولة مرفوعة على الفاعلية اى نعم شيئا او نعم الشي ء الذي يَعِظُكُمْ بِهِ و المخصوص محذوف اى أداء الامانة و العدل فى الحكم إِنَّ اللّه كانَ سَمِيعاً بأقوالكم و احكامكم بَصِيراً (٥٨) بما تفعلون فى الأمانات عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص يرفعه الى النبي صلى اللّه عليه و سلم قال المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن و كلتا يديه يمين هم الذين يعدلون فى حكمهم و أهلهم و ما ولوا رواه مسلم و عن ابى سعيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان احبّ الناس الى اللّه يوم القيامة و أقربهم منه مجلسا امام عادل و ان ابغض الناس الى اللّه يوم القيامة و أشدّهم عذابا و فى رواية ابعدهم منه مجلسا امام جائر رواه الترمذي و قال هذا حديث حسن غريب و عن عائشة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال أ تدرون من السّابقون الى ظلّ اللّه عز و جل يوم القيامة قالوا اللّه و رسوله اعلم قال الذين إذا اعطوا الحق قبلوا و إذا سئلوه بذلوا و حكموا للناس كحكمهم لانفسهم رواه احمد و روى البيهقي فى شعب الايمان نحوه عن عمر بن الخطاب مرفوعا.

﴿ ٥٨