٣

إِنَّ رَبَّكُمُ اللّه الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ الّتى هى اصول الممكنات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ من ايام الدنيا اى فى قدرها و لو شاء لخلقهن فى لمحة و انما فعل ذلك لتعليم خلقه التثبت ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ اجمع اهل السنة من الخلف و السلف على «١» ان اللّه تعالى منزه عن صفات الأجسام و صفات الحدوث- فلهم فى هذه الاية و أمثالها سبيلان- أحدهما تأويلها بما يليق به تعالى بناء على عطف قوله تعالى وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ على اسم اللّه فى قوله تعالى وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّه- و قد مر البحث عليه فى سورة ال عمران- فقالوا معنى استوى استولى على العرش الذي هو أعظم المخلوقات و محدد الجهات- و ذا يستلزم استيلاءه تعالى على جميع الخلائق- و أسند البغوي تأويل الاستواء بالاستيلاء الى المعتزلة و كلام السلف الصالح يأبى عن سبيل التأويل بل المختار عندهم الايمان بتلك الآيات و تفويض علمه الى اللّه تعالى و التحاشى عن البحث عنه- قال محمد بن الحسن اتفق الفقهاء كلهم من المشرق الى المغرب على الايمان بالقران و الأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى صفة الرب عز و جل من غير تفسير و لا وصف و لا شبه- فمن فسر شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى اللّه عليه و سلم و فارق الجماعة و قال مالك بن انس الكيف غير معقول و الاستواء غير مجهول و السؤال عنه بدعة- فبناء على هذا السبيل نقل عن السلف القول باستوائه تعالى على العرش مع قولهم بالتنزيه الصرف قال ابو حنيفة ان اللّه فى السماء دون الأرض رواه البيهقي- و روى عنه من قال لا اعرف

(١) فى الأصل ان اللّه-.

ربّى فى اسماء او فى الأرض فقد كفر- لان اللّه يقول الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى - و عرشه فوق سمواته- و روى عنه انه قال من أنكر اللّه فى السماء فقد كفر- و قال الشافعي ان اللّه على عرشه فى سمائه يقرب من خلقه كيف شاء و ينزل كيف شاء- و مثل ذلك قال احمد بن حنبل- و قال إسحاق بن راهويه انه اجمع اهل العلم انه فوق العرش استوى و يعلم كل شي ء و هو قول المزني و الذهبي و البخاري و ابو داؤد و الترمذي و ابن ماجة و ابن ابى شيبة و ابو يعلى و البيهقي و غيرهم من ائمة الحديث- و قال ابو زرعة الرازي ما ينبئ عن اجماع اهل السنة على ذلك- و قال عثمان بن سعيد الدارمي الحافظ اتفقت الكلمة بين المسلمين ان اللّه فوق عرشه فوق سمواته- و قال سهل بن عبد اللّه التستري لا يجوز لمؤمن ان يقول كيف الاستواء لمن خلق الاستواء و لنا عليه الرضاء و التسليم لقول النبي صلى اللّه عليه و سلم انه تعالى على العرش- و قال محمد بن جرير حسب امرئ ان يعلم ان ربه الذي على العرش استوى فمن يجاوز ذلك فقد خاب و خسر و قال ابن خزيمة من لم يقر ان اللّه على عرشه استوى فوق سبع سمواته بائن من خلقه فقد كفر فيستتاب- فان تاب و الا ضربت عنقه- و قال الطحاوي العرش و الكرسي كما بيّن فى كتابه- و هو مستغن عن العرش و ما دونه- محيط بكل شي ء و فوقه- و قال الشيخ ابو الحسن الأشعري البصري المتكلم فى كتاب اختلاف المضلين و مقالات الاسلاميين مقالة اهل السنة و اصحاب الحديث جملته قولهم الإقرار باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و بما جاء عن اللّه و ما رواه الثقات عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- لا يردون من ذلك شيئا- و ان اللّه على عرشه كما قال الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى - و له يدان بلا كيف كما قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ- و قال ابو نعيم فى الحلية طريقتنا طريقة السلف المتبعين الكتاب و السنة و اجماع الامة و مما اعتقدوه ان اللّه لم يزل كاملا بجميع صفاته الى ان قال و ان الأحاديث التي ثبتت فى العرش و الاستواء عليه يقولون بها و يثبتونها من غير تكيف و لا تمثيل- و انه بائن من خلقه- و قال ابن عبد البر ان اللّه فى السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة- و قال الخطيب مذهب السلف إثباتها و اجراؤها على ظواهرها و نفى الكيفية و التشبيه عنها- و قال امام الحرمين و الذي ترضيه دينا- و تدين اللّه به عقيدة اتباع سلف الائمة و ذهب ائمة السلف الى الانكفاف عن التأويل و اجراء الظواهر على مواردها و تفويض معانيها الى اللّه- و

قال البغوي اما اهل السنة فيقولون الاستواء على العرش صفة اللّه بلا كيف يجب الايمان به-

قال البيضاوي معناه ان له استواء على الوجه الذي عناه منزعا عن الاستقرار و التمكن- و قال ابو بكر على بن عيسى الشبلي اعلم الصوفية فى زمانه الرب فى السماء يقضى و يمضى- و قال شيخ الإسلام عبد اللّه الأنصاري فى اخبار شتى ان اللّه فى السماء السابعة على العرش- و للشيخ عبد القادر الجيلاني فى الباب كلام كثير فى الغنية هذه الأقوال كلها ذكرها الذهبي فى كتاب العلو- و ذكر هذا المذهب عن جماعة كثيرة من اهل العلم من الصحابة و التابعين و من دونهم من الفقهاء و المحدثين و الصوفية يطول الكلام بذكرهم و قد ذكرت هذه المسألة مختصرا فى سورة الأعراف فى تفسير قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ و قد ذكرنا فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ ما قال اصحاب القلوب من تجليات اللّه تعالى فى بعض مخلوقاته برقيات و دائميات غير مستدعيات حدوث امر فى ذاته تعالى و كونه محلا للحوادث- و لا تنزلا له سبحانه عن مرتبة التنزيه الصرف بل مبنيات على حدوث امر فى الممكن حتى يصير صالحا لذلك التجلّى- و ايضا ذكرنا مسئلة التجلّى على قلب المؤمن و الكعبة الحسناء و العرش العظيم فى تلك السورة فى تفسير قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فليرجع إليهما من غفل عنهما يُدَبِّرُ الْأَمْرَ التدبير النظر فى ادبار الأمور حتى يأتى محمودة العاقبة- يعنى يقدر امر الكائنات على ما يقتضيه الحكمة ما مِنْ شَفِيعٍ يشفع لاحد إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ تقرير لعظمته و عز جلاله- ورد على النضر بن الحارث حيث قال إذا كان يوم القيامة يشفعنى اللات و العزى- و فيه اشارة الى ثبوت الشفاعة لمن اذن له ذلِكُمُ اى الموصوف بتلك الصفات المقتضية للالوهية اللّه مبتدأ و خبر رَبَّكُمُ خبر ثان او خبر مبتدا محذوف و الجملة بدل مما سبق يعنى هو ربكم لا غير- او لا يشركه أحد فى شي ء من ذلك فَاعْبُدُوهُ دون غيره من انسان او ملك فضلا عن جماد لا يضر و لا ينفع أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (٣) تتفكرون ادنى تفكر فيظهر لكم انه المستحق للعبادة دون غيره مما تعبدون-.

﴿ ٣