سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ

مَكِّيَّةٌ وَهِيَ اثْنَتَانِ وخَمْسُونَ آيَةً

مكيّة و آياتها اثنان و خمسون ربّ يسّر و تمّم بالخير «١»

 بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(١) الخطبة من الناشر-.

_________________________________

١

الر هذا كِتابٌ اى هذه السورة او القران كتاب أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ صفة لكتاب لِتُخْرِجَ النَّاسَ متعلق بانزلنا يعنى أنزلناه لتخرجهم بدعائك إياهم الى ما تضمنه و تعليمك إياهم ما لهم و ما عليهم مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (٥) اى من انواع الضلال الى الهدى بِإِذْنِ رَبِّهِمْ اى بتوفيقه و تسهيله- مستعار من الاذن الّذي هو تسهيل الحجاب- هو صلة لتخرج او حال من فاعله او مفعوله إِلى صِراطِ بدل من قوله الى النور بتكرير العامل- او استيناف على انه جواب لمن يسئل عنه الْعَزِيزِ الغالب الْحَمِيدِ (١) المحمود الّذي لا يستحق الحمد الا هو- و اضافة الصراط الى اللّه اما لانه مقصده او لانه مظهر له- و تخصيص الوصفين للتنبيه على انه لا يزلّ سالكه و لا يخيب سابله.

٢

اللّه قرا اكثر القراء بالجر على انه عطف بيان للعزيز و قال ابو عمرو فيه تقديم و تأخير مجازه الى (صراط اللّه العزيز الحميد)-

و قرا ابو جعفر و نافع و ابن عامر بالرفع على انه مبتدا خبره ما بعده- او خبر مبتدا محذوف و ما بعده صفته الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ملكا و حلقا وَ وَيْلٌ اى حلول شرّ و

قال البيضاوي هو نقيض الواو و هو النجاة و أصله النصب لانه مصدر كالهلاك الا انه لم يشتق منه لكنه رفع لافادة الثبات

فهو وعيد لِلْكافِرِينَ بالكتاب الّذين لم يخرجوا من الظلمات الى النور مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢)

٣

الَّذِينَ صفة للكافرين او منصوب على الذم او مرفوع عليه- تقديره اعنى الّذين او هم الذين او مرفوع على انه مبتدا خبره ما بعد الصلة يَسْتَحِبُّونَ اى يختارون فان المختار للشي ء يطلب من نفسه ان يكون أحب إليها من غيره الْحَياةَ الدُّنْيا اى لذّاتها عَلَى الْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ اى يمنعون الناس عَنْ سلوك سَبِيلِ اللّه باتباع رسوله وَ يَبْغُونَها اى يطلبون سبيل اللّه عِوَجاً اى يطلبون لها اعوجاجا عن الحق ليقدحوا فيه- فحذف الجار و أوصل الفعل اليه- او المعنى يطلبون سبيل اللّه مائلين عن الحق مع كون ذلك محالا- و قيل الضمير المنصوب فى يبغونها راجعة الى الدنيا يعنى يطلبون الدنيا على طريق الميل عن الحق اى بجهة الحرص الحرام أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) عن الحق و البعد فى الحقيقة للصّالّ فوصف به الضلال للمبالغة- او للامر الّذي به الضلال فوصف به للملابسة-.

٤

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ اى بلغة قَوْمِهِ الّذي هو منهم و بعث فيهم- اخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة قال بلسان قومه اى بلغتهم ان كان عربيا فعربيا- و ان كان أعجميا فاعجميا- و ان كان سريانيا فسريانيا لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ما أمروا به فيفقهوه عنه بيسر و سرعة- و يتخذ الرسول بذلك حجة عليهم و قد كان الرسل من قبل النبي صلى اللّه عليه و سلم مبعوثين كل واحد منهم الى قومه فبينوا لهم- و بعث النبي صلى اللّه عليه و سلم الى الناس كافة- لكنه امر اولا بدعوة قومه حيث قال اللّه تعالى وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ- قال اللّه تعالى لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها- و قال لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ- فارسل بلسان عربى مبين لاهل الحجاز و الناس كافة تبع لهم حيث تعلّموا من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم نقلوه و ترجموه و لذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الناس تبع لقريش فى الخير و الشر- رواه احمد و مسلم فى الصحيح عن جابر يعنى سائر الكفار تبع لكفار قريش فى الكفر حيث كفروا اولا ثم كفر غيرهم فعليهم اثمهم أجمعين و المؤمنون كلهم تبع لمؤمنى قريش حيث أمنوا اولا فلهم اجر كلهم- عن جرير قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من سنّ فى الإسلام سنة حسنة فله أجرها و اجر من عمل بها- من غير ان ينقص من أجورهم شي ء- و من سنّ فى الإسلام سنة سيئة فله وزرها و وزر من عمل بها- من غير ان ينقص من أوزارهم شي ء- رواه مسلم و روى ابن عساكر عن ابى سعيد بسند ضعيف الناس تبع لكم يا اهل المدينة فى العلم- و المراد باهل المدينة المهاجرون و الأنصار فان غيرهم تبع لهم لكن الأنصار تبع للمهاجرين فلا منافاة بين الحديثين- و عن ابى رافع عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال الشيخ فى اهله كالنبى فى أمته- رواه الجليلى فى مشيخته و ابن النجار و عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم الشيخ فى بيته كالنبى فى قومه- رواه ابن حبان فى الضعفاء و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم العلماء ورثة الأنبياء الحديث رواه احمد و الترمذي و ابو داود و ابن ماجة و الدارمي عن كثير بن قيس و سماه الترمذي قيس بن كثير- و عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان الناس لكم تبع- و ان رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون فى الدين فاذا أتوكم فاستوب ثوابهم خيرا- رواه الترمذي و قيل الضمير فى قومه لمحمّد صلى اللّه عليه و سلم يعنى انزل الكتب كلها بالعربية ثم ترجمها جبرئيل- أخرجه ابن مردوية من طريق الكلبي عن ابن عباس قال كان جبرئيل يوحى اليه بالعربية و ينزل هو الى كل نبى بلسان قومه

و اخرج ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن سفيان الثوري قال لم ينزل وحي الا بالعربية ثم ترجمه كل نبى لقومه بلسانهم- و قال لسان يوم القيامة سريانية و من دخل الجنة تكلم بالعربية-

قلت و إرجاع ضمير قومه الى محمّد صلى اللّه عليه و سلم بعيد و يأبى عنه قوله تعالى لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّه مَنْ يَشاءُ فيخزله عن الايمان وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالتوفيق و خلق إذعان الحق فيه وَ هُوَ الْعَزِيزُ الّذي لا يغلب على مشيته أحد من يهد اللّه فلا مضل له و من يضللّه فلا هادى له الْحَكِيمُ (٤) الّذي لا يضلّ و لا يهدى الا لحكمة-.

٥

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا التسع أَنْ أَخْرِجْ ان مفسرة لان فى الإرسال معنى القول- او مصدرية بتقدير حرف الجر فان صيغ الافعال فى الدلالة على المصدر سواء فيجوز إدخال ان المصدرية على كلها اى بان اخرج قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (٥) وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّه قال ابن عباس و أبيّ بن كعب و مجاهد و قتادة بنعم اللّه- و قال مقاتل بوقائع اللّه فى الأمم السابقة قوم نوح و عاد و ثمود- يقال فلان عالم بايام العرب اى بوقائعهم- و التقدير فذكرهم بما كان فى ايام اللّه الماضية من النعمة او البلاء إِنَّ فِي ذلِكَ الوقائع لَآياتٍ على وجود الصانع و علمه و قدرته و حكمته و وحدته لِكُلِّ صَبَّارٍ يصبر كثيرا على البلاء و الطاعة عن المعصية شَكُورٍ (٥) يشكر كثيرا على نعمائه و المراد به لكل مؤمن- جعل اللّه سبحانه الصبار و الشكور عنوان المؤمنين تنبيها على انه لا بد لكل مؤمن ان يتصف بهذين الوصفين- اخرج ابن ابى حاتم و البيهقي فى شعب الايمان من طريق ابى ظبيان عن علقمة عن ابن مسعود قال الصبر نصف الايمان و اليقين الايمان كله- فذكر هذا الحديث للعلاء بن بدر فقال او ليس فى القران إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ- انّ فى ذلك لآيات لّلمؤمنين- و روى البيهقي عن انس عنه صلى اللّه عليه و سلم الايمان نصفان نصف فى الصبر و نصف فى الشكر- و روى ابو يعلى و الطبراني فى مكارم الأخلاق الايمان صبر و سماحة- و روى مسلم و احمد عن صهيب مرفوعا عجبا لامر المؤمن ان امره كله خير و ليس ذلك لاحد الا للمؤمن ان أصابته سراء شكر و كان خيرا له و ان أصابته ضراء صبر و كان خيرا له و روى البيهقي عن سعد بن ابى وقاص بلفظ عجب للمسلم إذا أصابته مصيبة احتسب و صبر و إذا أصابته خير حمد اللّه و شكر- ان المسلم يؤجر فى كل شي ء حتّى اللقمة يرفعها الى فيه- و عن ابى الدرداء و قال سمعت أبا القاسم صلى اللّه عليه و سلم يقول ان اللّه تبارك و تعالى قال يا عيسى انى باعث بعدك امة إذا أصابهم ما يحبون حمدوا اللّه و ان أصابهم ما يكرهون احتسبوا و صبروا- و لا حلم و لا عقل فقال يا رب و كيف هذا لهم و لا حلم و لا عقل قال أعطيهم من حلمى و علمى- رواه البيهقي فى شعب الايمان-.

٦

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ الظرف اعنى قوله إِذْ أَنْجاكُمْ متعلق بنعمة اللّه اى بنعمة اللّه وقت انجائه إياكم- او بعليكم ان جعلت مستقرة صفة للنعمة غير صلة له و اريدت بالنعمة العطية دون الانعام- و يجوز ان يكون بدل اشتمال من نعمة اللّه يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ احوال من ال فرعون او من ضمير المخاطبين او منهما جميعا- و المراد بالعذاب هاهنا غير التذبيح و ما عطف عليه من استعبادهم و استعمالهم بالأعمال الشاقة- بدليل العطف عليه- بخلاف سورة البقرة و الأعراف فان هناك التذبيح مع ما عطف عليه تفسير للعذاب وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦)

٧

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ هذا ايضا من كلام موسى عليه السلام و معنى تأذّن اعلم مثل اذن لكنه ابلغ لما فى التفعّل معنى التكلف و المبالغة لَئِنْ شَكَرْتُمْ يا بنى إسرائيل نعمتى فامنتم و أطعتم نبيكم لَأَزِيدَنَّكُمْ فى النعمة فان الشكر قيد للموجود و صيد للمفقود قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من اعطى الشكر لم يحرم الزيادة رواه ابن مردوية عن ابن عباس- و قيل معناه لان شكرتم بالطاعة لازيدنكم فى الثواب وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ نعمتى إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) تقديره أعذبكم عذابا شديدا بسلب النعمة فى الدنيا و العذاب فى الاخرة لان عذابى لشديد- فحذف الجزاء و أقيم العلة مقامه تعريضا للوعيد فان التصريح فى الوعد و التعريض فى الوعيد من عادات الأكرمين و تنبيها على ان المزيد لازم للشكر لا يتخلف عنه- و العذاب بعد الكفر ان فى مشية اللّه تعالى ان شاء عذب و ان شاء عفا عنه- و الجملة الشرطية مفعول قول مقدر- او مفعول تاذّن على انه جار مجرى قال لانه نوع منه.

٨

وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ يا بنى إسرائيل وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثقلين و لا تشكروا فَإِنَّ اللّه لَغَنِيٌّ عن شكركم حَمِيدٌ (٨) مستحق للحمد فى ذاته- محمود بحمد صدر من ذاته لذاته ازلا و ابدا- و بحمد صادر عن الملائكة و من كل ذرة من ذرات المخلوقات- و التقدير و لان كفرتم أضررتم أنفسكم بتعريضها للعذاب الشديد و تحريمها عن مزيد الانعام دون اللّه تعالى فانه غنى حميد-.

٩

أَ لَمْ يَأْتِكُمْ استفهام تقرير من كلام موسى لبنى إسرائيل- او كلام مبتدا من اللّه تعالى خطا بالامة محمّد صلى اللّه عليه و سلم نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ (٥) ... وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مثل قوم ابراهيم نمرود و غيره و قوم لوط و اصحاب الرس و اصحاب مدين و اصحاب الايكة و قوم تبع لا يَعْلَمُهُمْ اى لا يعلم عددهم لكثرتهم إِلَّا اللّه جملة معترضة روى عن ابن مسعود انه قرا هذه الاية ثم قال كذب النسابون- و عن ابن عباس قال بين ابراهيم و بين عدنان ثلاثون قرنا لا يعلمهم الا اللّه- و كان مالك بن انس يكره ان ينسب الإنسان نفسه أبا أبا الى آدم عليه السلام و كذلك فى حق النبي صلى اللّه عليه و سلم جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ من اللّه تعالى بِالْبَيِّناتِ اى المعجزات الواضحة الدلالة فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ اى أفواه أنفسهم- قال ابن مسعود عضوا على أيديهم غيظا كما قال اللّه تعالى عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ- و قال ابن عباس لما سمعوا كتاب اللّه عجبوا و رجعوا بايديهم الى أفواههم يعنى وضعوا عليها تعجبا و استهزاء عليه كمن غلبه الضحك- و قال الكلبي ردوا أيديهم فى أفواههم اى وضعوا الأيدي على الأفواه اشارة للرسل ان اسكتوا و أمروا لهم باطباق الأفواه- او المعنى ردوا أيديهم فى أفواه الرسل فقال مقاتل ردوا أيديهم فى أفواه الرسل يسكتونهم بذلك و قيل الأيدي بمعنى الأيادي اى النعم يعنى ردوا أيادي الأنبياء الّتي هى موعظتهم و ما اوحى إليهم من الحكم و الشرائع فى أفواههم- لانهم إذا كذّبوها و لم يقبلوها فكانهم ردوها الى حيث جاءت منه- و هو معنى قول مجاهد و قتادة قالا يعنى كذبوا الرسل و ردّوا ما جاءوا به- يقال رددت قول فلان فى فيه اى كذّبته- و قيل معنى فى أفواههم بأفواههم يعنى ردوا أيادي الأنبياء و نعمهم من الحكم و المواعظ بأفواه أنفسهم اى بألسنتهم وَ قالُوا اى الأمم للرسل إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ فى زعمكم وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الايمان باللّه و توحيده مُرِيبٍ (٩) اى موقع للريبة أوذي ريبة-.

١٠

قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللّه شَكٌّ الاستفهام للانكار- و شكّ مرفوع بالظرف و ادخلت الهمزة على الظرف لان الكلام فى المشكوك فيه دون الشك- يعنى انما ندعوكم الى اللّه وحده و هو امر لا يحتمل الشك لدلالة كل شي ء من المحسوسات و المعقولات على وجوده و وحدته و اشاروا الى ذلك بقولهم فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ صفة او بدل يَدْعُوكُمْ الى نفسه و الى الايمان به ببعثة إيانا إليكم لِيَغْفِرَ لَكُمْ او المعنى يدعوكم الى المغفرة كقولك دعوته لينصرنى مِنْ ذُنُوبِكُمْ قيل من زائدة لقوله صلى اللّه عليه و سلم الإسلام يهدم ما كان قبله- رواه مسلم فى حديث عمرو بن العاص و قيل من للتبعيض فان الإسلام يهدم من الذنوب ما كان بينه و بين اللّه دون المظالم- قال بعض العلماء جي ء بمن فى خطاب الكفرة دون المؤمنين حيث وقع فى القران تفرقة بين الخطابين- و لعل وجه ذلك ان المغفرة حيث جاءت فى خطاب الكفار جاءت مرتبة على الايمان- و حيث جاءت فى خطاب المؤمنين جاءت مشفوعة بالطاعة و التجنب عن المعاصي و نحو ذلك فيتناول الخروج عن المظالم وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى اى الى وقت سماه اللّه و جعله اخر اعماركم فلا يعاجلكم بالعذاب- و هذا يدل على ان الإصرار على الكفر فى حق المعذبين من الأمم كان معلّقا به لاهلاكهم- و كان فىالقضاء المعلق انهم لو أمنوا لطال أعمارهم قالُوا للرسل إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فى الماهية و الصورة لا فضل لكم علينا فلم تخصون من دوننا و لو شاء اللّه ان يبعث الى البشر رسولا لبعث من جنس أفضل كقولهم لَوْ شاءَ اللّه لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ... تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا بهذه الدعوة فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) اى حجة واضحة على فضلكم او استحقاقكم هذه الكرامة او على صحة دعواكم النبوة- ما قنعوا بالمعجزات البينات الّتي جاءت بهم رسلهم- و اقترحوا عليهم بايات اخر تعنتا و عنادا-.

١١

قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللّه يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بالنبوة و غير ذلك- بينوا وجه اختصاصهم بالنبوة انه فضل اللّه تعالى و إحسانه بعد تسليمهم مشاركتهم فى الجنس وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه اى لا يمكن لنا إتيان الآيات باختيارنا و استطاعتنا حتّى نأتى بما اقترحتموه- انما هو امر متعلق بمشية اللّه تعالى- فيعطى كل نبى نوعا من المعجزات ما فيه كفاية للاستدلال على صحة دعوى النبوة وَ عَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) كانّه ارشاد لمن أمنوا بهم و اتّبعوهم بالصبر و التوكل على اللّه فى معاندة الكفار- و قصدوا به أنفسهم قصدا اوليّا كانهم قالوا من حقنا التوكل على اللّه- و فيه اشعار بان الايمان باللّه يقتضى التوكل عليه- لان المرء إذا اعتقد ان الخالق للخير و الشر و المعطى و المانع انما هو اللّه الواحد القهار لا غير لزمه ان يفوض امره اليه لا غير- ثم بيّنوا ما أشعروا به بقولهم.

١٢

وَ ما لَنا اى للمؤمنين أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّه يعنى اىّ عذر لنا فى عدم التوكل وَ قَدْ هَدانا اللّه سُبُلَنا الّتي بها نعرف و نعلم ان الأمور كلها بيد اللّه لا غير فامنا به وَ لَنَصْبِرَنَّ نحن و جميع اتباعنا عَلى ما آذَيْتُمُونا ايها الكفار جواب قسم محذوف اى و اللّه لنصبرن- أكدوا بالقسم توكلهم و عدم مبالاتهم بما يفعل بهم الكفار وَ عَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) يعنى فليثبت على توكلهم الّذي اقتضاه ايمانهم-.

١٣

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا جمع الكفار بانكارهم دعوى الرسالة وعيدهم بالإخراج- و حلفوا ان يكون أحد الامرين اما إخراجهم الرسل أو عودهم- يعنى صيرورة الرسل الى ملتهم- فان الرسل ما كانوا على ملة الكفار قط- و يجوز ان يكون الخطاب لكل رسول و لمن أمن معه فغلبوا الجماعة على الواحد او كان الترديد للتوزيغ يعنى لنخرجن من لم يعد و لنبقين من عاد منكم الى ملتنا- و جاز ان يكون او بمعنى الّا ان- او الى ان يعنون و اللّه لنخرجنكم الا ان ترجعوا او الى ان ترجعوا الى ملتنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ اى الى الرسل رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) على إضمار القول او اجراء الإيحاء مجراه لكونه نوعا منه.

١٤

وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ ايها الرسل و من أمن معكم الْأَرْضَ اى ارض الكفار و ديارهم مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد إهلاكهم ذلِكَ اشارة الى الموحى و هو إهلاك الأعداء و تسليطهم على الأرض لِمَنْ خافَ مَقامِي اى قيامه بين يدىّ يوم القيامة- نظيره قوله تعالى لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ- فاضاف قيام العبد الى نفسه- او المعنى لمن خاف موقفى و هو الموقف الّذي يقيم فيه العباد للحكومة يوم القيامة- او قيامى عليه و حفظى اعماله- و قيل المقام مقحم و المعنى لمن خافنى وَ خافَ وَعِيدِ (١٤) اثبت الياء ورش فى الوصل فقط و الباقون يحذفونها فى الحالين اى خاف وعيدي بالعذاب او عذابى الموعود للكفار-.

١٥

وَ اسْتَفْتَحُوا سالوا من اللّه الفتح على أعدائهم او القضاء بينهم و بين أعدائهم من الفتاحة- كقوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ- و هو معطوف على فاوحى و الضمير للانبياء كذا قال مجاهد- اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن مجاهد و كذا قال قتادة يعنى لما يئسوا من ايمان قومهم دعوا اللّه بالفتح و العذاب على قومهم- كما قال نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً- و قال موسى رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ او للكفرة كذا قال ابن عباس و مقاتل كما قالُوا اللّهمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ- و قيل للفريقين فان كلهم سالوا ان ينصر المحق و يهلك المبطل- كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ و خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) معطوف على محذوف تقديره ففتح لهم فافلح المؤمنون- و خاب يعنى خسرو هلك كلّ جبّار يعنى عات متكبر على اللّه فى القاموس تجبّر تكبّر يقال الجبار للّه تعالى لتكبره بالحق- و لكل عات لتكبره بالباطل- او صاحب قلب لا تدخله الرحمة و قتّال فى غير حق- او متكبر لا يرى لاحه عليه حقّا-

قال البغوي الجبار الّذي لا يرى فوقه أحدا «١»- و الجبرية طلب العلو بما لا غاية وراءه و هذا الوصف لا يستحقه الا اللّه تعالى- فمن ادعى غيره يستحق اللعن و الطرد و الخيبة- و قيل الجبار الّذي يجبر الخلق على مراده- و العنيد المعاند للحق و مجانبه- فى القاموس عند خالف الحق عارفا به فهو عنيد و عاند- و قال ابن عباس هو المعرض عن الحق- و قال مقاتل المتكبر- و قال قتادة العنيد الّذي ابى ان يقول لا اله الا اللّه.

(١) فى الأصل أحد-.

١٦

مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ اى امامه بين يديه كانه مرصد بها واقف على شفيرها فى الدنيا- مبعوث إليها فى الاخرة و قيل مِنْ وَرائِهِ اى وراء حيوته يعنى بعده- قال مقاتل مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ اى بعده- قال ابو عبيدة هو من الاضداد اى يكون بمعنى الامام و الخلف و حقيقته ما يوارى عنك وَ يُسْقى عطف على محذوف تقديره من ورائه جهنّم يلقى فيها و يسقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) و هو ما يسيل من جلود اهل النار و أجوافهم مختلطا بالقيح و الدم عطف بيان لماء- قال محمّد بن كعب ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر-

و اخرج البيهقي عن مجاهد فى قوله تعالى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ قال القيح و الدم- روى احمد و الترمذي و النسائي و الحاكم و صححه و ابن جرير و ابن ابى حاتم و ابن المنذر و ابن ابى الدنيا فى صفة النار و البيهقي و البغوي عن ابى امامة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فى هذه الاية قال يقرّب اليه فيستكرهه فاذا ادنى منه شوى وجهه و وقع فروة رأسه فاذا شربه قطّع امعاءه حتّى يخرج من دبره- فيقول اللّه تعالى وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ- ... وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ....

١٧

يَتَجَرَّعُهُ اى يتكلف فى شربه يشربه جرعة جرعة و هو صفة لماء او حال من ضمير فى يسقى وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ اى لا يقارب ان يسيغه فكيف يسيغه بل يغصّ به فيطول عذابه- و السوغ جواز الشرب عن الحلق بسهولة و قبول النفس- فى القاموس ساغ الشراب سوغا اى سهل مدخله وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ اى أسبابه من الشدائد و انواع العذاب مِنْ كُلِّ مَكانٍ اى من جميع جوانبه فيحيط به او يأتيه شدائد الموت و الامه من كل موضع من جسده- اخرج ابن الى شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن ابراهيم التيمي حتّى يأتيه من موضع كل شعرة من جسده وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ فيستريح- قال ابن جريج تعلق نفسه أعلى حنجرته فلا يخرج من فيه و لا يرجع الى مكانها من جسده-

و اخرج ابن المنذر عن فضيل بن عياض رضى اللّه عنه انه حبس الأنفاس وَ مِنْ وَرائِهِ اى بعد ذلك العذاب و بين يديه عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) أشدّ مما سبق و قيل هو الخلود فى النار- قيل الاية منقطعة عن قصة الرسل نازلة فى اهل مكة- طلبوا الفتح الّذي هو المطر فى سنينهم الّتي أرسل اللّه عليهم بدعوة رسوله صلى اللّه عليه و سلم- فخيب رجاؤهم و وعد لهم انهم يسقون فى جهنم صديد اهل النار بدل سقياهم-.

١٨

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ اى صفتهم الّتي هى فى الغرابة مثل مبتدا خبره محذوف اى فيما يتلى عليكم و قوله أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ جملة مستأنفة لبيان مثلهم او هذه الجملة خبر لمثل- و قيل أعمالهم بدل من المثل و الخبر كرماد اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ اى حملته و أسرعت الذهاب به قرا نافع الرّياح على الجمع و الباقون على الافراد فِي يَوْمٍ عاصِفٍ العصوف اشتداد الرياح وصف به زمانه للمبالغة- كقولهم نهاره صائم و ليله قائم- و المراد بأعمالهم ما يزعمونها حسنات و يرجون حسن جزائها كالصدقة و صلة الرحم و اعانة الملهوف و عتق الرقاب و نحو ذلك شبه اللّه سبحانه أعمالهم فى حبوطها يرماد طيرته الرياح العاصفة لبنائها على غير أساس من معرفة اللّه و ابتغاء وجه اللّه- او لكونها للاصنام الّتي لا يشعرن «١» بعبادتهن و لا يستطعن على شي ء لا يَقْدِرُونَ اى الكفار يوم القيامة مِمَّا كَسَبُوا فى الدنيا من الأعمال عَلى شَيْ ءٍ اى لا يجدون لها ثوابا أصلا- و لا يرون لها اثرا لحبوطها- و هذا ملخص التمثيل ذلِكَ اشارة الى ضلالهم مع حسبانهم انهم محسنون هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) غاية البعد عن طريق الحق حتّى كان حسناتهم ضلالا لكونها شركا باللّه مقصودا فيه غيره فكيف السيئات.

(١) فى الأصل يشعرون.

١٩

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّه خَلَقَ السَّماواتِ قرا حمزة و الكسائي خالق السّموت و فى سورة النور خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ على وزن فاعل مضافا- و الباقون خلق على الماضي وَ الْأَرْضَ قرأ حمزة و الكسائي بالجر و الباقون بالنصب بِالْحَقِّ اى بالحكمة البالغة و الوجه الّذي يحق ان يخلق له- و ذلك ان يكون دليلا على وجود الصانع مرشدا للناس الى الحق و الايمان إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ اى يعدمكم وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) اى يخلق خلقا اخر أطوع منكم- رتب ذلك على كونه خالقا للسموات و الأرض مستدلّا به عليه- فان من خلق ذلك يقدر على «٢» ان يبدّلهم بخلق اخر- و لم يمتنع ذلك كما قال.

(٢) فى الأصل يقدر ان يبدلهم.

٢٠

وَ ما ذلِكَ عَلَى اللّه بِعَزِيزٍ (٢٠) متعذر و متعسر فانه قادر لذاته لا اختصاص له بمقدور دون مقدور- و من هذا شأنه كان حقيقا لان يعبد و يطاع و لا يعصى رجاء لثوابه و خوفا من عقابه-.

٢١

وَ بَرَزُوا للّه جَمِيعاً اى يبرزون من قبورهم يوم القيامة لامر اللّه و محاسبته- و انما ذكر لفظ الماضي لتحقق وقوعه فَقالَ الضُّعَفاءُ اى الاتباع- جمع ضعيف يريد به ضعاف الحال فى الدنيا لقلة متاع الدنيا- او ضعاف الرأى لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا اى تكبروا على الناس و هم القادة و الرؤساء الذين منعوهم عن اتباع الرسل إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً جمع تابع كحارس و حرس يعنى اتبعناكم فى تكذيب الرسل و الاعراض عن نصائحهم فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ دافعون عَنَّا مِنْ عَذابِ اللّه من للبيان واقعة موقع الحال مِنْ شَيْ ءٍ من للتبعيض واقعة موقع المفعول به- يعنى هل أنتم دافعون بعض شي ء كائن من عذاب اللّه- و يحتمل ان تكون من فى الموضعين للتبعيض و يكون الاولى مفعولا و الثانية مصدرا- يعنى فهل أنتم مغنون عنا بعض العذاب بعض الإغناء قالُوا اى المستكبرون جوابا عن معاتبة الاتباع و اعتذارا عمّا فعلوا بهم لَوْ هَدانَا اللّه للايمان لَهَدَيْناكُمْ لدعوناكم الى الهدى- و لكن ضللنا فاضللناكم اى اخترنا لكم ما اخترنا لانفسنا- او المعنى لو هدانا اللّه طريق النجاة من العذاب لهديناكم و اغنيناه عنكم كما عرضناكم له و لكن سدد بنا طريق الخلاص سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا الجملة فى موضع الحال اى مستويا علينا الجزع و الصبر ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) اى من منجا و مهرب- من الحيص و هو العدول على جهة الفرار- و هو اما مصدر كغيب او ظرف مكان كمبيت- و الجملة اما من كلام القادة او من كلام الفريقين- قال مقاتل يقولون فى النار تعالوا نجزع فيجزعون خمس مائة عام فلا ينفعهم الجزع- فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون خمس مائة عام فلا ينفعهم الصبر- فحينئذ يقولون سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ- اخرج ابن ابى حاتم و الطبراني و ابن مردوية عن كعب بن مالك رفعه الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فيما احسب فى هذه الاية قال يقول اهل النار هلموا فلنصبر فيصبرون خمس مائة عام- فلما راوا ذلك قالوا سوآء الاية- قال محمّد بن كعب القرظي بلغني ان اهل النار استغاثوا بالخزنة قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ- فردت الخزنة ا لم يأتكم رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى - فردت الخزنة عليهم فَادْعُوا وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ- فلمّا يئسوا مما عند الخزنة نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ سألوا الموت فلا يجيبهم ثمانين سنة- و السنة ستون و ثلاثمائة يوما- و اليوم كالف سنة ثم يحطّ إليهم بعد الثمانين إِنَّكُمْ ماكِثُونَ- فلما يئسوا مما قبله قال بعضهم لبعض انه نزل بكم من البلاء ما نزل- فهلم فلنصبر فلعل الصبر ينفعنا- كما صبر اهل الدنيا على طاعة اللّه فنفعهم- فاجمعوا على الصبر فطال صبرهم- ثم جزعوا فطال جزعهم- فنادوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ اى من منجا- قال فقام إبليس عند ذلك فخطبهم فقال.

إِنَّ اللّه وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ فلمّا سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم- فنودوا لَمَقْتُ اللّه أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ- فنادوا الثانية رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ- فرد عليهم وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها الآيات- فنادوا الثالثة رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ- فرد عليهم أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ الآيات- ثم نادوا الرابعة رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ- فرد عليهم أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ- فمكث عنهم ما شاء اللّه ثم ناداهم أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ- فلما سمعوا ذلك قالوا الا يرحمنا ربنا ثم نادوا عند ذلك رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ- فقال عند ذلك اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ- فانقطع الرجاء و الدعاء منهم فاقبل بعضهم على بعض ينيح «١» بعضهم فى وجوه بعض و أطبقت عليهم النار قوله عزّ و جلّ-

(١) هكذا فى النسخة الهندية من البغوي و فى النسخة المصرية منه ينفخ بدل ينيح- عبد الرّحمن غفر له خادم دار الافتا امينيه دهلى.

٢٢

وَ قالَ الشَّيْطانُ إبليس لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ اى احكم و فرغ عنه و دخل اهل الجنة الجنة و اهل النار النار- قال مقاتل يوضع له منبر فى النار فيجتمع الكفار بالائمة فيقول خطيبا فى الأشقياء من الثقلين- اخرج الطبراني فى الكبير و ابن المبارك و ابن جرير و ابن مردوية و ابن ابى حاتم و البغوي الثلاثة فى تفاسيرهم عن عقبة بن عامر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا جمع اللّه بين الأولين و الآخرين و قضى بينهم و فرغ من القضاء- يقول المؤمنون قد قضى بيننا ربنا و فرغ فمن يشفع لنا الى ربنا- فيقولون آدم خلقه بيده و كلّمه- فيأتونه فيقولون قضى بيننا ربنا و فرغ من القضاء

قم أنت فاشفع لنا- فيقول ايتوا نوحا فياتون نوحا فيدلهم على ابراهيم- فيأتون ابراهيم فيدلهم على موسى- فيأتون موسى فيدلهم على عيسى- فيقول أدلكم على النبي الأمي العربي الأفخر فيأتوننى فيأذن اللّه لى ان أقوم اليه- فيثوّر مجلسى من أطيب ريح ما شمها أحد قط حتّى اتى ربى عز و جل فيشفّعنى و يجعل لى نورا من شعر رأسى الى ظفر قدمى- ثم يقول الكفار قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون ما هو غير إبليس الّذي أضلنا- فيأتونه فيقولون قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فانك أنت اضللتنا فيقوم فيثوّر مجلسه من أنتن ريح ما شمها أحد قط ثم يعظم لجهنم و يقول عند ذلك إِنَّ اللّه وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ اى وعدا انجزه او كان من حقه ان ينجز و هو الوعد بالبعث و الجزاء وَ وَعَدْتُكُمْ وعد الباطل ان لا بعث و لا حساب- و ان كان فالاصنام تشفع لكم فَأَخْلَفْتُكُمْ جعل تبيين خلف وعده كالاخلاف منه وَ ما كانَ لِي فتح الياء حفص و الباقون اسكنوها عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ من تسلط فالجيكم الى الكفر و المعاصي و قيل معناه لم اتكم بحجة فيما دعوتكم اليه إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ اى الا دعائى إياكم إليها بتسويل و هو ليس من جنس السلطان و لكنه على طريقة قولهم تحية بينهم ضرب وجيع- و يجوز ان يكون الاستثناء منقطعا فَاسْتَجَبْتُمْ لِي اى أسرعتم الى إجابتي و أبيتم من اجابة صاحب الحجة البالغة فَلا تَلُومُونِي بوسوستي فان من طرح العداوة لايلام بمثل ذلك وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث أطعتموني من غير سلطان و لا برهان و لم تطيعوا ربكم- احتجت المعتزلة بامثال ذلك على استقلال العبد بأفعاله و ليس فيها ما يدل عليه إذ يكفى لصحتها ان يكون لقدرة العبد مدخل ما فى فعله و هو الكسب الّذي يقوله أصحابنا ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ بمغيثكم من العذاب وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ بمغيثىّ قرا حمزة بكسر الياء على الأصل فى التقاء الساكنين- و الباقون بفتح الياء لان الأصل مرفوض فى مثله لما فيه من اجتماع ثلاث كسرات- معه ان حركة ياء الاضافة الفتح فاذا لم تكسر و قبلها الف فبالحرى ان لا تكسر و قبلها ياء- و جاز ان يكون قراءة حمزة مبنية على لغة بنى يربوع يزيدون ياء على ياء الاضافة اجراء لها مجرى الهاء و الكاف فى ضربتموه و أعطينكاه- و حذفت الياء اكتفاء بالكسرة إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ قرأ ابو عمرو بإثبات الياء وصلا و الباقون يحذفونها فى الحالين مِنْ قَبْلُ ما اما مصدرية و من متعلقة باشركتمون يعنى كفرت اليوم اى تبرأت و استنكرت باشراككم ايّاى فى عبادة اللّه و طاعته من قبل هذا اليوم- اى فى الدنيا نظيره قوله تعالى وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ- او موصولة بمعنى من نحو ما فى قوله سبحان ما يسخركن لنا- و قوله تعالى وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها- و من متعلقة بكفرت اى كفرت بمن أشركتمونيه فى الطاعة و هو اللّه تعالى- حيث أطعتموني فيما دعوتكم اليه من عبادة الأصنام و غيرها كفرت من قبل اشراككم حين ردت امره بالسجود لادم - و أشرك فيقول من شركت زيدا للتعدية الى مفعول ثان و إِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) تتمة كلامه او ابتداء كلام من اللّه تعالى- و فى حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين و إيقاظ لهم حتّى يحاسبوا أنفسهم و يتدبروا عواقبهم-.

٢٣

وَ أُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ و المدخلون هم الملائكة تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) يسلّم بعضهم على بعض و يسلّم الملائكة عليهم- و قيل المحىّ بالسلام هو اللّه عزّ و جلّ-.

٢٤

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّه مَثَلًا كيف وضع اللّه مثلا و المثل قول سائر لتشبيه شي ء بشي ء كَلِمَةً طَيِّبَةً هى قول لا اله الا اللّه بالإخلاص كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ اى جعل كلمة طيبة كشجرة قوية مرتفعة فى السماء باقية طيبة الثمر و هو تفسير لقوله ضَرَبَ اللّه مَثَلًا- و يجوز ان «١» يكون كلمة بدلا من مثلا- و كشجرة صفتها او خبر مبتدا محذوف- اى هى كشجرة طيّبة و ان يكون كلمة اولى مفعولى ضرب اجراء له مجرى جعل أَصْلُها ثابِتٌ فى الأرض مستحكم ضارب بعروقه فيها وَ فَرْعُها أعلاها فِي السَّماءِ (٢٤) و يجوز ان يريد فروعها اى اقناؤها على الاكتفاء بلفظ الجنس لاكتساب الاستغراق من الاضافة.

(١) فى الأصل حذف الياء [.....].

٢٥

تُؤْتِي أُكُلَها تعطى ثمرها كُلَّ حِينٍ وقّته اللّه لاثمارها بِإِذْنِ رَبِّها اى بارادة خالقها و تكوينه- كذلك اصل هذه الكلمة راسخ فى قلب المؤمن بالمعرفة و التصديق فاذا تكلمت بها عرجت فلا تحجب حتّى تنتهى الى اللّه عزّ و جلّ- قال اللّه تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ- عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم التسبيح نصف الميزان و الحمد للّه يملؤه و لا اله الا اللّه ليس لها حجاب دون اللّه- رواه الترمذي و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما قال عبد لا اله الا اللّه مخلصا قط الا فتحت له أبواب السماء حتّى يفضى الى العرش ما اجتنب الكبائر- رواه الترمذي بسند حسن

و اخرج الترمذي و النسائي و ابن حبان و الحاكم و صححه من حديث انس انه صلى اللّه عليه و سلم قال الشجرة الطيبة النخلة و الشجرة الخبيثة الحنظلة- و الحين فى اللغة الوقت فقال مجاهد و عكرمة الحين هاهنا سنة كاملة لان النخلة يثمر كل سنة- و قال سعيد بن جبير و قتادة و الحسن ستة الشهر من وقت اطلاعها الى صرامها- و روى ذلك عن ابن عباس و قيل اربعة أشهر من حين ظهورها الى إدراكها- و قال سعيد بن المسيب شهر ان من حين يؤكل الى الصرام و قال الربيع بن انس كل حين اى كل غدوة و عشية- لان ثمر النخل يؤكل ابدا ليلا و نهارا صيفا و شتاء اما تمرا او رطبا او بسرا- كذلك عمل المؤمن يصعد أول النهار و أوسطه و آخره و كذلك أول الليل و أوسطه و آخره- و بركة الايمان لا ينقطع ابدا بل يصل اليه فى كل وقت- عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها و انها مثل المسلم فحدثونى ما هى- قال عبد اللّه فوقع الناس فى شجر البوادي و وقع فى نفسى انها النخلة فاستحييت- ثم قالوا حدثنا ما هى يا رسول اللّه قال هى النخلة-

قال البغوي لا يكون شجرة الا بثلاثة أشياء عرق راسخ و اصل قائم و فرع عال-

كذلك الايمان لايتم الا بثلاثة أشياء تصديق و قول باللسان و عمل بالأركان- و قال ابو ظبيان عن ابن عباس انه قال الشجرة الطيبة هى شجرة فى الجنة و عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من قال سبحان اللّه العظيم و بحمده غرست له نخلة فى الجنة- رواه الترمذي وَ يَضْرِبُ اللّه الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) فان فى ضربها زيادة إفهام و تذكير فانه تصوير للمعانى و ادناء لها من الحس-.

٢٦

وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ قلت الظاهر ان المراد بها ما قيل بالنفاق و لم يرد به وجه اللّه بدليل قوله تعالى كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ يعنى غير نافعة و لا مستقرة فى الأرض اجْتُثَّتْ اى انتزعت و اقتلعت مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ لان عروقها قريبة منه ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) استقرار كذلك الكلمة الّتي لم يرد بها وجه اللّه ليس لها منفعة ابدا- اخرج ابن مردوية من طريق حبان بن شعبة عن انس بن مالك فى هذه الاية قال هى الشربانة- قيل لانس ما الشربانة قال الحنظلة-

قلت الظاهر ان الشجرة الطيبة تعم النخلة و غيرها و كذا الخبيثة تعم الحنظلة و غيرها و ما ورد فى الحديث انما هو ذكر بعض افراده على سبيل التمثيل-.

٢٧

يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ يعنى بكلمة التوحيد المقرونة بالإخلاص فان لها ثبات و تمكن فى القلوب و لثوابها ثبات عند اللّه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فلا يزالون عن دينهم إذا فتنوا فى دينهم كزكريا و يحيى و جرجيس و شمعون و اصحاب الأخدود و خبيب و أصحابه و اصحاب بئر معونة وَ فِي الْآخِرَةِ يعنى إذا سئلوا فى القبور وَ يُضِلُّ اللّه الظَّالِمِينَ اى المنافقين و الكافرين فلا يثبتهم على القول الثابت فى مواقف الفتن- و تزل أقدامهم أول كل شي ء و هم فى الاخرة أضل و ازل- اخرج الائمة الستة عن البراء بن عازب عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال المسلم إذا سئل فى القبر يشهد ان لا اله الا اللّه و ان محمّدا رسول اللّه- فذلك قوله تعالى يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ- و فى رواية عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ نزلت فى عذاب القبر- يقال له من ربك فيقول ربى اللّه و نبىّ محمّد صلى اللّه عليه و سلم- متفق عليه و رواه احمد و ابو داود و غيرهما بلفظ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول ربى اللّه- فيقولان له ما دينك فيقول دينى الإسلام- فيقولان ما هذا الرجل الّذي بعث فيكم فيقول هو رسول اللّه- فيقولان له و ما يدريك فيقول قرأت كتاب اللّه فامنت به و صدقت- فذلك قوله تعالى يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ الاية- قال فينادى مناد من السماء ان صدق عبدى فافرشوه من الجنة و ألبسوه من الجنة و افتحوا له بابا الى الجنة- قال فيأتيه من روحها و طيبها و يفسح له فيها مد بصره- و اما الكافر فذكر موته قال و يعاد روحه فى جسده و يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان من ربك فيقول هاه هاه لا أدرى- فيقولان له ما دينك فيقول هاه هاه لا أدرى- فيقولان ما هذا الرجل الّذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدرى- فينادى مناد من السماء ان كذب فافرشوه من النار و ألبسوه من النار و افتحوا له بابا الى النار- قال فيأتيه من حرها و سمومها قال و يضيق عليه قبره حتّى يختلف فيه أضلاعه- ثم يقيض له أعمى أصم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها على جبل لصار ترابا- فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق و المغرب الا الثقلين- فيصير ترابا ثم يعاد فيه الروح- و عن عثمان قال كان النبي صلى اللّه عليه و سلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال استغفروا لاخيكم ثم سلوا له التثبت فانه الان يسئل- رواه ابو داود و عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان العبد إذا وضع فى قبره و تولى عنه أصحابه انه ليسمع قرع نعالهم- أتاه ملكان فيقعد انه فيقولان ما كنت تقول فى هذا الرجل لمحمّد فاما المؤمن فيقول اشهد انه عبد اللّه و رسوله- فيقال له انظر الى مقعدك من النار قد أبدلك اللّه به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا- و اما المنافق و الكافر فيقال له ما كنت تقول فى هذا الرجل فيقول لا أدرى كنت أقول ما يقول الناس فيقال لادريت و لا تليت- و يضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين- متفق عليه و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا أقبر «١» الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لاحدهما المنكر و للاخر النكير فيقولان ما كنت تقول فى هذا الرجل فيقول هو عبد اللّه و رسوله اشهد ان لا اله الا اللّه و اشهد ان محمّدا عبده و رسوله- فيقولان قد كنا نعلم انك تقول هذا ثم يفسح

(١) فى الأصل إذا قبر-.

فى قبره سبعون ذراعا فى سبعين ثم ينوّر له فيه ثم يقال له نم فيقول ارجع الى أهلي فاخبرهم- فيقولان نم كنومة العروس الّذي لا يوقظه الا أحب اهله اليه حتّى يبعثه اللّه من مضجعه ذلك- و ان كان منافقا قال سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله لا أدرى فيقولان قد كنا نعلم انك تقول ذلك- فيقال للارض التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذبا حتّى يبعثه اللّه من مضجعه ذلك- رواه الترمذي وَ يَفْعَلُ اللّه ما يَشاءُ (٢٧) من التوفيق و الخذلان و التثبيت و تركه من غير اعتراض عليه- عن ابى الدرداء عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال خلق اللّه آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فاخرج ذرية بيضاء كانهم الذر- و ضرب كتفه اليسرى فاخرج ذرية سوداء كانهم الحمم- فقال للذى فى يمينه الى الجنة و لا أبالي- و قال للذى فى كتفه اليسرى الى النار و لا أبالي- و عن أبيّ بن كعب قال لو ان اللّه عذب اهل سمواته و اهل ارضه عذبهم و هو غير ظالم لهم- و لو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم- و لو أنفقت مثل أحد ذهبا فى سبيل اللّه ما قبله اللّه منك حتّى تؤمن بالقدر و تعلم ان ما أصابك لم يكن ليخطيك و ما أخطأك لم يكن ليصيبك- و لو متّ على غير هذا لدخلت النار- و قال ابن مسعود مثل ذلك و حذيفة بن اليمان مثل ذلك و زيد بن ثابت عن النبي صلى اللّه عليه و سلم مثل ذلك رواه احمد و ابو داود و ابن ماجة-.

٢٨

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّه كُفْراً اى شكر نعمته كفرا بان وضعوا مكانه او بدلوا نفس النعمة كفرا- فانهم لما كفروا سلبت النعمة منهم فصاروا تاركين لها مختارين الكفر بدلها- روى البخاري فى الصحيح عن ابن عباس انه قال هم و اللّه كفار قريش قال عمرو هم قريش و محمّد صلى اللّه عليه و سلم نعمة اللّه-

و اخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال نزلت هذه الاية فى الذين قتلوا يوم بدر يعنى اهل مكة خلقهم اللّه و أسكنهم حرما يجبى اليه ثمرات كل شي ء- و دفع عنهم اصحاب الفيل و جعلهم قوام بيته و وسع عليهم أبواب رزقه بالفهم رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ- و بعث محمّدا صلى اللّه عليه و سلم رسولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ- و جعل سائر الناس تبعا لهم فكفروا تلك النعمة و عادوا محمّدا صلى اللّه عليه و سلم و استحبوا العمى على الهدى- فقحطوا سبع سنين و أسروا و قتلوا يوم بدر و صاروا اذلّاء فبقوا مسلوبى النعمة موصوفين بالكفر حتّى ماتوا او قتلوا وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ الذين تبعوهم فى الكفر دارَ الْبَوارِ (٢٨) اى دار الهلاك بحملهم على الكفر.

٢٩

جَهَنَّمَ عطف بيان لها يَصْلَوْنَها حال منها او من القوم اى داخلين فيها مقاسين لحرها و جاز ان يكون جهنم منصوبا بفعل مضمر يفسرها ما بعدها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) اى بئس المقر جهنم- اخرج ابن مردوية عن ابن عباس انه قال لعمر يا أمير المؤمنين هذه الاية الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّه كُفْراً قال هم الا فجران من قريش بنوا المغيرة و بنوا امية- اما بنوا مغيرة فكفيتموه يوم بدر و اما بنوا امية فمتعوا حتّى حين- و كذا ذكر البغوي قول عمر رضى اللّه عنه-

و اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و الطبراني فى الأوسط و الحاكم و صححه و ابن مردوية من طرق عن على بن ابى طالب رضى اللّه عنه فذكر مثله-

قلت اما بنوا امية فمتعوا بالكفر حتّى اسلم ابو سفيان و معاوية و عمرو بن العاص و غيرهم- ثم كفر يزيد و من معه بما أنعم اللّه عليهم و انتصبوا العداوة ال النبي صلى اللّه عليه و سلم و قتلوا حسينا رضى اللّه عنه ظلما و كفر يزيد بدين محمّد صلى اللّه عليه و سلم حتّى انشد أبياتا حين قتل حسينا رضى اللّه عنه- مضمونها اين أشياخي ينظرون انتقامي بال محمّد و بنى هاشم و اخر الأبيات

و لست من جندب ان لم انتقم من بنى احمد ما كان فعل

و ايضا أحل الخمر و قال

مدام كنز فى اناء كفضة و ساق كبد مع مدام كانجم

و شمسه كرم برجها قعرها و مشرقها الساقي و مغربها فهى

فان حرمت يوما على دين احمد فخذها على دين المسيح بن مريم

و سبّوا ال محمّد صلى اللّه عليه و سلم على المنابر- فمتعوا بهذه الضلالة الف شهر فانتقم اللّه منهم حتّى لم يبق منهم أحد.

٣٠

وَ جَعَلُوا للّه أَنْداداً اى أمثالا فى العبادة او التسمية مع انه ليس له ند لِيُضِلُّوا اللام لام العاقبة إذ ليس غرضهم من اتخاذ الانداد الضلال او الإضلال لكن لمّا كان نتيجته جعل كالغرض- قرا ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و كذلك فى الحج و لقمان و زمر من المجرد و الباقون بضم الياء من التفعيل اى ليضلوا الناس عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا بشهواتكم او بعبادة الأوثان و ضلالاتكم فى الدين الّتي هى ايضا من قبيل الشهوات الّتي يتمتع بها ما قدر لكم- قال ذو النون التمتع ان يقضى العبد ما استطاع من شهوته- و فى التهديد بصيغة امر إيذان بان المهدد عليه كالمطلوب لافضائه الى المهددية- و ان الامرين كائنان لا محالة و لذلك عللّه بقوله فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) و ان المخاطب لانهماكه فيه كالمأمور به من امر مطاع.

٣١

قُلْ يا محمّد لِعِبادِيَ قرا ابن عامر و حمزة و الكسائي بإسكان الياء و الباقون بفتحها الَّذِينَ آمَنُوا خصهم للامر بالخطاب و وصفهم بالعبودية و أضافهم الى نفسه تشريفا- و تنبيها على انهم هم المقيمون لحقوق العبودية أهلا للخطاب الممتثلون بما يقال لهم- و مفعول قل محذوف يدل عليه جوابه تقديره قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا اقيموا الصلاة و أنفقوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ مجزوم على جواب الأمر يعنى قل- جزاء الشرط مقدر يعنى ان تقل لهم اقيموا يقيموا- و فيه إيذان بانهم لفرط مطاوعتهم الرسول صلى اللّه عليه و سلم لا ينفك فعلهم عن امره و انه كالسبب الموجب له- و يجوز ان يقدر بلام الأمر فيكون مفعولا للقول سِرًّا وَ عَلانِيَةً منصوبان على المصدر اى انفاق سر و علانية مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره او يفدى به نفسه وَ لا خِلالٌ (٣١) اى مجالة و صداقة ليشفع له خليله-

فان قيل الخلة يوم القيامة ثابتة للمتقين بقوله تعالى الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ و شفاعة بعض المؤمنين لبعض ايضا ثابتة فما وجه نفى الجنس-

قلت الأمر باقامة الصلاة و إيتاء الزكوة امر بالتقوى فالمراد بالآية نفى جنس الخلة عند عدم التقوى و المعنى ان لم يتقوا باقامة الصلاة و إيتاء الزكوة لا يكون لهم يومئذ خليل- قرا ابن كثير و ابو عمرو و يعقوب بالفتح فيهما على اعمال لا الّتي لنفى الجنس- و الباقون بالرفع على ابطال عمل لا لاجل التكرار-.

٣٢

اللّه الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مبتدا و خبر وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ تعيشون به و هو يشتمل المطعوم و الملبوس رزقا مفعول لأخرج و من الثّمرات بيان له حال منه- و يحتمل عكس ذلك- و يجوز ان يكون رزقا منصوبا على المصدرية لانّ اخرج بمعنى رزق- او على العلية وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بالركوب و الحمل بِأَمْرِهِ اى بمشيته تعالى الى حيث توجهتم وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) ذللّها لكم تخرجونها حيث شئتم و تنتفعون بمياهها و تتخذون عليها جسرا و قناطير.

٣٣

وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ جاريين فيما يعود الى مصالح العباد لا يفتران دائِبَيْنِ فى القاموس داب فى عمله كمنع دأبا و يحرك و دءوبا بالضم جدّ و تعب- و الدائبان الجديد ان- و السّوق الشديد يعنى مسرعين فى السير قال ابن عباس دونهما فى طاعة اللّه وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ (٣٣) يتعاقبان فجعل لكم الليل لتسكنوا فيه من تعب العمل و النهار مبصرا للاشياء فتكسبوا فيه معاشكم-.

٣٤

وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ اى بعض جميع ما سالتموه يعنى أتاكم شيئا كائنا من كل شي ء سالتموه- فحذف شيئا اكتفاء بدلالة الكلام على التبعيض-

قال البيضاوي و لعل المراد بما سالتموه ما كان حقيقا لان يسئل لاحتياج الناس اليه سال ا و لم يسئل- و ما يحتمل ان يكون موصولة او موصوفة او مصدرية و يكون المصدر بمعنى المفعول- و جاز ان يكون للبيان او زائدة- و لفظة كل للتكثير نحو قولك فلان يعلم كل شي ء و أتاه كل انسان و قوله تعالى فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ-

و قرا الحسن من كلّ بالتنوين و المعنى من كل شي ء ما احتجتم له و سالتموه بلسان الحال- و يجوز ان يكون ما نافية فى موضع الحال يعنى أتاكم من كل شي ء و الحال انكم ما سالتموه يعنى اعطاكم أشياء ما طلبتموها و لا سالتموها وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّه اى نعم اللّه تعالى فيه دليل على ان المفرد يفيد الاستغراق بالاضافة لا تُحْصُوها اى لا تحصروا و لا تطيقوا عد أنواعها فضلا من افرادها فانها غير متناهية فكيف تطيقون إذا شكرها- لكن اللّه تعالى بفضله جعل الاعتراف بالعجز عن الشكر شكرا- و سمى المؤمنين شكورا لاجل اعترافهم بذلك و من لم يعترف بذلك قال فى حقه إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ يشكو ربه فى الشدة و البلاء و يجزع- و لا يصبر و لا يعلم ان ما أصابه أصابه من جواد كريم رحيم حكيم لا يكون الّا «١» لحكمة و ان لم تدرك حكمته كَفَّارٌ (٣٤) شديد الكفر ان فى النعمة و الرخاء فهذا نقيض ما قال فى المؤمنين صبّار شكور فان الكفّار ضد الشّكور صراحة- و الظلوم ضد للصبار دلالة- فان الظلم وضع الشي ء فى غير موضعه- و البلاء موضع للصبر وضع الشكاية و الجزع مقامه ظلم- و قيل ظلوم على نفسه بالمعصية فيعرضها للعذاب فى الاخرة و الدنيا- او يظلم نفسه بترك الشكر فيعرضها للحرمان- او يظلم النعمة باغفال شكرها- او يظلم يعنى يضع الشكر فى غير موضعه فيشكر غير من أنعم عليه- قال اللّه تعالى انى و الجن و الانس فى نبا عظيم اخلق و يعبد غيرى و ارزق و يشكر غيرى- رواه الحاكم و البيهقي عن ابى الدرداء عن النبي صلى اللّه عليه و سلم.

(١) فى الأصل حكمة.

٣٥

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ يعنى مكة آمِناً اى ذا أمن لمن فيها فالمسئول من هذا القول ازالة الخوف و جعل مكة أمنا- و اما فى قوله تعالى اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً جعل تلك الوادي بلدا من البلاد الامنة وَ اجْنُبْنِي بعّدنى وَ بَنِيَّ من أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) اى اجعلنا منها فى جانب- و فيه دليل على ان عصمة الأنبياء بتوفيق اللّه تعالى و حفظه إياهم و لفظ بنىّ لا يشتمل الأحفاد و إطلاقها على ما يعم الأحفاد فى قوله تعالى يا بَنِي آدَمَ ...- يا بَنِي إِسْرائِيلَ من قبيل عموم المجاز فلا يشكل بانه قد عبد كثير من أولاد إسماعيل عليه السلام الأصنام-

و اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عيينة ان أولاد إسماعيل لم يعبدوا الصنم محتجا بهذه الاية- و قال انما كانت لهم حجارة يدورون بها و يسمون الدوار- و يقولون البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلته- و زاد فى الدر المنثور قيل و كيف لم يدخل ولد إسحاق و سائر ولد ابراهيم - قال لانه دعا لاهل هذه البلدان لا يعبدوا إذ أسكنهم و قال اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً- و لم يدع لجميع البلدان بذلك- قال وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ فيه و قد خص اهله- و قال رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي- و قول ابن عيينة هذا مردود بالكتاب و السنة و الإجماع و الخبر المتواتر عن حال اهل مكة- فان المشركين فى كتاب اللّه تعالى عبارة عن اهل مكة غالبا و قد قال اللّه تعالى سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّه ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا من دونه مِنْ شَيْ ءٍ و غير ذلك و اللّه اعلم.

٣٦

رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ نسب الإضلال إليهن بالمجاز باعتبار السببية يعنى ضل بهن كثير من الناس عن طريق الهدى حين عبدوهن فَمَنْ تَبِعَنِي فى الدين فَإِنَّهُ مِنِّي اى بعضى لا ينفك عنى فى الدنيا و الاخرة حتّى يدخل معى الجنة وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) تقديره فاغفر له ذا رحمه فانك غفور رحيم- قال السدّى معناه من عصانى ثم تاب- و قال مقاتل بن حبان من عصانى فيما دون الشرك- و الظاهر انه قال ذلك قبل ان يعلمه اللّه انه تعالى لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ- فلما علم ذلك قال و ارزقهم مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّه وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ- زعما منه ان اللّه تعالى ينتقم من المشرك فى الدنيا ايضا- فقال اللّه تعالى وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ و بِئْسَ الْمَصِيرُ ....

٣٧

رَبَّنا إِنِّي قرا نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي تقديره أسكنت ولدا من ذريتى فحذف المفعول- او المعنى أسكنت بعض ذريتى و هم إسماعيل و من ولد منه- فان إسكانه متضمن لاسكانهم بِوادٍ هو فى الأصل موضع يسيل فيه الماء فسمى بالوادي مفرج بين جبال او تلال او اكام- و كان الموضع الّذي هناك مكة واديا بين الجبال غَيْرِ ذِي زَرْعٍ لانها حجرية لا تنبت عِنْدَ بَيْتِكَ الّذي كان قبل الطوفان الْمُحَرَّمِ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم فتح مكة ان هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السموات و الأرض- فهو حرام بحرمة اللّه الى يوم القيامة- و انه لن يحل القتال فيه لاحد- و لا يحل لى الا ساعة من نهار- فهو حرام بحرمة اللّه الى يوم القيامة- لا يعضد شوكه و لا ينفر صيده و لا يلتقط لقطته الا من عرفها و لا يختلى خلاها- قال العباس يا رسول اللّه الا الاذخر فانه لقينهم و لبيوتهم- فقال الا الأفخر- متفق عليه من حديث ابن عباس اخرج الواقدي و ابن عساكر من طريق عامرين سعيد عن أبيه بلفظ كانت سارة تحت ابراهيم عليه السلام فمكثت معه دهرا لا ترزق ولدا- فلمّا رات ذلك وهبت له هاجر امة قبطية- فولدت له إسماعيل فغارت من ذلك سارة- و وجدت فى نفسها و عقّبت على هاجر فحلفت ان تقطع منها ثلاثة اشراف- فقال لها ابراهيم هل لك ان تبرئ يمينك قالت كيف اصنع- قال اثقبي اذنها و اخفضيها- و الخفض هو الختان- ففعلت ذلك فوضعت هاجر فى اذنها قرطين- فازدادت بهما حسنا- فقالت أراني انما ازددتها جمالا- فلم ترض على كونه معها- و وجد بها ابراهيم وجدا شديدا فنقلها الى مكة- فكان يزورها فى كل يوم من الشام على البراق من شغفه بها و قلة صبره عنها- و روى البخاري فى الصحيح و البغوي بسنده حديث ابن عباس قال أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل عليه السلام اتخذت منطقا لتعفى اثرها على سارة- ثم جاء بها ابراهيم و بابنها إسماعيل عليهما السلام و هى ترضعه- حتّى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم فى أعلى المسجد- و ليس بمكة يومئذ أحد و ليس بها ماء فوضعهما هنا لك- و وضع عند هما جرابا فيه تمر و سقاء فيه ماء- ثم قفل ابراهيم فتبعته أم إسماعيل فقالت يا ابراهيم اين تذهب و تتركنا بهذا الوادي الّذي ليس فيها انس و لا شي ء- فقالت له ذلك مرارا و جعل لا يلتفت إليها- فقالت له ءاللّه أمرك بهذا قال نعم قالت «١» إذا لا يضيعنا ثم رجعت- فانطلق ابراهيم حيث لا يرونه فاستقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات و رفع يديه فقال رب إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ حتّى بلغ يشكرون- و جعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل و تشرب من ذلك الماء- حتّى إذا نفد ما فى السقاء عطشت و عطش ابنها- و جعلت تنظر اليه يتلوّى او قال يتلمظ- فانطلقت كراهية ان تنظر اليه- فوجدت الصفا اقرب جبل من الأرض يليها فقامت عليه- ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا- فهبطت من الصفا حتّى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعى الإنسان المجهود- حتّى جاوزت الوادي- ثم أتت المروة فقامت عليها و نظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا- ففعلت ذلك سبع مرات- قال ابن عباس قال النبي صلى اللّه عليه و سلم فلذلك سعى الناس بينهما- فلما أشرفت على مروة سمعت صوتا فقالت صه تريد نفسها ثم تسمّعت

(١) فى الأصل قال-.

فسمعت ايضا- فقالت قد استمعت ان كان عندك غواث فاذا هى بالملك- عند موضع زمزم فبحث بعقبه او بجناحه حتّى ظهر الماء- فجعلت تحوضه و تقول بيدها هكذا- و جعلت تغرف من الماء فى سقائها و هو تفور بعد ما تغرف- قال ابن عباس قال النبي صلى اللّه عليه و سلم رحم اللّه أم إسماعيل لو تركت زمزم او قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا- قال فشربت و أرضعت ولدها فقال لها الملك لا تخافوا الضيعة فان هاهنا بيت اللّه يبنيه هذا الغلام و أبوه ان اللّه لا يضيع اهله- و كانت البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتاخذ عن يمينه و شماله- فكانت كذلك حتّى مرت بهم رفقة من جرهم مقبلين من طريق كذا- فنزلوا فى أسفل مكة فراوا طائرا عائفا على الماء- فقالوا ان هذا الطائر تدور على ماء- و لقد عهدنا بهذا الوادي و ما فيه ماء- فارسلوا جربا او جربين فاذاهم بالماء- فرجعوا فاخبروهم بالماء- فاقبلوا و أم إسماعيل عند الماء- فقالوا أ تأذنين لنا ان ننزل عتدك قالت نعم و لا حق لكم فى الماء قالوا نعم- قال ابن عباس قال النبي صلى اللّه عليه و سلم فالفى ذلك أم إسماعيل و هى تحب الانس- فنزلوا و أرسلوا الى أهليهم فنزلوا معهم- حتّى إذا كان بها اهل أبيات و شبّ الغلام و تعلم العربية منهم و كان أنفسهم حين شبّ- فلما أدرك زوجوه امراة منهم و ماتت أم إسماعيل- فجاء ابراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع بركته- و قد ذكرنا بقية تلك القصة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى- قوله تعالى رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ اللام لام كى متعلقة باسكنت- اى ما اسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كل مرتفق و مرتزق الا لاقامة الصلاة عند بيتك المحرم- و تكرير النداء و توسيطه للاشعار بانها المقصودة بالذات من إسكانهم ثمه- و المقصود من الدعاء توفيقهم لها- و قيل لام الأمر و المراد هو الدعاء لهم باقامة الصلاة كانّه طلب منهم الاقامة و سال من اللّه ان يوفقهم لها فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً روى عن طرق من جميع هشام افئيدة بياء بعد الهمزة و الجمهور بغير ياء جمع فواد و هو القلب مِنَ النَّاسِ اى افئدة من افئد الناس و من للتبعيض- قال مجاهد لو قال افئدة الناس لزاحمتكم فارس و الروم و الترك و الهند- و قال سعيد بن جبير لحجت اليهود و النصارى و المجوس و لكنه قال أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ فهم المسلمون- او للابتداء كقولك القلب منى سقيم اى افئدة ناس تَهْوِي اى تسرع شوقا و ودادا قال السدّى معناه تميل إِلَيْهِمْ تعديته بالى لتضمين معنى النزوع وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ مع سكناهم واديا غير ذى زرع مثل ما رزقت سكان القرى ذوات الماء لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) تلك النعمة فاجاب اللّه دعوته فجعله حرما أمنا يّجبى اليه ثمرت كلّ شي ء حتّى يوجد هناك الفواكه الربيعية و الخريفية و الصيفية و الشتائية فى يوم واحد.

٣٨

رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ من أمورنا و أحوالنا و مصالحنا- و ارحم بنا منا لانفسنا فلا حاجة لنا الى الطلب لكنا ندعوك إظهارا لعبوديتك و افتقارا الى رحمتك و استعجالا لنيل ما عندك- قال ابن عباس و مقاتل ما نخفى و ما نعلن من الوجد بإسماعيل و امه حيث اسكنتهما بواد غير ذى زرع- و قيل ما نخفى من وجد الفرقة و ما نعلن من التضرع وَ ما يَخْفى عَلَى اللّه مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ (٣٨) لانه عالم بعلم ذاتى يستوى نسبته الى كل معلوم و من للاستغراق- قيل هذا من قول ابراهيم عليه السلام و الأكثرون على انه من اللّه عز و جل-.

٣٩

الْحَمْدُ للّه الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ اى وهب لى و انا كبير ايس عن الولد قيد الهبة بحال الكبر استعظاما للنعمة و إظهارا لما فيها من الاية إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ قال ابن عباس رضى اللّه عنهما ولد إسماعيل لابراهيم عليهما السلام و هو ابن تسع و تسعين سنة- و ولد إسحاق عليه السلام و هو ابن مائة و اثنتي عشرة سنة- و قال سعيد بن جبير بشر ابراهيم بإسحاق عليهما السلام و هو ابن مائة و سبع عشرة سنة كذا اخرج ابن جرير إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) يعنى مجيب الدعاء من قولك سمع الملك الكلام إذا اعتد به- قال سيبويه هو من ابنية المبالغة العاملة عمل الفعل أضيف الى مفعوله او الى فاعله على اسناد السماع الى دعاء اللّه على المجاز- و فيه اشعار بانه دعا ربه تعالى و سال منه الولد فاجابه و وهب له سواله حين الإياس منه ليكون من أجل النعم و أجلاها.

٤٠

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ معدّلا لها بأركانها و آدابها محافظا و مواظبا عليها وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي عطف على المنصوب فى اجعلنى يعنى و اجعل بعض ذريتى من يقيمون الصلاة أورد من التبعيضية لعلمه باعلام اللّه تعالى انه يكون فى ذريته كفار حيث قال اللّه تعالى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ... رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) قرا البزي دعائى بإثبات الياء فى الحالين و ورش و ابو عمرو اثبتاها «١» فى الوصل فقط- و الباقون يحذفونها فى الحالين- و المعنى استجب دعائى او تقبل عبادتى- روى الترمذي عن انس و احمد و البخاري فى الأدب و اصحاب السنن الاربعة و ابن حبان و الحاكم عن النعمان بن بشير و ابو يعلى عن البراء بن عازب عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال الدعاء هو العبادة- و روى الترمذي عن انس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم الدعاء مخ العبادة.

(١) فى الأصل أثبتها-.

٤١

رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ هذه الاية تدل على ان والديه عليه السلام كانا مسلمين- و انما كان آزر عمّا له و كان اسم ابى ابراهيم تارخ كما ذكرنا فى سورة البقرة- و لاجل دفع توهم آذر قال والدي يعنى من ولداني حقيقة و لم يقل أبوي- فان الأب يطلق على العم مجازا و على تقدير كون آذر أبا له كما قيل- فقد ذكر اللّه عذره فى سورة التوبة وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ- يعنى قبل ان يتبين له امره فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للّه تَبَرَّأَ مِنْهُ ... وَ اغفر لِلْمُؤْمِنِينَ كلهم أجمعين يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١) اى يثبت او يبدوا و يظهر مستعار من القيام على الرحل- كقولهم قامت الحرب على ساق- او المعنى يوم يقوم اهل الحساب فحذف المضاف و أسند الفعل الى المضاف اليه مجازا- كما فى قوله تعالى وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ- و قيل أراد يوم يقوم الناس للحساب فاكتفى بذكر الحساب لكونه مفهوما-.

٤٢

وَ لا تَحْسَبَنَّ اللّه غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ (٥) الغفلة عدم الاطلاع على حقيقة الأمور و الاية خطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و المراد به تثبيته على ما هو عليه من انه مطلع على أحوالهم و أفعالهم لا يخفى عليه خافية معاقب على الكثير و القليل لا محالة- او لكل من يتوهم غفلته جهلا بصفاته و اغترارا بامهاله- و قيل انه تسلّية للمظلوم و تهديد للظالم إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ اى يؤخر عذابهم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) اى تشخص أبصارهم لا يغمض من هول ما يرى فى ذلك اليوم و قيل يرتفع و يزول عن أماكنها.

٤٣

مُهْطِعِينَ اى مسرعين لا يلتفتون يمينا و شمالا و لا يعرفون مواطن أقدامهم- قال قتادة مسرعين الى الداعي-

و قال مجاهد مديمى النظر و فى القاموس هطع هطوعا اسرع مقبلا خائفا او اقبل ببصره على الشي ء لا يقلع عنه و مهطع كمحسن من ينظر فى ذل و خضوع لا يقلع بصره او الساكت المنطلق الى مرهتف به مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ قال القتيبي المقنع الّذي يرفع راسه و يقبل ببصره ما بين يديه و قال الحسن وجوه الناس يوم القيامة الى السماء لا ينظر أحد الى أحد لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ اى لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا الى أنفسهم بل يبقى عيونهم شاخصة لا تطرف وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) خلاء اى خالية عن العقل و الفهم لفرط الحيزة و الدهشة و منه يقال للاحمق قلبه هواء لا رأى فيه و لا قوة- قال قتادة خرجت قلوبهم من صدورهم فصارت فى حناجرهم لا تخرج من أفواههم و لا تعود الى أماكنها- فالافئدة هواء اى لا شي ء فيها و منه سمى ما بين السماء و الأرض هواء لخلوه- و قال سعيد بن جبير اى قلوبهم مترددة تمور فى أجوافهم ليس لها مكان يستقر فيه-

قال البغوي حقيقة المعنى ان القلوب زائلة عن أماكنها و الابصار شاخصة من هول ذلك اليوم-.

٤٤

وَ أَنْذِرِ اى خوف يا محمّد عليه السلام النَّاسَ يَوْمَ بيوم يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ يعنى يوم القيامة او يوم الموت فانه أول ايام عذابهم او يوم يأتيهم العذاب العاجل للاستيصال فى الدنيا فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا بالشرك و التكذيب رَبَّنا أَخِّرْنا اى أمهلنا فى الدنيا او المعنى اخر العذاب عنا و ردّنا الى الدنيا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ اى الى حد من الزمان قريب و ابقنا مقدار ما نؤمن بك و نجب دعوتك نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ جواب للامر نظيره لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ- فيجابون أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ حلفتم مِنْ قَبْلُ فى دار الدنيا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) جواب للقسم جاء بلفظ الخطاب على المطابقة دون الحكاية- و المعنى انكم باقون فى الدنيا لا تزالون بالموت و لعلهم قسموا بطرا و غرورا- او حكاية عن دلالة حالهم حيث بنوا شديدا و أملوا بعيدا- و قيل معناه اقسموا انهم لا ينقلون الى دار اخرى- او انهم إذا ماتوا لا يزالون عن تلك الحالة يعنى لا يبعثون بعد الموت نظيره قوله تعالى وَ أَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّه مَنْ يَمُوتُ ....

٤٥

وَ سَكَنْتُمْ فى الدنيا فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر و المعاصي ممن كان قبلكم قوم نوح و عاد و ثمود و غيرهم وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ من مشاهدة اثار منازلهم و سماع اخبار ما نزل بهم- و فاعل تبيّن مضمر دل عليه الكلام اى تبين لكم حالهم- و كيف فى قوله كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ منصوب بقوله فعلنا فلم ينزجروا وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) من أحوالهم اى بيّنّا لكم على السنة المرسلين المؤيدين بالمعجزات انكم فى الكفر و استحقاق العذاب او المعنى بيّنّا صفات ما فعلوا و ما فعل بهم الّتي هى فى الغرابة كالامثال المضروبة- او بيّنّا لكم الأمثال فى القران-.

٤٦

وَ قَدْ مَكَرُوا يعنى كفار مكة بالنبي صلى اللّه عليه و سلم حيث أرادوا حبسه او إخراجه او قتله مَكْرَهُمْ قال المفسرون الضمير المجرور فى مكرهم راجع الى ما يرجع اليه الضمير المرفوع فى مكروا- و المعنى انهم مكروا مكرهم البليغ المستفرغ فيه جهدهم لابطال الحق و تقرير الباطل- و حينئذ لا تعلق لهذا الكلام بما سبق- و عندى ان الجملة معطوفة على قوله و سكنتم- و الضمير المجرور راجع الى الموصول- و المراد الكفار السابقون «١»- و المرفوع الى الناس اى كفار هذه الامة- و فى الكلام التفات من الخطاب الى الغيبة- و المعنى سكنتم فى مساكن من قبلكم و تبين لكم ما فعلنا بهم و قد مكرتم مثل مكر السابقين وَ عِنْدَ اللّه مَكْرُهُمْ اى مكتوب عنده فعلهم فهو مجازيهم عليه- او عنده ما يمكرهم به جزاء لمكرهم و ابطالا له وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ قرا علىّ و ابن مسعود رضى اللّه عنهما و ان كاد مكرهم بالدال و قراءة العامة بالنون لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) قرا الكسائي و ابن جريج بفتح اللام للتأكيد فى لتزول و الرفع- على انّ ان مخففة من الثقيلة و اللام هى الفاصلة و المعنى انه كان مكرهم يعنى شركهم عظيما شديدا بحيث تزول منه الجبال بمعنى قوله تعالى تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً-

قال البغوي حكى عن علىّ بن ابى طالب رضى اللّه عنه

(١) فى الأصل سابقين-.

فى معنى الاية انها نزلت فى نمرود الجبار الّذي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ- و ذلك انه قال ان كان ما يقوله ابراهيم حقّا فلا انتهى حتّى اصعد السماء فاعلم ما فيها- فعمد الى اربعة افرخ من النسور ربّاها حتّى شب- و اتخذنا بوتا و جعل له بابا من أعلى و بابا من أسفل- و قعد نمرود مع رجل فى التابوت و نصب خشبات فى أطراف التابوت- و جعل على رأسها اللحم و ربط التابوت بأرجل النسور و خلّاها- فطرن و صعدن طمعا فى اللحم حتّى مضى يوم و ابعدن فى الهواء فقال نمرود لصاحبه افتح الباب الأعلى و انظر الى السماء هل قريبا منها- ففتح و نظر فقال ان السماء كهيئتها- ثم قال افتح الباب الأسفل و انظر الى الأرض كيف تراها- ففعل فقال ارى الأرض مثل اللجة و الجبال مثل الدخان- فطارت النسور يوما اخر و ارتفعت- حتّى حالت الريح بينها و بين الطيران- فقال لصاحبه افتح البابين ففتح الأعلى فاذا السماء كهيئتها و فتح الأسفل فاذا الأرض سوداء مظلمة- و نودى ايها الطاغية اين تريد- قال عكرمة كان معه فى التابوت غلام قد حمل القوس و النشاب- فرمى بسهم فعاد اليه السهم متلطّخا بدم سمكة تذفت نفسها من بحر فى الهواء- و قيل طائر أصابه السهم فقال كفيت بشغل اله السماء- قال ثم امر نمرود صاحبه ان يصرف الخشبات و ينكس اللحم ففعل- فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال خفيف التابوت و النسور- ففزعت و ظنّت ان قد حدث حدث من السماء و ان الساعة قد قامت و كادت تزول عن أماكنها- فذلك قوله تعالى وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ- و هذه القصة يأبى عنه العقل و لم يثبت بنقل يعتمد عليه-

و قرا الجمهور بلام مكسورة و النصب فان حينئذ اما نافية و اللام لام جحود لتأكيد النفي كقوله تعالى وَ ما كانَ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ- او مخففة من الثقيلة و اللام لام كى و كان تامة- و الجبال مثل لامر النبي صلى اللّه عليه و سلم و آيات اللّه و الشرائع- و المعنى على الاول و ما كان مكرهم مزيلا للجبال و على الثاني انهم مكروا و ثبت مكرهم ليزيلوا ما هو كالجبال الراسيات ثباتا و تمكنا من امر النبي صلى اللّه عليه و سلم و آيات اللّه و شرائعه و ذلك محال- و قال الحسن ان كان مكرهم لا ضعف من ان تزول الجبال-.

٤٧

فَلا تَحْسَبَنَّ اللّه مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ بالنصر لاوليائه و هلاك أعدائه كقوله تعالى إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا و قوله كَتَبَ اللّه لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي و قوله لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ- و مخلف مفعول ثان لتحسبن و أصله مخلف رسله وعده فقدم المفعول الثاني إيذانا بانه لا يخلف الوعد أصلا كقوله تعالى إِنَّ اللّه لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ و إذا لم يخلف وعده أحدا كيف يخلف رسله إِنَّ اللّه عَزِيزٌ غالب لا يماكر قادر لا يدافع ذُو انتِقامٍ (٤٧) لاوليائه من أعدائه-.

٤٨

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ بدل من يوم يأتيهم او ظرف للانتقام او مقدر با ذكر او بقوله لا يخلف وعده- و لا يجوز ان ينتصب بمخلف لان ما قبل انّ لا يعمل فيما بعده وَ السَّماواتُ عطف على الأرض و تقديره و السموات غير السموات فحذف لدلالة ما قبله عليه- و التبديل يكون فى الذات كقولك بدلت الدراهم بالدنانير و عليه قوله تعالى بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها- و فى الصفة كقولك بدلت الحلقة خاتما إذا اذبتها و غيرت شكلها- و فى تبديل الأرض و السموات أحاديث بعضها تدل على التبديل فى الذات و بعضها على التبديل فى الصفات- اخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن ابى حاتم فى تفاسيرهم و البيهقي بسند صحيح عن ابن مسعود فى هذه الاية انه قال تبدل الأرض أرضا كانها فضة لم يسفك فيها دم حرام و لم تعمل عليها خطيئة

و اخرج البيهقي عن ابن مسعود مرفوعا و قال الموقوف أصح-

قلت و الموقوف فى الباب له حكم المرفوع-

و اخرج ابن جرير و الحاكم من وجه اخر عنه قال أرضا بيضا كانها سبيكة فضة-

و اخرج احمد و ابن جرير و ابن ابى حاتم عن ابى أيوب و ابن جرير عن انس بن مالك فى هذه الاية قال يبدلها اللّه تعالى يوم القيامة بأرض من فضة لم يعمل عليها الخطاء-

و اخرج من طريق ابى حمزة عن زيد عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فى الاية قال انها تكون بيضاء مثل الفضة-

و اخرج ابن ابى الدنيا فى صفة الجنة عن على بن ابى طالب فى هذه الاية قال الأرض من فضة و السماء من ذهب-

و اخرج ابن جرير عن مجاهد قال الأرض كانها فضة و السماء كذلك-

و اخرج عبد ابن حميد عن عكرمة قال بلغنا ان الأرض تطوى و الى جنبها اخرى يحشر الناس منها إليها- و فى الصحيحين عن سهل بن سعد قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول يحشر الناس يوم القيامة على ارض بيضاء غفراء كقرصة نقى ليس فيها معلم لاحد-

و اخرج البيهقي من طريق السدى الصغير عن الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس فى هذه الاية قال يزاد فيها و ينقص و يذهب اكامها و جبالها و أوديتها و شجرها و ما فيها و تمدّ مدّ الأديم العكاظي ارض بيضاء مثل الفضة لم يسفك عليها دم و لم تعمل عليها خطيئة- و السموات تذهب شمسها و قمرها و نجومها-

و اخرج الحاكم عن ابن عمرو قال إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم و حشر الخلائق

و اخرج الحاكم بسند جيد عن جابر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها الا موضع قدميه ثم ادعى أول الناس فاخرّ ساجدا- ثم يؤذن لى فاقوم فاقول يا رب أخبرني هذا جبرئيل (و هو عن يمين الرحمان و اللّه ماراه جبرئيل قبلها قط) انك أرسلته الىّ قال و جبرئيل ساكت لا يتكلم حتّى يقول اللّه صدق ثم يأذن لى فى الشفاعة فاقول يا رب عبادك أطراف الأرض فذلك المقام المحمود- و فى الصحيحين عن ابى سعيد الخدري قال قال النبي صلى اللّه عليه و سلم يكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفاها الجبار بيده كما يتكفا أحدكم خبزته فى السفر نزلا لاهل الجنة- قال الدراوردي النزل ما يعجل للضيف قبل الطعام و المراد به يأكل منها فى الموقف من سيصير الى الجنة- و كذا قال ابن مرجان فى الإرشاد تبدل الأرض خبزة فيأكل المؤمن من بين رجليه و يشرب من الحوض- قال ابن حجر يستفاد منه ان المؤمنين لا يعاقبون بالجوع فى طول زمان الموقف بل يقلب اللّه بقدرته طبع الأرض حتّى يأكلون منها من تحت أقدامهم ما شاء اللّه من غير علاج و لا كلفة- و يؤيده ما اخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال و تكون الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه-

و اخرج نحوه عن محمّد بن كعب-

و اخرج البيهقي عن عكرمة قال تبدل الأرض بيضاء مثل الخبزة يأكل منها اهل الإسلام حتّى يفرغوا من الحساب- و عن ابى جعفر محمّد الباقر نحوه-

و اخرج الخطيب عن ابن مسعود قال يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط و اظمأ ما كانوا قط و اعرى ما كانوا قط و انصب ما كانوا قط فمن اطعم للّه أطعمه و من سقى للّه سقاه و من كسى للّه كساه و من عمل كفاه-

و اخرج ابن جرير عن ابن كعب فى الاية قال تصير السموات جنانا و تصير مكان البحر نارا و تبدل الأرض غيرها-

و اخرج عن ابن مسعود قال الأرض كلها نار يوم القيامة-

و اخرج عن كعب الأحبار قال يصير مكان البحر نارا-

و اخرج مسلم عن ثوبان قال جاء حبر من اليهود الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال اين يكون الناس يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ قال هم فى ظلمة دون الجسر-

و اخرج مسلم عن عائشة قالت قلت يا رسول اللّه ارايت قوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ اين الناس يومئذ قال على الصراط- قال البيهقي قوله على الصراط مجاز لكونهم يجاوزونه فوافق قوله فى حديث ثوبان دون الجسر لانها زيادة يتعين المصير إليها لثبوتها و لان ذلك عند الزجرة الّتي تقع بها نقلتهم من ارض الدنيا الى ارض الموقف-

و اخرج البيهقي عن أبيّ بن كعب فى قوله تعالى وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً قال يصير ان غبرة على وجوه الكفار لا على وجوه المؤمنين و ذلك قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ- قال السيوطي رحمه اللّه قد وقع الخلاف قديما للسلف فى ان التبديل تغير ذاتها او صفاتها فقط- فرجح الاول ابن ابى حمزة و أشار الى ان ارض الدنيا تضمحل و تعدم و تجدد ارض الموقف- و قال الشيخ ابن حجر رحمه اللّه لا تنافى بين تبديل الأرض و أحاديث مدها و الزيادة فيها و النقص منها- لان كل ذلك يقع لارض الدنيا لكن ارض الموقف غيرها- فانهم يزجرون من ارض الدنيا بعد تغيرها بما ذكرنا الى ارض الموقف- قال و لا تنافى ايضا بين أحاديث مصيرها خبزة و غبرة و نارا بل تجمع بان بعضها تصير خبزة و بعضها غبرة و بعضها نارا و هو ارض البحر خاصة بدليل اثر أبيّ بن كعب-

قلت لعل موضع أقدام المؤمنين يصير خبزة و موضع أقدام الكفار غبرة و نارا- و قال القرطبي جمع صاحب الإفصاح بين هذه الاخبار بان تبديل الأرض و السموات يقع مرتين أحدهما تبديل صفاتها فقط و ذلك قبل نفخة الصعق فتنتشر الكواكب و تخسف الشمس و القمر و تصير السماء كالمهل و تكشط عن الرءوس و تسير الجبال و تصير البحار نارا و عوّج الأرض و تنشق الى ان تصير الهيئة غير الهيئة- ثم بين النفختين تطوى السماء و الأرض و تبدل السماء سماء اخرى و هو قوله تعالى وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها و تبدل الأرض فتمدّ مدّ الأديم و تعاد كما كانت فيها القبور و البشر على ظهرها و فى بطنها- و تبدل ايضا تبديلا ثانيا و ذلك إذا وقفوا فى المحشر فتبدل لهم الأرض الّتي يقال لها الساهرة و يحاسبون عليها و هى ارض غفراء بيضاء من فضة لم يسفك فيها دم و لم تعمل عليها معصية و حينئذ يقوم الناس على الصراط و هو يسع جميع الخلق فيقوم من فضّل على جسر جهنم و هى كاهالة جامدة و هى الّتي قال عبد اللّه انها ارض من نار فاذا جاوزوا الصراط و جعل اهل النار و اهل الجنان من وراء الصراط قاموا على حياض الأنبياء يشربون بدّلت الأرض كقرصة النقي فاكلوا من تحت أرجلهم و عند دخولهم الجنة كانت خبزة واحدة اى قرصا واحدا يأكل منه جميع الخلائق ممن دخل الجنة- و ادامهم زيادة كبد ثور الجنة و زيادة كبد النون انتهى كلامه-

و اخرج الطبراني فى الأوسط و ابن عدى بسند ضعيف الأرض تذهب كلها يوم القيامة الا المساجد فانها ينضم بعضها الى بعض-

قلت لو صح هذه الرواية فلعل ارض المساجد تصيرا رضا للجنة و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما بين بيتي و منبرى روضة من رياض الجنة- رواه الشيخان فى الصحيحين و احمد و النسائي عن عبد اللّه ابن زيد المازنى و عن ابى هريرة فى الصحيحين و عند الترمذي وَ بَرَزُوا اى ظهروا و خرجوا من قبورهم للّه الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) اى لمحاسبته و مجازاته- و توصيفه بالوصفين للدلالة على ان الأمر فى غاية الصعوبة فان الأمر إذا كان لواحد غالب لا يغالب عليه فلا مستغاث و لا مستجار غيره-.

٤٩

وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ اى الكافرين يَوْمَئِذٍ اى يوم إذ برزوا مُقَرَّنِينَ مشددين قرينا بعضهم مع بعض بحسب مشاركتهم فى العقائد و الأعمال- اخرج سعيد بن منصور عن عمر بن الخطاب قال يقرّن الرجل الصالح مع الصالح فى الجنة و يقرّن بين الرجل السوء مع السوء فى النار- او قرينا مع شياطينهم- او مع ما اكتسبوا من العقائد الزائغة و الملكات الباطلة- او قرينا أيديهم و أرجلهم الى رقابهم بالاغلال فِي الْأَصْفادِ (٤٩) اى فى القيود و الاغلال واحدها صفد- و كل من شدتّه شدا وثيقا فقد صفدتّه.

٥٠

سَرابِيلُهُمْ جمع سربال و هو القميص مِنْ قَطِرانٍ و هو عصارة الأبهل تطبخ فتهنا به الإبل الجربى فيحرق الجرب لحدته و هو اسود منتن يشتعل فيه النار بسرعة يطلى به جلود اهل النار حتّى يكون طلاوة لهم كالقميص ليجتمع عليهم لدغ القطران و وحشة لونه و نتن ريحه مع اسراع النار فى جلودهم-

و قرا عكرمة و يعقوب من قطران على كلمتين منونتين و القطر النحاس و الصفر المذاب و الان الّذي انتهى حره و الجملة حال ثان او حال من الضمير فى مقرنين وَ تَغْشى اى تعلو وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) و خص الوجه فى الذكر لانه أعزّ موضع فى ظاهر البدن كالقلب فى باطنه و لذا قال تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ- او لانهم لم يتوجهوا بها الى الحق و لم يستعملوا فى تدبره مشاعرهم و حواسّهم الّتي خلقت فيها لاجله كما تطّلع على الافئدة لانها فارغة عن المعرفة مملوّة بالجهالات.

٥١

لِيَجْزِيَ اللّه كُلَّ نَفْسٍ مجرمة ما كَسَبَتْ اللام اما متعلق بقوله مُقَرَّنِينَ- او بالظرف المستقر اعنى من قطران او بقوله تغشى- او بفعل مقدر يعم ذلك تقديره يفعل ذلك ليجزى- و جاز ان يكون المعنى ليجزى كل نفس مطيعة و عاصية بما كسبت- لانه إذا بين ان المجرمين يعاقبون باجرامهم علم ان المطيعين يثابون بطاعتهم و اللام حينئذ متعلق ببرزوا إِنَّ اللّه سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) لا يشغله حساب عن حساب- قال السيوطي فى الجلالين يحاسب جميع الخلائق فى قدر نصف نهار من ايام الدنيا لحديث بذلك-

و اخرج ابن المبارك و ابو نعيم عن النخعي قال كانوا يرون انه ليفرغ من حساب الناس يوم القيامة فى مقدار نصف يوم يقيل هؤلاء فى الجنة و هؤلاء فى النار-

و اخرج ابن المبارك و ابن ابى حاتم عن ابن مسعود قال لا ينتصف النهار من ذلك اليوم حتّى يقيل هؤلاء و هؤلاء ثم قرا أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا ...- ثمّ انّ مقيلهم «١» لالى الجحيم-

و اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال انما هى ضخوة فيقيل اولياء اللّه على الاسرة مع الحور العين و يقيل اعداء اللّه مع الشياطين مقرنين-

قلت لكن هذه الآثار تدل على ان المراد نصف نهار الاخرة و اللّه اعلم-.

(١) و فى القران ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ-.

٥٢

هذا القران او السورة او ما فيها من الوعظ و التذكير من قوله وَ لا تَحْسَبَنَّ اللّه ... بَلاغٌ لِلنَّاسِ كفاية لهم فى الموعظة وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ اى ليخوفوا عطف على محذوف اى لينصحوا و لينذروا بهذا البلاغ و اللام متعلق بالبلاغ- و يجوز ان يتعلق بمحذوف تقديره و لينذروا به انزل او تلى- و قيل معنى الاية هذا القران انزل لتبليغ الناس احكام اللّه تعالى و لينذروا به وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لانهم إذا خافوا ما اندروا به دعتهم المخافة الى النظر و التأمل فيتوصلوا الى التوحيد بالنظر و التأمل فيما فيه من الآيات الدالة عليه او المنبّهة على ما يدل عليه وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥١) فيرتدعوا عما يرد بهم- ذكر اللّه تعالى لهذا البلاغ ثلاث فوائد و هى الغاية و الحكمة فى إنزال الكتب أحدها تكميل الرسل للناس بقوله لينذروا ثانيها استكمالهم القوة النظرية الّتي منتهى كما لها التوحيد بقوله ليعلموا انّما هو اله وّاحد ثالثها استصلاح القوة العملية الّتي هو التدرّع بلباس التقوى جعلنا اللّه من الفائزين بها و اللّه اعلم-

﴿ ٠