١٠

إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ يعني اذكر إذ أوى الفتية اى صاروا إِلَى الْكَهْفِ يقال أوى فلان الى موضع كذا اى اتخذه منزلا-

قال البغوي و هو غار في جبل بيجلوس و اسم الكهف جيرم فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً يوجب لنا الهداية فى الدين و المغفرة من الذنوب و الرزق و الامن من العدوّ وَ هَيِّئْ لَنا

قال البيضاوي و اصل التهية احداث هيئة الشي ء مِنْ أَمْرِنا اى من الأمر الذي نحن عليه من الايمان و مفارقة الكفار رَشَداً او المعنى اجعل لنا أمرنا كله رشدا- كقولك رايت منك رشدا اى استقامة على طريق الحق مع تصلب فيه كذا في القاموس و فيه رشد كنصر و فرح رشدا و رشدا و رشادا اهتدى كاسترشد و استرشد طلبه و الرشيد في صفات اللّه تعالى بمعنى الهادي الى سواء الصراط- و الذي حسن تقديره فيما قدر-

قال البغوي اختلفوا في سبب مصيرهم الى الكهف قال محمد بن إسحاق مرج اهل الإنجيل و عظمت فيهم الخطايا و طغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام و ذبحوا للطواغيت و فيهم بقايا على دين المسيح متمسكين بعبادة اللّه عزّ و جلّ و كان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له دقيانوس عبد الأصنام و ذبح للطواغيت و قتل من خالفه- و كان ينزل قرى الروم و لا يترك في قرية نزلها أحدا الا فتنة حتى يذبح للطواغيت و يعبد الأصنام او يقتله- حتى نزل مدينة اصحاب الكهف و هى أفسوس كلما نزلها كبر على اهل الايمان فاستخفوا منه و هربوا في كل وجه- و كان دقيانوس حين نزلها أمران يتبع اهل الايمان في أماكنهم- فيخرجونهم الى دقيانوس فيخيّرهم بين القتل و بين عبادة الأوثان و الذبح للطواغيت- فمنهم من يرغب في الحيوة و منهم من يأبى ان يعبد غير اللّه فيقتل- فلما راى ذلك اهل الشدة فى الايمان باللّه جعلوا يسلمون للعذاب و القتل فيقتلون و يقطعون- ثم يربط ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها و على كل باب من ابوابها- حتى عظمت الفتنة فلمّا راى ذلك الفتية حزنوا حزنا شديدا فقاموا و اشتغلوا بالصلوة و الصيام و الصدقة و التسبيح و الدعاء- و كانوا من اشراف الروم و كانوا ثمانية نفر بكوا و تضرعوا الى اللّه و جعلوا يقولون ربّنا ربّ السّموات و الأرض لن ندعو من دونه الها لّقد

قلنا إذا شططا ان عبدنا غيره- اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة و ارفع عنهم البلاء حتى يعلنوا بعبادتك فبينا هم على ذلك و قد دخلوا في مصلّى لهم أدركهم الشرط «١» فوجدوهم و هم سجود على وجوههم يبكون و يتضرعون الى اللّه عزّ و جلّ فقالوا لهم ما خلّفكم عن امر الملك انطلقوا اليه ثم خرجوا فرفعوا أمرهم الى دقيانوس فقالوا تجمع الناس للذبح لالهتك و هؤلاء الفتية من اهل بيتك يستهزءون

(١) شرط السلطان نخبة أصحابه الذين يقدمهم على غيرهم من جنده ١٢ منه.

بك و يعصون أمرك فلمّا سمع بذلك بعث إليهم فاتى بهم تفيض أعينهم من الدمع «١» معفّرة وجوههم بالتراب فقال ما منعكم ان تشهدوا الذبح لالهتنا التي تعبد في الأرض و تجعلون أنفسكم أسوة كسرات اهل مدينتكم اختاروا اما ان تذبحوا لالهتنا و اما ان أقتلكم- فقال مكسلمينا و هو أكبرهم ان لنا الها ملاء السموات عظمته لن ندعوا من دونه الها إبداله الحمد و التكبير و التسبيح من أنفسنا خالصا إياه نعبد و إياه نسئل النجاة و الخير فاما الطواغيت فلن نعبدها ابدا- فاصنع ما بدا لك و قال اصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال- فلمّا قالوا ذلك امر فنزع عنهم لبوس كانت عليهم من لبوس عظمائهم- ثم قال سافرغ فانجز لكم ما وعدتكم من العقوبة و ما يمنعنى ان اعجل ذلك لكم الا انى أراكم شبانا حديثة أسنانكم و لا أحب ان أهلككم حتى اجعل لكم أجلا تذكّرون فيه و تراجعون عقولكم- ثم امر بحلية كانت عليهم من ذهب و فضة فنزعت ثم امر بهم فاخرجوا عنه- و انطلق دقيانوس الى مدينة سوى مدينتهم قريبا لبعض أموره ......

فلمّا راى الفتية خروجه بادروا قدومه و خافوا إذا قدم مدينتهم ان يذكرهم فأتمروا بينهم ان يأخذ كل منهم نفقته من بيت أبيه فيتصدقوا منها و يتزودوا بما بقي ثم ينطلقوا الى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له بيجلوس فيمكثون فيه و يعبدون اللّه- حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما يشاء فلمّا قال ذلك بعضهم لبعض عمد كل فتى منهم الى بيت أبيه فاخذ نفقته فتصدق منها ثم انطلقوا بما بقي معهم و اتبعهم كلب كان لهم حتى أتوا ذلك الكهف فلبثوا فيه- قال كعب الأحبار و مرّوا بكلب فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مرارا- فقال لهم الكلب يا قوم ما تريدون منى لا تخشون جانبى انا أحب احبّاء اللّه عز و جل فنموا «٢» حتى أحرسكم و قال ابن عباس هربوا ليلا من دقيانوس و كانوا سبعة فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم و تبعهم كلبه فخرجوا من البلد الى الكهف و هو قريب من البلد قال ابن عباس فلبثوا فيه ليس لهم عمل الا الصلاة و الصيام و التسبيح و التكبير و التحميد ابتغاء وجه اللّه- و جعلوا نفقتهم الى فتى منهم يقال له تمليخا و كان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرّا و كان من أجملهم و اجلدهم- و كان إذا دخل المدينة يضع ثيابا كانت عليه حسانا و يأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها- ثم يأخذ ورقة فينطلق الى المدينة فيشترى طعاما و شرابا و يتجسس لهم الخبر هل ذكر هو و أصحابه بشي ء ثم يرجع الى أصحابه فلبثوا بذلك ما لبثوا- ثم قدم دقيانوس المدينة فامر

(١) العفرة الغبرة و لون التراب ١٢ منه رح.

(٢) و في الأصل فناموا ١٢ منه رح.

عظماء أهلها فذبحوا للطواغيت ففزع اهل الايمان و كان تمليخا بالمدينة يشترى لاصحابه طعامهم فرجع الى أصحابه و هو يبكى و معه طعام قليل و أخبرهم ان الجبار قد دخل المدينة و قد ذكروا و التمسوا مع عظماء المدينة ففزعوا و وقعوا سجودا يدعون الى اللّه و يتضرعون و يتعوّذون من الفتنة- ثم ان تمليخا قال يا إخوتاه ارفعوا رءوسكم و أطعموا و توّكلوا على ربكم- فرفعوا رءوسهم و أعينهم تفيض من الدمع فطعموا و ذلك من غروب الشمس ثم جلسوا يتحدثون و يتدارسون و يذكّر بعضهم بعضا فبيناهم على ذلك إذ ضرب اللّه على آذانهم في الكهف و كلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف فاصابه ما أصابهم و هم مؤمنون و موقنون و نفقتهم عند رءوسهم- فلما كان من الغد فقدهم دقيانوس فلم يجدهم فقال لبعضهم قد ساءنى شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا لقد كانوا ظنوا ان لى غضبا عليهم لجهلهم ما جهلوا من امرى ما كنت لاحمل عليهم ان هو تابوا و عبدوا الهتى- فقال عظماء المدينة ما أنت بحقيق ان ترحم قوما فجرة مردة عصاة لقد كنت اجّلت لهم أجلا و لو شاءوا لرجعوا في ذلك الاجل و لكنهم لم يتوبوا- فلمّا قالوا ذلك غضب غضبا شديدا ثم أرسل الى ابائهم فاتى بهم فسالهم عنهم فقال أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصونى- فقالوا له اما نحن فلم نعصك فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا باموالنا فاهلكوها في أسواق المدينة ثم انطلقوا و أرسلوا الى جيل يدعى بيجلوس- فلمّا قالوا له ذلك خلّى سبيلهم و جعل لا يدرى ما يصنع بالفتية فالقى اللّه عز و جل في نفسه ان يأمر بالكهف فيسد عليهم- أراد اللّه ان يكرمهم و يجعلهم اية لامة تستخلف من بعدهم و ان يبين لهم انّ السّاعة لا ريب فيها و انّ اللّه يبعث من في القبور- فامر دقيانوس بالكهف ان يسدّ عليهم و قال دعوهم في الكهف الذي اختاروا كما هم يموتون جوعا و عطشا و يكون كهفهم الذي اختاروا قبرا لهم و هو يظن انهم إيقاظ يعلمون ما يصنع بهم و قد توفى اللّه أرواحهم وفاة النوم و كلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم ينقلبون ذات اليمين و ذات الشمال ثم ان رجلين مؤمنين من بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما اسم أحدهما يندروس و الاخر راياش ائتمروا ان يكتبا شان الفتية و أنسابهم و أسماءهم و خبرهم في لوحين من رصاص و يجعلا هما في تابوت من نحاس و يجعلا التابوت في البنيان- و قالا لعل اللّه ان يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عنهم حين يقرأ هذا لكتاب خبرهم ففعلا فبنيا عليه فبقى دقيانوس ما بقي ثم مات هو و قومه و قرون بعده كثيرة و خلفت الملوك بعد الملوك- و قال عبيد بن عمير كان اصحاب الكهف فتيانا مطوقين مسورين ذوى ذوائب و كان معهم كلب صيدهم فخرجوا في عيد لهم عظيم فى ذىّ و موكب و اخرجوا معهم الهتهم التي يعبدونها و قد قذف اللّه في قلوب الفتية الايمان و كان أحدهم وزير الملك فامنوا و أخفى كل واحد إيمانه- فقالوا في أنفسهم نخرج من بين اظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب يجرهم- فخرج شابّ منهم حتى انتهى الى ظل شجرة فجلس فيه- ثم خرج اخر فراه جالسا وحده فرجا ان يكون على مثل امره من غير ان يظهر ذلك- ثم خرج اخر فاجتمعوا الى مكان فقال بعضهم لبعض ما جمعكم و كل واحد يكتم صاحبه إيمانه مخافة على نفسه- ثم قالوا ليخرج كل فئتين فيخلو بصاحبه ثم يغشى كل واحد منكم سره الى صاحبه فاذاهم جميعا على الايمان و إذا كهف في الجبل قريبا منهم فقال بعضهم لبعض فاوآ الى الكهف ينشر لكم ربّكم من رّحمته - فدخلوا الكهف و معهم كلب صيدهم فناموا ثلاث مائة سنين و ازدادوا تسعا و فقدهم قومهم و طلبوهم فعمى اللّه عليهم اثارهم و كهفهم فكتبوا أسماءهم و أنسابهم في لوح ان فلان بن فلان و فلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا في سنة كذا في ملكة فلان بن فلان- و وضعوا اللوح في خزانة الملك فقالوا ليكونن لهذا شأن- و مات ذلك الملك و جاء قرن بعد قرن و قال وهب بن منبه جاء حوارى عيسى صلى اللّه عليه و سلم الى مدينة اصحاب الكهف فاراد ان يدخلها فقيل له ان على بابها صنما لا يدخلها أحد الا سجد له فكره ان يدخلها- فاتى حماما قريبا من المدينة فكان يؤاجر نفسه من الحمامي و يعمل فيه و راى صاحب الحمام في حمامه البركة و علقه فتية من اهل المدينة فجعل يخبرهم خبر السماء و الأرض حتى أمنوا و صدقوه و كان شرط على صاحب الحمام ان الليل لى لا يحول بينى و بينه و لا بين الصلاة أحد و كان على ذلك حتى اتى ابن الملك بامراة فدخل بها الحمام فعيّره الحمامي و قال أنت ابن الملك و تدخل مع هذه فاستحيى و ذهب فرجع مرة اخرى فقال له مثل ذلك فسبّه و انتهره و لم يلتفت الى مقالته حتى دخلا معا فماتا في الحمام و اتى الملك فقيل له قتل صاحب الحمام و ابنك فالتمس فلم يقدر عليه و هرب فقال من كان يصحبه فسموا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم على مثل ايمانهم فانطلق و معه كلب حتى اواهم الليل الى الكهف فدخلوه و قالوا نبيت هاهنا الليلة ثم نصبح ان شاء اللّه فترون رأيكم فضرب اللّه على آذانهم فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف فلما أراد رجل منهم دخوله رعب فلم يطق أحد ان يدخله- فقال قائل أ ليس لو قدرت عليهم قتلتهم قال بلى قال فابن عليهم باب الكهف و اتركهم فيه يموتون جوعا ففعل قال وهب فعبروا بعد ما سدوا عليهم باب الكهف زمانا بعد زمان- ثم ان راعيا أدركه المطر عند الكهف فقال لو فتحت هذا الكهف و ادخلت غنمى اليه فاكنّهم من المطر فلم يزل يعالجه حتى فتح- ورد اللّه أرواحهم من الغد حين أصبحوا- و قال محمد بن إسحاق ثم ملك اهل تلك البلاد رجل صالح يقال له بيدوسيس فلمّا بقي في ملكه ثمانية و ستين سنة فتحزّب الناس في ملكه و كانوا أحزابا منهم من يؤمن باللّه و يعلم ان الساعة حق و منهم من يكذّب بها- فكبر ذلك على الملك الصالح فبكى و تضرع الى اللّه و حزن حزنا شديدا لما راى اهل الباطل يزيدون و يظهرون على اهل الحق و يقولون لا حيوة الا الحيوة الدنيا و انما تبعث الأرواح و لا تبعث الأجساد- فجعل بيدوسيس يرسل الى من يظن فيه خيرا و انهم ائمة في الحق- فجعلوا يكذّبون بالساعة حتى كادوا ان يحوّلوا الناس عن الحق و ملة الحواريين- فلمّا راى ذلك الملك الصالح دخل بيته و أغلقه عليه و لبس مسحا و جعل تحته رمادا فجلس عليه- فداب ليله و نهاره زمانا يتضرع الى اللّه و يبكى و يقول اى ربّ قد ترى اختلاف هؤلاء- فابعث إليهم اية تبين لهم بطلان ما هو عليه ثم ان الرحمان الرحيم الذي يكره هلكة العباد أراد ان يظهر على الفتية اصحاب الكهف و يبين للناس شأنهم و يجعل اية و حجة عليهم ليعلموا انّ السّاعة اتية لا ريب فيها و يستجيب لعبده الصالح بيدوسيس ليتم نعمته عليه- و ان يجمع من كان تبدد من المؤمنين- فألقى اللّه في نفس رجل من اهل ذلك البلد الذي فيه الكهف كان اسم ذلك الرجل اولياس ان يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف- فيبنى به حضيرة لغنمه فاستأجر غلامين فجعل ينزعان تلك الحجارة و يبنيان على تلك الحضيرة حتى نزعاما على فم الكهف و فتحا باب الكهف و حجبهم اللّه عن أعين الناس بالرعب- فلمّا فتحا باب الكهف اذن اللّه عزّ و جلّ ذو القوة و السلطان محيى الموتى الفتية ان يجلسوا بين ظهرى الكهف فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم يسلّم بعضهم على بعض كانما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون فيها إذا أصبحوا من ليلتهم- ثم قاموا الى الصلاة فصلوا كالذى كانوا يفعلون- لا يرى في وجوههم و ألوانهم شى ء ينكرونه كهيئتهم حين رقدوا و هم يرون ان ملكهم دقيانوس في طلبهم- فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم نبئنا بالذي قالوا للناس عنا عشية أمس عند هذا الجبار و هم يظنون انهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون- و قد تخيل إليهم انهم ناموا أطول مما كانوا ينامون حتى يتساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض كم لبثتم نياما قالوا لبثنا يوما او بعض يوم ثم قالوا ربّكم اعلم بما لبثتم- و كل ذلك في أنفسهم يسير- فقال لهم تمليخا أ لستم في المدينة و هو يريد ان يوتى بكم اليوم فتذبحوا للطواغيت او يقتلكم- فما شاء اللّه بعد ذلك فعل فقال لهم مكسلمينا يا إخوتاه اعلموا امّكم مّلاقوا اللّه فلا تكفروا بعد ايمانكم إذا دعاكم عدو اللّه ثم قالوا لتمليخا انطلق الى المدينة فتسمع ما يقال لنابها و ما الذي يذكر عند دقيانوس و تلطّف و لا يشعر بك أحد و ابتغ لنا طعاما فأتنا به و زدنا على الطعام الذي جئتنا به فقد أصبحنا جياعا- ففعل تمليخا كما كان يفعل و وضع ثيابه و أخذ الثياب الذي كان ينتكر فيها- و أخذ ورقا عن نفقتهم التي كانت معهم الذي ضربت بطابع دقيانوس و كانت كخفاف الربع- فانطلق تمليخا خارجا فلمّا مرّ بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها ثم مرّ و لم يبال بها حتى اتى باب المدينة مستخفيا يصدعن الطريق تخوّفا ان يراه أحد من أهلها فيعرفه و لا يشعر ان دقيانوس و اهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاث مائة سنة- فلما اتى تمليخا باب المدينة وقع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لاهل الايمان إذا كان امر الايمان ظاهرا فلمّا راها عجب و جعل ينظر إليها مستخفيا و ينظر يمينا و شمالا- ثم ترك ذلك الباب فتحول الى باب اخر من ابوابها فراى مثل ذلك فجعل يخيّل اليه ان المدينة ليست بالتي كان يعرف- و راى ناسا كثيرا محدثين لم يكونوا هم قبل ذلك فجعل يمشى و يتعجب و يخيل اليه انه حيران- ثم رجع الى الباب الذي اتى منه فجعل يتعجب بينه و بين نفسه و يقول يا ليت شعرى ما هذا- اما عشية أمس فكان المسلمون يحبون هذه العلامة و يستخفون بها و اما اليوم فانها ظاهرة لعلّى نائم ثم يرى انه ليس بنائم- فاخذ كساءه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة فجعل يمشى بين ظهرى سوقها فيسمع ناسا يحلفون باسم عيسى بن مريم فزاده فرقا و راى انه حيران- فقام مسندا ظهره الى جداد من جدد المدينة و قال في نفسه و اللّه ما أدرى اما عشية أمس فليس على وجه الأرض من يذكر عيسى بن مريم الا قليل و اما الغداة فاسمعهم و كل انسان يذكر عيسى و لا يخاف- ثم قال في نفسه لعل هذا ليست بالمدينة التي اعرف و اللّه ما اعرف مدينة قرب مدنيتنا فقام كالحيران ثم لقى فتى فقال ما اسم هذه المدينة يا فتى قال اسمها أفسوس فقال في نفسه لعل شيئا او امرا اذهب عقلى و اللّه يحق لى ان اسرع الخروج منها قبل ان اخزى فيها او يصيبنى شر فاهلك ثم انه أفاق فقال و اللّه لو عجّلت الخروج من المدينة قبل ان يفطن بي كان أ ليس بي- فدنا من الذين يبيعون الطعام فاخرج الورق التي كان معه فاعطاها رجلا منهم فقال بعنى بهذه الورق طعاما فاخذها الرجل فنظر الى ضرب الورق و نقشها فتعجب منها ثم طرحها الى رجل من أصحابه- فنظر إليها فجعلوا يتطارحون بينهم و يقول بعضهم لبعض ان هذا أصاب كنزا خبيّبا في الأرض منذ زمان و دهر طويل- فلما راهم تمليخا يتشاورون من اجله فرق فرقا شديدا و جعل يرتعد و يظن انهم قد فطنوا به و عرفوه و انهم انما يريدون ان يذهبوا به الى ملكهم دقيانوس و جعل أناس اخر يأتونه فيتعرفونه فلا يعرفونه- فقال لهم و هو شديد الفرق منهم افضلوا علىّ قد أخذتم ورقى فامسكوها و اما طعامكم فلا حاجة لى به- فقالوا من أنت يا فتى و ما شأنك و اللّه لقد وجدت كنزا من كنوز الأولين و أنت تريد ان تخفيه منا فانطلق معنا و أرنا و شاركنا فيه نخف عليك ما وجدت- فانك ان لم تفعل نأت بك الى السلطان فنسلّمك اليه فيقتلك- فلما سمع قولهم قال قد وقعت و في كل شى ء كنت احذر منه- فقالوا يا فتى انك و اللّه لن تسطيع ان تكتم ما وجدت- فجعل تمليخا لا يدرى ما يقول لهم و ما يرجع إليهم و فرق حتى ما يحير إليهم شيئا- فلما رأوه انه لا يتكلّم أخذوا كساءه فطرحوه في عنقه ثم جعلوا يقودونه في سلك المدينة حتى سمع به من فيها فسألوه ما الخبر فقيل لهم أخذ رجل عنده كنز فاجتمع اليه اهل المدينة صغيرهم و كبيرهم فجعلوا ينظرون اليه و يقولون و اللّه ما هذا الفتى من اهل هذه المدينة و ما رايناه فيها قط- فجعل تمليخا لا يعرف ما يقول لهم فلما اجتمع اليه فرق فسكت و لم يتكلم- و كان مستيقنا ان أباه و اخوته بالمدينة و ان حسبه بالمدينة من عظماء أهلها و انهم سيأتونه إذا سمعوا به فبينا هو قائم كالحيران ينتظر حتى يأتيه بعض اهله فيخلصه من بين أيديهم- إذا اختطفوه و انطلقوا به الى رءوس المدينة و مدبريها الذين يدبر ان أمرها- و هما رجلان صالحان اسم أحدهما اريوس و الاخر اشطيوس- فلما انطلق به إليهما ظن تمليخا انه ينطلق به الى دقيانوس الجبار فجعل يلتفت يمينا و شمالا- و جعل الناس ليسخرون منه كما يسخر من المجنون- و جعل تمليخا يبكى ثم رفع رأسه الى السماء فقال اللّهم اله السماء و الأرض افرغ اليوم علىّ صبرا و ادلج معى روحا منك يؤيدني عند هذا الجبار و جعل يبكى- و يقول في نفسه فرّق بينى و بين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت و لو انهم يعلمون فيأتونى فنقوم جميعا بين يدى الجبار فانّا كنا توافقنا ان لا نفترق فى حيوة و لا موت ابدا- يحدث تمليخا نفسه فيما اخبر أصحابه حين رجع إليهم حتى انتهى الى الرجلين الصالحين اريوس و اشطيوس فلما راى تمليخا انه لا يذهب به الى دقيانوس أفاق و ذهب عنه البكاء- فاخذ اريوس و اشطيوس الورق فنظرا إليها و عجبا منها ثم قال له أحدهما اين الكنز الذي وجدت يا فتى- فقال تمليخا ما وجدت كنزا و لكن هذا ورق ابائى و نقش هذه المدينة و ضربها- و لكنى و اللّه ما أدرى ما شأنى و ما أقول لكم فقال أحدهما فمن أنت- فقال تلميخا اما انا فكنت من اهل هذه المدينة- فقالوا و من أبوك و من يعرفك بها- فانباهم باسم أبيه فلم يجدوا أحدا يعرفه و لا أباه- فقال له أحدهما أنت رجل كذّاب لا تنبئنا بالحق- فلم يدر تمليخا ما يقول لهم غير انه نكس بصره الى الأرض- فقال بعض من حوله هذا رجل مجنون و قال بعضهم ليس بمجنون و لكنه يمحّق نفسه عمدا لكى ينفلت منكم فقال له أحدهما دو نظر اليه نظرا شديدا تظن ان نرسلك و نصدقك بان هذا الورق مال أبيك- و نقش هذا الورق و ضربها اكثر من ثلاث مائة سنة- و انما أنت غلام شاب أ تظن انك تأفكنا و تسخر بنا و نحن شمط كما ترى و حولك سراة اهل المدينة و ولاة أمرها و خزائن هذه البلدة بايدينا و ليس عندنا من هذا الضرب درهم و لا دينار انى لاظن سامر بك فتعذب عذابا شديدا- ثم اوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدته فلمّا قال ذلك فقال لهم تمليخا انبئونى عن شى ء اسئلكم عنه فان فعلتم صدقتكم عمّا عندى قالوا سل لانكتمك شيئا- قال ما فعل الملك دقيانوس قالا ليس نعرف اليوم على وجه الأرض ملكا يسمى دقيانوس و لم يكن الا ملك هلك من زمان و دهر طويل و هلكت بعده قرون كثيرة فقال تمليخا انى إذا لحيران و ما هو بمصدقى أحد من الناس لقد كنافئة على دين واحد و هو الإسلام و ان الملك أكرهنا على عبادة الأوثان و الذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس- فلمّا انتبهنا خرجت لاشترى لهم طعاما و أتجسس الاخبار فانا كنا كما ترون- فانطلقوا معى الى الكهف الذي في جبل بيجلوس أراكم أصحابي فلما سمع اريوس ما يقول تمليخا قال يا قوم لعل هذه اية من آيات اللّه جعلها اللّه لكم على يدى هذا الفتى فانطلقوا بنا معه يرينا أصحابه- فانطلق معه اريوس و اشطيوس و انطلق معهم اهل المدينة كبيرهم و صغيرهم نحو اصحاب الكهف لينظروا إليهم- و لمّا راى الفتية اصحاب الكهفان تمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم و شرابهم عن القدر الذي كان يأتى به فيه ظنوا انه قد أخذ فذهب به الى ملكهم دقيانوس- فبينما هم يظنون ذلك و يتخوّفونه إذ سمعوا الأصوات و جبلة الخيل مصعدة نحوهم- فظنوا انهم رسل الجبار دقيانوس بعث إليهم ليؤتى بهم فقاموا الى الصلاة و سلّم بعضهم على بعض و اوصى بعضهم بعضا- و قالوا انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا- فانه الان بين يدى الجبار ينتظر متى نأتيه فبينما هو يقولون ذلك و هو جلوس بين ظهرانى الكهف لم يروا الا اريوس و أصحابه وقوفا على باب الكهف فسبقهم تمليخا فدخل عليهم و هو يبكى- فلمّا رأوه يبكى بكوا معه ثم سألوه عن شأنه فاخبرهم وقص عليهم النبأ كله فعرفوا عند ذلك انهم كانوا قياما بامر اللّه ذلك الزمان كله- و انما أوقظوا ليكونوا اية للناس و تصديقا للبعث- و يعلموا انّ السّاعة اتية لا ريب فيها- ثم دخل على اثر تمليخا اريوس فراى تابوتا من نحاس مختوما بخاتم من فضة- فقام بباب الكهف ثم دعا رجلا من عظماء اهل المدينة ففتح التابوت عندهم فوجد فيه لوحين من رصاص مكتوب فيهما ان مكسلمينا و مخشلمينا و تمليخا و مرطونس و بشرطونس- و بيربوس و دينومس و يطنومونس كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار مخافة ان يفتنهم عن دينهم فدخلوا هذا الكهف فلمّا اخبر بمكانهم امر بالكهف فسد عليهم بالحجارة و انا كتبنا شأنهم و خبرهم ليعلمه من بعدهم ان عثر عليهم- فلما قرءووه عجبوا و حمدوا اللّه الذي أراهم اية البعث فيهم ثم رفعوا أصواتهم بحمد اللّه و تسبيحه- ثم دخلوا على الفتية الى الكهف فوجدوهم جلوسا بين ظهريه سفرة وجوههم لم تبل ثيابهم فخرّ اريوس و أصحابه سجودا و حمدوا للّه الذي أراهم اية من آياته ثم كلم بعضهم بعضا و انبأهم الفتية عن الذين لقوا من ملكهم دقيانوس- ثم ان اريوس و أصحابه بعثوا بريدا الى ملكهم الصالح بيدوسيس ان اعجل لعلك تنظر الى آية من آيات اللّه جعلها اللّه على ملكك و جعلها اية للعالمين لتكون لهم نورا و ضياء و تصديقا للبعث- فاعجل الى فتية بعثهم اللّه عزّ و جل و قد كان توفّاهم اكثر من ثلاث مائة سنين- فلما اتى الملك الخبر قام فرجع اليه عقله و ذهب همه فقال أحمدك رب السموات و الأرض و أعبدك و اسبح لك تطولت علىّ و رحمتنى و لم تطف النور الذي كنت جعلته لآبائي و للعبد الصالح قسطيطينوس الملك فلمّا نبّابه اهل المدينة كبوا اليه و ساروا معه حتى أتوا مدينة أفسوس و ساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف- فلمّا راى الفتية بيدوسيس فرحوا به و خرّوا سجدا على وجوههم- و قام بيدوسيس قدامهم ثم اعتنقهم وركا و هم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون و يحمدونه- ثم قال الفتية لبيدوسيس نستودعك اللّه و السّلام عليك و رحمة اللّه و حفظك اللّه و حفظ ملكك و نعيذك باللّه من شر الجن و الانس- فبينما الملك قائم إذ رجعوا الى مضاجعهم فناموا و توفى اللّه أنفسهم- و قام الملك إليهم و جعل ثيابهم عليهم و امر ان يّجعل كل رجل منهم فى تابوت من ذهب فلمّا امسى و نام أتوه فقالوا له انا لم نخلق من ذهب و لا فضة و لكن خلقنا من تراب و الى التراب نصير فاتركنا كما كنا فى الكهف على التراب حتى يبعثنا اللّه منه فامر الملك حينئذ بتابوت من ساج و حجبهم اللّه حين خرجوا من عندهم بالرعب فلم يقدر أحد أن يدخل عليهم- و امر الملك فجعل على باب الكهف مسجدا يصلى فيه و جعل لهم عيدا عظيما و أمران يؤتى كل سنة- و قيل ان تمليخا لمّا حمل الى الملك الصّالح قال الملك من أنت- قال انا رجل من اهل هذه المدينة و ذكر انه خرج أمس او منذ ايام و ذكر منزله و أقواما لم يعرفهم أحد- و كان الملك قد سمع ان فتية فقدوا فى الزمان الاول و ان اسماء هم مكتوبة على اللوح فى الخزانة فدعا اللوح و نظر فى اسمائهم فاذا هو من أولئك القوم- و ذكر اسماء الآخرين فقال تمليخا هم أصحابي- فلما سمع الملك ذلك ركب هو و من معه من القوم فلمّا أتوا باب الكهف قال تمليخا دعونى حتى ادخل على أصحابي فابشّر هو فانّ هم ان رايكم معى دعبتموهم- فدخل فبشّرهم فقبض اللّه أرواحهم و أعمى عليهم اثرهم- فلم يهتدوا إليهم و ذلك قوله عز و جل إذ أوى الفتية الى الكهف الى قوله.

﴿ ١٠