٥

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى من بعد القذف وَ أَصْلَحُوا أحوالهم و أعمالهم بالتدارك فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) قال ابو حنيفة رحمه اللّه هذا الاستثناء راجع الى الجملة الاخيرة و محله النصب لما تقرر في الأصول من مذهبه ان الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة بعضها على بعض يرجع الى الاخيرة مالم يكن هناك قرينة صارفة عنها الى الكل لكونها قريبة من الاستثناء متصلة به و لان الجملة الاخيرة هاهنا منقطعة عما سبقها من الجمل نظرا الى حكمه لاختلاف نسقها و ان اتصلت بما سبق باعتبار ضمير او اسم اشارة- و لان الجملة الاخيرة بسبب انقطاعها عما سبق حائل بين المستثنى و بين ما سبق من الجملتين الأوليين فلا يستحقق الاتصال الّذي هو شرط الاستثناء- و لان الاستثناء يعود الى ما قبله لضرورة عدم استقلاله و قد اندفعت الضرورة بالعود الى جملة واحدة و قد عاد الى الاخيرة بالاتفاق فلا ضرورة في العود الى ما قبلها و لانه لما ورد الاستثناء في الكلام لزم توقف صدر الكلام عليه ضرورة انه لا بد له من مغير و الضرورة تندفع بتوقف جملة واحدة فلا يتجاوز الى الأكثر- لا يقال ان الواو للعطف و التشريك فيفيد اشتراك الجمل في الاستثناء لانا نقول العطف لا يفيد شركة الجملة التامة في الحكم مع ان وضع العاطف للتشريك في الاعراب و الحكم فلان لا يفيد التشريك ف ي الاستثناء و هو يغير الكلام و ليس بحكم له اولى و لان التوبة تصلح منهيا للفسق و لا تصلح منهيّا للحدود فان الحدود لا تندفع بالتوبة و اللّه اعلم و قال الشعبي ان الاستثناء يرجع الى الكل و محله النصب فيسقط عنده حدّ القذف بالتوبة- و جمهور العلماء على انه لا يسقط بالتوبة- و قال مالك و الشافعي الاستثناء راجع الى الجملتين الأخريين دون الاولى و محله الجر- و مبنى لهذين القولين ما ذكر في الأصول من مذهب الشافعي و غيره ان الاستثناء عند عدم القرينة يرجع الى الجمل المتعاطفة كلها- غير ان الشافعي يقول ان جملة لا تقبلوا منقطع عما سبق غير داخلة في الحد فلا يرجع الاستثناء الى الجملة الاولى لاجل الانقطاع و يرجع الى الأخريين- و

قال البيضاوي ما حاصله ان الاستثناء راجع الى الكل و لا يلزم منه سقوط الحد بالتوبة كما قيل لان من تمام التوبة الاستسلام للحد او الاستحلال من المقذوف-

قلت التوبة هو الندم و الاستغفار فلو فرض سقوط الحد به لا يجب عليه الاستسلام فبناء على هذا قال الشافعي ان القاذف نزد شهادته بنفس القذف و ان لم يطالب المقذوف حدّه لاجل فسقه- و إذا تاب و ندم على ما قال و حسنت حاله قبلت شهادته سواء تاب بعد اقامة الحدّ عليه او قبله و بعد التوبة يقبل شهادته و يزول عنه اسم الفسق-

قال البغوي يروى ذلك عن عمرو ابن عباس و هو قول سعيد بن جبير و مجاهد و عطاء و طاؤس و سعيد بن المسيب و سليمان بن يسار و الشعبي و عكرمة و عمر بن عبد العزيز و الزهري

قال البغوي قال الشافعي و هو يعنى القاذف قبل ان يحد شر منه حين يحد لان الحدود كفارات فكيف ترد شهادته في احسن حاليه و تقبل في شر حاليه-

قلنا نحن ايضا نقول ان القاذف ترد شهادته بنفس القذف لاجل فسقه فان لم يطالب المقذوف الحدّ لا يحدّ و لا يقبل شهادته مالم يتب- روى عن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم الّا الّذين تابوا و أصلحوا قال توبتهم إكذابهم أنفسهم فان كذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم و لهذا الحديث ان صح كان حجة للشافعى الكن قلت أحاديث الآحاد لا تصلح معارضا لنص الكتاب اى لا تقبلوا لهم شهادة ابدا فان تاب قبلت شهادته لزوال فسقه و ان طالب المقذوف يحد فيجلد ثمانين سوطا و لا يقبل شهادته ابدا سواء تاب ا و لم يتب لان رد الشهادة حينئذ لحق العبد و حق العبد لا يسقط بالتوبة فلا يلزمنا ما قال الشافعي انه ترد شهادته في احسن حاليه و تقبل في شر حاليه- فائدة لا خلاف في ان حد القذف اجتمع فيه الحقان حق اللّه تعالى و حق العبد فانه شرع لدفع العار عن المقذوف و هو الّذي ينتفع به على الخصوص فمن هذا الوجه هو حق العبد ثم انه شرع زاجرا و لذا سمى حدا و المقصود من شرع الزواجر اخلاء العالم عن الفساد و هذا اية حق اللّه تعالى فمن أجل كونه حقّا للعبد يشترط فيه مطالبة المقذوف و لا يبطل الشهادة بالتقادم و يجب على المستأمن- و يقيمه القاضي بعلمه إذا علمه في ايام قضائه لا إذا علم قبل ولايته حتى يشهد به عنده- و يقدم استيفاؤه على حد الزنى و السرقة إذا اجتمعا و لا يصح الرجوع عنه بعد الإقرار به- و من أجل كونه حقا للّه تعالى لا يجوز للمقذوف استيفاؤها بنفسه بل الاستيفاء للامام و يندرئ بالشبهات و لا ينقلب مالا عند سقوطه و لا يستخلف عليه القاذف و ينتصف بالرق كسائر العقوبات الواجبة حقا للّه تعالى- بخلاف حق العبد فانه يتقدر بقدر التالف و لا يختلف باختلاف المتلف و لهذه الفروع كلها متفقة عليها- و اختلفوا في تغليب أحد الحقين على الاخر فمال الشافعي الى تغليب حق العبد باعتبار حاجته و غنى اللّه تعالى- و مال ابو حنيفة الى تغليب حق اللّه تعالى لان ما للعبد يتولاه مولاه فيصير حق العبد مرعيّا به و لا كذلك عكسه إذ لا ولاية للعبد في استيفاء حقوق اللّه تعالى إلا بنيابته- و يتفرع على هذا الاختلاف فروع اخر مختلف فيها- منها الإرث فعند الشافعي حدّ القذف يورث و عند ابى حنيفة لا يورث إذ الإرث لا يجرى في حقوق اللّه و يجرى في حقوق العباد بشرط كونه مالا او ما يتصل بالمال كالكفالة او ما ينقلب الى المال كالقصاص و الحد ليس شيئا منها فيبطل بموت المقذوف- إذ لم يثبت بدليل شرعى استخلاف الشرع وارثا جعل له حق المطالبة الّتي جعل شرطا لظهور حقه- فمن قذف أحدا فمات المقذوف قبل اقامة الحد او بعد ما أقيم بعضه بطل الباقي عندنا خلافا للشافعى- و منها العفو فلو عفا المقذوف بعد ثبوت الحد لا يسقط عندنا و عند الشافعي و هو رواية عن ابى يوسف يسقط- لكن لو قال المقذوف لم يقذفنى و كذب شهودى فحينئذ يسقط اتفاقا لما ظهر ان القذف لم يوجد فلم يجب الحد لا انه وجب فسقط بخلاف القصاص فانه يسقط بالعفو بعد وجوبه لان الغالب فيه حق العبد- و منها انه لا يجوز الاعتياض عن حد القذف عند ابى حنيفة و به قال مالك و عند الشافعي و احمد يجوز- و منها انه يجرى فيه التداخل عند ابى حنيفة رحمه اللّه و به قال مالك حتى لو قذف شخصا واحدا امرأة او قذف جماعة كان فيه حدّا واحدا إذا لم يتخلل الحد بين القذفين- و لو ادعى بعضهم فحد ففى أثناء الحد ادعى اخر كمل ذلك الحد و عند الشافعي لا يجرى فيه التداخل-

قلت لمّا ثبت ان حد القذف اجتمع فيه حق اللّه و حق العبد كما يشهد به المسائل المتفقة عليها و ثبت ايضا ان الحدود تندرئى بالشبهات- فالاولى ان يقال انه إذا اقتضى أحد الحقين وجوب الحد و الآخر سقوطه فلا بد ان يفتى بالسقوط فانه ان يخطئى في العفو خير من ان يخطئى في العقوبة- فلا يقال بجريان الإرث فيه كما قال ابو حنيفة و يقال بسقوطه بعفو المقذوف لسقوط المطالبة الّتي هى شرط لاستيفائه كما قال الشافعي و يجرى فيه التداخل كما قال ابو حنيفة- و لو صالحا على الاعتياض يعنى بسقوط الحد فحصول الرضاء من المقذوف و لا يجب المال على القاذف لاحتمال كونه حقا للّه تعالى و اللّه اعلم- روى البخاري في الصحيح عن ابن عباس ان هلال بن امية قذف امرأته ....

عند النبي صلى اللّه عليه و سلم بشريك بن سمحا فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول اللّه إذا وجد أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول البينة و الأحد في ظهرك فقال هلال و الّذي بعثك بالحق انى لصادق فلينزلن اللّه ما يبرئى ظهرى من الحد فنزل جبرئيل و انزل اللّه عليه.

﴿ ٥