سُورَةُ السَّجْدَةِ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ ثَلاَثُونَ آيَةً

مكّيّة و هى ثلاثون اية ربّ يسّر و تمّم بالخير

 بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

_________________________________

١

الم (١) ان جعل اسما للسورة او القران فهو مبتدا خبره.

٢

تَنْزِيلُ الْكِتابِ على انه بمعنى المنزل و الاضافة من قبيل اخلاق ثياب و الا فهو خبر مبتدا محذوف اى هذا تنزيل او مبتدا خبره لا رَيْبَ فِيهِ فيكون مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) حالا من الضمير فى فيه لان المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر و يجوز ان يكون خبرا ثانيا او خبرا اولا و لا ريب فيه اعتراضا لا محل له و الضمير فى فيه راجع الى مضمون الجملة كانّه قيل لا ريب فى كونه منزلا مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ او الخبر.

٣

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ و لا ريب فيه حال من الكتاب او اعتراض و من ربّ العلمين متعلق بتنزيل و الضمير فى فيه لمضمون الجملة و يؤيده قوله تعالى بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فانه تقرير له و نظم الكلام على هذا انه أشار اولا الى اعجازه بقوله الم ثم رتب عليه ان تنزيله من رب العالمين و قور ذلك بنفي الريب عنه ثم اضرب عن ذلك الى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكارا له و تعجبا منه فان أم منقطعة بمعنى بل و الهمزة للانكار ثم اضرب عنه الى اثبات انه الحق المنزل من اللّه و بيّن المقصود من تنزيله فقال لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ يا محمد إذ كانوا اهل الفترة التي كانت بين عيسى و محمد صلى اللّه عليهما و سلم و جملة ما اتهم صفة لقوم لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) بانذارك إياهم.

٤

اللّه الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ ا لْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما

اللّه مبتدا و الموصول مع صلته خبره فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أولها يوم الأحد و آخرها الجمعة ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ عطف على خلق و قد بسطنا الكلام فى الاستواء على العرش فى سورة يونس و ذكرنا فى سورة الأعراف ايضا ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ يعنى إذا جاوزتم مرضاته لا ينصركم فى مواطن النصر و الشفيع متجوز به للناصر فاذا أخذ لكم لم يبق لكم ولى و لا ناصر استيناف او حال من فاعل استوى أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) بمواعظ اللّه الهمزة للانكار و الفاء للعطف على محذوف تقديره الا تتفكرون فلا تتذكرون.

٥

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ استئناف او حال من فاعل استوى او خبر بعد خبر للّه او خبر أول و الموصول مع صلته صفة للّه و ما لكم حال يعنى يدبر امر الدنيا مِنَ السَّماءِ اى بأسباب سماوية نازلة اثارها إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ اى يصعد إِلَيْهِ و يثبت فى علمه موجودا او المعنى يدبر الأمر اى يحكم بالأمر و ينزل الوحى مع جبرئيل او ينزل القضاء و القدر مع الملك المؤكل به من السماء الى الأرض ثم يعرج اى يصعد جبرئيل او غيره من الملائكة اليه اى الى اللّه يعنى الى حيث يرضاه فِي يَوْمٍ من ايام الدنيا و المراد باليوم هاهنا مطلق الوقت لا بياض النهار لان نزول الملائكة و صعودها غير مختص بالنهار كانَ مِقْدارُهُ حال بتقدير قد اى و قد كان مقدار عروجه و نزوله أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) يعنى لو سار أحد من بنى آدم لم يقطعه الا فى الف سنة لكن اللّه بكمال قدرته جعل نزوله و عروجه فى طرفة عين-

قال البغوي هذا وصف عروج الملائكة و نزولها من السماء الى الأرض و اما قوله تعالى تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مدة المسافة من الأرض الى سدرة المنتهى التي هى مقام جبرئيل يقول يسير جبرئيل و الملائكة الذين معه من اهل مقامه مسيرة خمسين الف سنة فى يوم من ايام الدنيا اى برهة من الزمان هذا كله معنى قول مجاهد و الضحاك-

قلت و جاز ان يكون المراد فى الآيتين المسافة التي بين الأرض و السدرة المنتهى على اختلاف سير السائرين فانه ورد فى حديث العباس بن عبد المطلب عند الترمذي بعد ما بين السماء و الأرض اما واحدة و اما اثنتان او ثلاث و سبعون سنة و فى حديث ابى هريرة عند احمد و الترمذي مسافة ما بينهما و بين كل سمائين خمس مائة سنة و لا وجه لتطبيقهما الا باعتبار اختلاف سير السائرين و اللّه اعلم.

و قيل معنى الاية يُدَبِّرُ الْأَمْرَ اى امر الدنيا مِنَ السَّماءِ اى بأسباب سماوية كالملائكة و غيرها نازلة اثارها الى الأرض ثم يرجع الأمر و التدبير اليه وحده بعد فناء الدنيا و انقطاع امر الأمراء و حكم الحكام فى يوم كان مقداره الف سنة و هو يوم القيامة لما روى الترمذي عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمس مائة عام و نصف يوم و اما قوله تعالى تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أراد به ايضا يوم القيامة- روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من صاحب كنز لا يؤدى زكوة كنزه الا احمى عليه فى نار جهنّم فيجعل صفائح فتكوى بها جنباه و جبينه حتى يحكم اللّه بين عباده فى يوم كان مقداره خمسين الف سنة ثم يرى سبيله اما الى الجنة و اما الى النار الحديث- و وجه التطبيق بين الحديثين ان يوم القيامة يختلف طوله بالنسبة الى الاشخاص يكون ذلك اليوم على بعض الناس مقدار خمسين الف سنة و على بعضهم مقدار الف سنة و على بعضهم أخف من ايام الدنيا اخرج الحاكم و البيهقي عن ابى هريرة مرفوعا و موقوفا طول ذلك اليوم على المؤمنين كمقدار بين الظهر و العصر- و كذا ذكر البغوي قول ابراهيم التيمي

و اخرج ابو يعلى و ابن حبان و البيهقي بسند حسن عن ابى سعيد قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن يوم كان مقداره خمسين الف سنة ما أطول هذا اليوم فقال و الذي نفسى بيده انه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصليها فى الدنيا- و

قال البغوي قال ابن ابى مليكة دخلت انا و عبد اللّه بن فيروز مولى عثمان بن عفان على ابن عباس فسأله عن هذه الاية و عن قوله تعالى خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فقال له ابن عباس ايام سماه اللّه تعالى لا أدرى ما هى و اكره ان أقول فى كتاب اللّه ما لا اعلم-

و اخرج البيهقي من طريق ابن ابى طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قال هذا فى الدنيا و قوله تعالى فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فهذا يوم القيمة جعله اللّه على الكافر مقدار خمسين الف سنة- و اختار جلال الدين المحلى هذه الرواية فى تفسيره و قيل يقضى قضاء الف سنة فينزل به الملك ثم يعرج بعد الالف لالف اخر- و قيل يدبر الأمور به من الطاعات منزلا من السماء الى الأرض بالوحى ثم لا يعرج اليه خالصا كما يرتضيه الا فى مدة متطاولة لقلة المخلصين فى الأعمال.

٦

ذلِكَ المدبر الخالق للسموات و الأرض و ما بينهما مبتدا خبره عالِمُ الْغَيْبِ اى ما غاب عن الخلق وَ الشَّهادَةِ اى ما حضر عندهم فيدبر الأمور على وفق الحكمة الْعَزِيزُ الغالب على امره الرَّحِيمُ (٦) على العباد فى تدبيره و فيه ايماء بانه يراعى المصالح تفضلا و إحسانا صفتان لعالم الغيب و الشهادة او خبر ثان و ثالث لذلك.

٧

الَّذِي أَحْسَنَ الموصول مع الصلة صفة بعد الصفتين المذكورتين او خبر رابع لذلك كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ «و ابو جعفر و يعقوب- ابو محمد» قرا ابن كثير و ابو عمرو و ابن عامر بسكون اللام فهو بدل اشتمال من كلّ شى ء يعنى احسن خلق كل شى ء موافرا عليه ما يستعده و يليق به على وفق الحكمة كذا قال قتادة و قال ابن عباس أتقنه و أحكمه اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فى قوله أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ قال اما ان است القردة ليست بحسنة و لكنه احكم خلقها و قال مقاتل اى علم كيف يخلق كل شى ء من قولك فلان يحسن كذا إذا كان يعلم-

و قرا نافع و الكوفيون بفتح اللام على صيغة الماضي على انه صفة لشئ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعنى آدم عليه السلام مِنْ طِينٍ (٧)

٨

ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ سميت به لانها تنسل منه اى تنفصل مِنْ سُلالَةٍ اى نطفة سميت سلالة لانها تسل من الإنسان مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ضعيف بدل من سلالة او بيان له.

٩

ثُمَّ سَوَّاهُ اى الإنسان قوّمه بتصوير أعضائه على ما ينبغى وَ نَفَخَ فِيهِ اى فى الإنسان مِنْ رُوحِهِ الضمير اما راجع الى الإنسان او الى الذي احسن خلق كلّ شى ء تشريفا و إظهارا بانه خلق عجيب له شأن عظيم ممكن له نسبة بما لا مثل له و لا كيف وَ جَعَلَ لَكُمُ التفات من الغيبة الى الخطاب السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لتسمعوا و تبصروا و تعقلوا بعد ما كنتم نطفا بغير سمع و بصر و تعقّل قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (٩) ما زائدة مؤكدة للقلة اى شكرا قليلا او فى زمان قليل تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه و تعبدونه.

١٠

وَ قالُوا اى منكرى البعث عطف على جعل لكم السّمع و فيه التفات من الخطاب الى الغيبة أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ اى غبنا فيها يعنى صرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض بحيث لا يتميز بينهما و أصله من قولهم ضل الماء فى اللبن إذا اختلط به و غاب فيه قرا ابن عامر «و ابو جعفر- ابو محمد ٣» إذا بهمزة واحدة على الخبر و العامل فيه ما دل عليه أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ و هو نبعث و نجدّد خلقا قرا نافع و الكسائي و يعقوب انّا بهمزة واحدة على الخبر- و القائل ابى بن خلف و الاسناد الى جميعهم لرضائهم به و الاستفهام لانكار البعث استبعادا بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ اى بما بعد البعث من الجزاء كافِرُونَ (١٠) لمّا ذكر كفرهم بالبعث اضرب عنه الى ما هو ابلغ منه و هو انهم كافرون بجميع ما يكون فى الاخرة.

١١

قُلْ يا محمّد يَتَوَفَّاكُمْ اى يستوفى نفوسكم لا يترك منها شيئا او لا يبقى منكم أحدا و التفعل و الاستفعال يستعمل أحدهما مقام الاخر يقال تقصّيته و استقصيته و تعجلته و استعجلته مَلَكُ الْمَوْتِ و هو عزرائيل عليه السلام روى البغوي عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الأمراض و الإرجاع كلها بريد الموت و رسول الموت فاذا حان الاجل اتى ملك الموت فقال ايها العبد كم خبر بعد خبروكم رسول بعد رسول و كم بريد بعد بريد انا الخبر ليس بعدي خبر و انا الرسول ليس بعدي رسول أجب ربك طائعا او مكرها و لمّا قبض روحه و تصارخوا عليه قال على من تصرخون و على من تبكون و اللّه ما ظلمت له أجلا و لا أكلت له رزقا بل دعاه ربه فليبك الباكي على نفسه فو اللّه ان لى عودات و عودات حتى لا أبقى فيكم أحدا الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ اى و كل بقبض أرواحكم و له أعوان من الملائكة و قد ذكرنا الأحاديث الواردة فى ملك الموت و أعوانه فى تفسير سورة الانعام فى تفسير قوله تعالى حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ.

(مسئلة) ملك الموت لا يعلم بوقت أحد ما لم يؤمر به اخرج احمد و ابن ابى الدنيا عن معمر قال بلغنا ان ملك الموت لا يعلم متى يحضر أجل الإنسان حتى يؤمر بقبضه

و اخرج ابن ابى الدنيا عن ابن جريج قال بلغنا انه يقال لملك الموت اقبض فلانا فى وقت كذا فى يوم كذا.

(مسئلة) ملك الموت يظهر للمؤمن بأحسن صورة و للكافر باقبحها اخرج ابن ابى الدنيا عن ابن مسعود و ابن عباس قالا لمّا اتخذ اللّه ابراهيم خليلا سال ملك الموت ان يأذن له ان يبشر له بذلك فاذن له فجاء ابراهيم فبشره فقال الحمد للّه ثم قال يا ملك الموت أرني كيف تقبض أنفاس الكفار قال يا ابراهيم لا تطيق ذلك قال بلى قال فاعرض فاعرض ثم نظر فاذا برجل اسود ينال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار و ليس من شعرة فى جسده الا فى صورة رجل يخرج من فيه و مسامه لهب النار فغشى على ابراهيم ثم أفاق و قد تحول ملك الموت فى الصورة الاولى- فقال يا ملك الموت لو لم يبق الكافر من البلاء و الحزن الا صورتك لكفاه فارنى كيف تقبض أرواح المؤمنين قال فاعرض فاعرض ثم التفت فاذا هو برجل شاب احسن الناس وجها و أطيبهم ريحا فى ثياب بيض فقال يا ملك الموت لو لم ير المؤمن عند الموت من قرة عين و الكرامة الا صورتك هذه يكفيه

و اخرج عن كعب ان ابراهيم أراه ملك الموت الصورة التي يقبض بها المؤمن قال فراه من النور و البهاء شيئا لا يعلمه الا اللّه و التي يقبض بها الكفار الفجار فرعب ابراهيم رعبا حتى أرعدت فرائصه و الصق بطنه بالأرض و كادت نفسه تخرج.

(مسئلة) كيف يكون الموت سوى الآدميين اخرج ابو الشيخ و العقيلي فى الصغاء و الديلمي عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم آجال البهائم و حشاش الأرض كلها فى التسبيح فاذا انقضى تسبيحها قبض اللّه أرواحها و ليس الى ملك الموت من ذلك شى ء و له طريق اخر أخرجه الخطيب من حديث ابن عمر مثله قال ابن عطية و القرضى معنى ذلك ان اللّه تعالى يعدم حياتها بلا مباشرة ملك الموت-

قلت جعل ملك الموت و أعوانه للانسان إكراما للمؤمنين و اهانة و تعذيبا للكافرين

و اخرج الخطيب فى تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس قال وكّل ملك الموت يقبض أرواح الآدميين فهو الذي يقبض أرواحهم و ملك فى الجن و ملك فى الشياطين و ملك فى الوحش و الطير و السباع و الحيتان و النمل فهو اربعة املك و الملائكة يموتون فى الصعقة الاولى و ان ملك الموت يلى قبض أرواحهم ثم يموت فامّا الشهداء فى البحر فان اللّه يلى قبض أرواحهم لا يكل ذلك الى ملك الموت لكرامتهم عليه حيث ركبوا سيح البحر فى سبيله- و فيه جويبر ضعيف جدّا و الضحاك عن ابن عباس منقطع و لاخره شاهد مرفوع أخرجه ابن ماجة عن ابى امامة سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان اللّه و كل ملك الموت بقبض الأرواح الا شهداء البحر فان اللّه يتولى قبض أرواحهم-

قلت فشهداء بحر العشق و المعرفة اولى بذلك الكرامة و اللّه اعلم.

ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) يعنى بعد الموت يصعد بروح المؤمن ملائكة الرحمة الى السموات حتى ينتهى بها الى السماء السابعة و بروح الكافر ملائكة العذاب حتى ينتهى بها الى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له فيطرح روحه طرحا و قد مر الحديث فى سورة الانعام او المعنى ترجعون بعد الحشر احياء الى موقف الحساب فيجزى كل نفس بما عملت و قد مرّ ثم ذكر اللّه سبحانه حالهم بعد الحشر فقال.

١٢

وَ لَوْ تَرى يا محمّد إِذِ الْمُجْرِمُونَ اى المشركين الذين قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ ... ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ حال من الضمير فى المجرمون عِنْدَ رَبِّهِمْ ندامة و حزنا يقولون حال من فاعل ناكسوا او حال مرادف له او استيناف فى جواب ما يقولون حينئذ رَبَّنا أَبْصَرْنا ما وعدتنا و كنا مكذّبيه وَ سَمِعْنا منك تصديق رسلك فيما كذّبناهم و قيل معناه أبصرنا معاصينا و سمعنا ما قيل فينا فَارْجِعْنا الى الدنيا نَعْمَلْ عملا صالِحاً مجذوم فى جواب الدعاء إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) الان بما كنا شاكّين فيه قبل و جواب لو محذوف تقديره لرايت امرا فظيعا و يجوز ان يكون لو للتمنى و المضي فى لو و إذ لكون الثابت فى علم اللّه بمنزلة الواقع و لا يقدر لترى مفعول لان المعنى لو يكون منك رؤية فى هذا الوقت او يقدر ما دل عليه صلة إذ يعنى لو ترى نكوس رءوسهم.

١٣

وَ لَوْ شِئْنا ان نؤتى كل نفس هداها اى ما يهتدى به الى الايمان و العمل الصالح و خلق الانقياد للرسول باختياره قلبا و قالبا او المعنى لو شئنا هداية كل نفس لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ عاقلة من الجن و الانس هُداها وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي اى ثبت قضائى بعدم هدايتهم و عدم اهتدائهم و كون مصيرهم الى النار او سبق و عيدى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ اللام فيهما للعهد و المراد المجرمون من الفريقين الذين مرّ ذكرهم بدليل قوله أَجْمَعِينَ (١٣) عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه خلق للجنة أهلا خلقهم لها و هم فى أصلاب ابائهم و خلق للنار أهلا خلقهم لها و هم فى أصلاب ابائهم رواه مسلم و عن علىّ رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما منكم من أحد الا و قد كتب مقعده من النار و مقعده من الجنة قالوا يا رسول اللّه أ فلا نتكل على كتابنا و ندع العمل قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له اما من كان من اهل السعادة فسييسر لعمل اهل السعادة و اما من كان من اهل الشقاوة فسييسر لعمل اهل الشقاوة ثم قرا فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اتَّقى وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى الاية متفق عليه و عن عبد اللّه ابن عمرو قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و فى يده كتابان فقال أ تدرون ما هذان الكتابان

قلنا لا يا رسول اللّه الا تخبرنا فقال للذى فى يمينه هذا كتاب من رب العالمين فيه اسماء اهل الجنة و اسماء ابائهم و قبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم و لا ينقص منهم ابدا ثم قال للذى فى شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه اسماء لاهل النار و اسماء ابائهم و قبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم و لا ينقص منهم ابدا فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول اللّه ان كان امر قد فرغ منه فقال سددوا و قاربوا فان صاحب الجنة يختم له بعمل اهل الجنة و ان عمل اىّ عمل و ان صاحب النار يختم له بعمل اهل النار و ان عمل اىّ عمل ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بيديه فنبذهما ثم قال فرغ ربّكم من العباد فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ- رواه الترمذي- و جملة لاملانّ جواب قسم محذوف و بيان للقول المذكور بتقدير هو او بدل عنه و جاز ان يكون حق القول فى حكم القسم يقال حقّا لافعلن كذا فعلى هذا يكون لاملانّ جوابا له و قال مقاتل المراد بالقول هو قوله تعالى لابليس لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ و فى هذه تصريح بان عدم ايمانهم مسبب بعدم المشيّة- و حق القول اما تقرير لعدم المشية و المعنى و لكن شئت كفرهم و مصيرهم الى النار او تعليل لعدم المشية بسبق القضاء و لا يدفعه جعل ذوق العذاب مسببا عن نسيانهم العاقبة و عدم تفكرهم فيها بقوله.

١٤

فَذُوقُوا الفاء للسببية يعنى لما حقّ القول منّى كذلك فيقول لهم خزنة جهنم إذا دخلوها ذوقوا عذاب جهنم بِما نَسِيتُمْ اى بسبب نسيانكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ يعنى البعث و الرجوع الى اللّه اى الى موقف حسابه هذا صفة ليومكم حتى عملتم موجبات العذاب إِنَّا نَسِيناكُمْ اى تركناكم من الرحمة او فى العذاب ترك المنسى و فى استينافه و بناء الفعل على ان و اسمها تشديد فى الانتقام منهم وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) كرر الأمر للتوكيد و لما نيط به من التصريح بمفعوله و تعليله بأعمالهم السيئة من الكفر و المعاصي كما عللّه بتركهم تدبر امر العاقبة و التفكر فيها دلالة على ان كل منهما يقتضى ذلك و هذه الاية حجة لنا على الجبرية و القدرية- اما على الجبرية فلقوله بما نسيتم حيث جعل سبب ذوق العذاب نسيانهم و تركهم الايمان و الأعمال الصالحة باختيارهم و اما على القدرية فانهم يقولون ان اللّه يشاء من عباده كلهم الايمان و الأعمال الصالحة و هم تركوا الايمان بمشيتهم و اختيارهم فالاية تدل على انه لا جبر و لا تفويض بل امر بين أمرين.

١٥

إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها اى وعظوا خَرُّوا وقعوا على وجوههم خوفا من عذاب اللّه سُجَّداً اى ساجدين وَ سَبَّحُوا اى نزهوا عما لا يليق به كالعجز عن البعث بِحَمْدِ رَبِّهِمْ متلبسين بحمده يعنى حامدين له شكرا على ما وفقهم للاسلام و أتاهم الهدى قائلين سبحان اللّه و بحمده وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) عن الايمان و الطاعة.

١٦

تَتَجافى حال من فاعل سبحوا اى ترتفع و تتنحى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ اى الفرش التي ينامون عليها يَدْعُونَ حال من الضمير المجرور فى جنوبهم و هو فاعل تتجافى على طريقة دابر هؤلاء مقطوع مصبحين رَبَّهُمْ خَوْفاً من سخطه و عذابه وَ طَمَعاً فى رحمته و ثوابه اخرج هناد عن اسماء بنت يزيد رضى اللّه عنها قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يجمع اللّه يوم القيامة الناس فى صعيد واحد يسمعهم الداعي و ينفذهم البصر فيقوم مناد فينادى اين الذين كانوا يحمدون اللّه تعالى فى السراء و الضراء فيقومون و هم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يعود فينادى اين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون و هم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يقوم سائر الخلق فيحاسبون-

و اخرج ابن راهويه و ابو يعلى فى مسنديهما من حديثها نحوه و فيه ينادى اولا بصوت يسمع الخلائق سيعلم اهل الجمع من اهل الكرم قال الحسن و مجاهد و مالك و الأوزاعي و جماعة العلماء هم المتهجدون الذين يقومون لصلوة الليل روى احمد و الترمذي و ابن ماجة و ابن ابى شيبة و ابن راهويه فى مسنديهما و الحاكم عن معاذ قال قلت يا رسول اللّه أخبرني بعمل يدخلنى الجنة و يباعدنى من النار قال لقد سالت من عظيم و انه يسير على من يسره اللّه عليه تعبد اللّه و لا تشرك به شيئا و تقيم الصلاة و تؤتى الزكوة و تصوم رمضان و تحج البيت ثم قال الا ادلك على أبواب الخير الصوم جنة و الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار و صلوة الرجل فى جوف الليل ثم تلا تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حتى بلغ يعملون ثم قال الا ادلّك برأس الأمر و عموده و ذروة سنامه قلت بلى يا رسول اللّه قال رأس الأمر الإسلام و عموده الصلاة و ذروة سنامه الجهاد ثم قال الا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا نبى اللّه فاخذ بلسانه و قال كف عليك هذا فقلت يا نبى اللّه و انا لمواخذون بما نتكلم به قال ثكلتك أمك يا معاذ و هل يكب الناس فى النار على وجوههم او على مناخرهم الا حصائد ألسنتهم.

و عن ابى مالك الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان فى الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها و باطنها من ظاهرها أعدها اللّه لمن الان الكلام و اطعم الطعام و تابع الصيام و صلّى بالليل و الناس نيام- رواه البيهقي فى شعب الايمان- و روى الترمذي عن على نحوه و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أفضل الصيام بعد رمضان شهر اللّه المحرم و أفضل الصلاة بعد الفريضة صلوة الليل- رواه مسلم و روى احمد الفصل الا خير بلفظ أفضل الصلاة بعد الفريضة صلوة فى جوف الليل و روى البغوي عن ابن مسعود رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عجب ربنا عن رجلين رجل ثار عن وطائه و لحافه من بين حبه و اهله الى صلوته فيقول اللّه لملائكته انظروا الى عبدى ثار عن فراشه و وطائه من بين حبه و اهله رغبة فيما عندى و شفقة ممّا عندى و رجل غزا فى سبيل اللّه فانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه فى انهزامه و ماله فى الرجوع فرجع حتى أهريق دمه فيقول اللّه لملائكته انظروا الى عبدى رجع رغبة فيما عندى و شفقة عما عندى حتى أهريق دمه و روى البغوي عن ابى هريرة ما قال ابن «١» رواحة و فينا رسول اللّه يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات انّ ما قال واقع يبيت يجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالكافرين المضاجع و قد ذكرنا ما ورد من الأحاديث فى فضائل صلوة الليل فى تفسير سورة المزّمّل

و اخرج الترمذي و صححه عن انس ان هذه الاية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ نزلت فى انتظار الصلاة التي تدعى العتمة- و

قال البغوي قال انس نزلت هذه الاية فينا معشر الأنصار كنا نصلى المغرب فلا نرجع الى رحالنا حتى نصلى العشاء مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- و قال عن انس ايضا قال نزلت فى أناس من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كانوا يصلون من صلوة المغرب الى صلوة العشاء- أخرجه ابن مردوية عن انس و أصله فى سنن ابى داؤد و هو قول ابى حاتم و محمد بن المنكدر و قالا هى صلوة الأوابين روى ابن نصر عن محمد بن المنكدر مرسلا من صلى ما بين المغرب و العشاء فانها صلوة الأوابين

و اخرج البزار بسند ضعيف

(١) هذا فى كتب الرجال هو عبد اللّه بن رواحة الخزرجي شاعر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و فى الأصل ابن ابى رواحة ١٢.

عن بلال قال كنا نجلس فى المجلس و ناس من اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم يصلون بعد المغرب الى العشاء فنزلت هذه الاية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ- و

قال البغوي عن ابى الدرداء و ابى ذر- و عبادة بن صامت هم الذين يصلون العشاء الاخرة و الفجر فى جماعة و روى مسلم و احمد عن عثمان رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من صلى العشاء فى جماعة فكانما قام نصف الليل و من صلى الصبح فى جماعة فكانما صلى الليل كله- و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو يعلمون ما فى النداء و الصف الاول ثم لم يجدوا الا ان يستهموا عليه لاستهموا عليه و لو يعلمون ما فى التهجير لاستبقوا اليه و لو يعلمون ما فى العتمة و الصبح لاتوهما و لو حبوا- رواه الشيخان فى الصحيحين و احمد و النسائي.

وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) قيل أريد به الصدقة المفروضة و قيل عام فى وجوه الخير.

١٧

فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ لا ملك مقرّب و لا نبى مرسل ما أُخْفِيَ لَهُمْ قرأ حمزة و يعقوب بياء ساكنة على انه مضارع أخفيت و يؤيده قراءة ابن مسعود نخفى بالنون و الباقون بفتحها على انه ماض مبنى للمفعول مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ من زائدة و قرّة أعين فى محل النصب على قراءة حمزة و فى محل الرفع على قراءة الجمهور اى ممّا تقربه أعينهم عن ابى هريرة رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللّه تعالى اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رات و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر اقرءوا ان شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ متفق عليه قال هذا ما لا تفسير له جَزاءً منصوب على المصدرية او على العلية يعنى يجزون جزاء و أخفى للجزاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) ذكر البغوي

و اخرج الواحدي و ابن عساكر من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه انه كان بين على بن ابى طالب رضى اللّه عنه و الوليد بن عقبة بن ابى معيط تنازع و كلام فى شى ء فقال الوليد لعلى عليه السلام اسكت فانّك صبى و انا و اللّه ابسط منك لسانا و أشجع منك حبانا و املا منك حشوا فى الكتيبة فقال على اسكت فانك فاسق فانزل اللّه تعالى.

١٨

أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً

و اخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار مثله

و اخرج الخطيب فى تاريخه و ابن عدى من طريق الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس مثله

و اخرج الخطيب و ابن عساكر من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس انها نزلت فى على بن ابى طالب و عقبة بن ابى معيط و ذلك بسباب كان بينهما و الاستفهام للانكار و الفاء للعطف على محذوف تقديره أ يستوي علىّ ولى اللّه المرتضى و وليد عدو اللّه أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كان كَمَنْ كانَ فاسِقاً يعنى خارجا عن اهل الايمان لا يكون ذلك لا يَسْتَوُونَ (١٨) فى الشوف و المثوبة أورد صيغة الجمع لان المراد جنس المؤمن و الكافر و الجملة تقرير لانكار الاستواء و لمّا كان الاستواء مجملا فصّله بقوله.

١٩

أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى فانها المأوى الحقيقي و الدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة يأوى إليها المؤمنون و يأبى عن دخولها الكافرون باختيارهم الشرك باللّه نُزُلًا و و هو ما يعد للضيف حال من جنات و هو فاعل للظرف بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) اى بسبب أعمالهم.

٢٠

وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا اى كفروا فَمَأْواهُمُ النَّارُ استبدلوها بجنات المأوى كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها عبارة عن خلودهم فيها وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) اهانة لهم و زيادة فى غيظهم.

٢١

وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ عطف على ماوهم النّار مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى يعنى عذاب الدنيا قال أبيّ بن كعب و الضحاك و الحسن و ابراهيم يعنى مصائب الدنيا و أسقامها و هو رواية الوالبي عن ابن عباس و قال عكرمة أراد بها الحدود و قال مقاتل الجوع سبع سنين بمكة حين أكلوا الجيف و العظام و الكلاب و قال ابن مسعود هو القتل بالسيف يوم بدر و هو قول قتادة و السدىّ دُونَ اى قبل الْعَذابِ الْأَكْبَرِ يعنى العذاب الاخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) الى الايمان يعنى من بقي منهم بعد القحط و بعد البدر.

٢٢

وَ مَنْ أَظْلَمُ لا أحد اظلم مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها و لم يتدبر فيها و ثم لاستبعاد الاعراض عن مثل هذه الآيات مع فرط وضوحها و إرشادها الى السعادة فى الدارين إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) فكيف بمن كان هو اظلم من كل ظالم.

٢٣

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ جواب قسم محذوف و هو مع ما عطف عليه معترضة بين قوله إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ و بين قوله إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يعنى كما اتيناك القرآن اتينا قبل ذلك موسى الكتب يعنى التورية فَلا تَكُنْ يا محمد فِي مِرْيَةٍ فى شك مِنْ لِقائِهِ اى الكتاب مصدر مضاف الى المفعول و الفاعل محذوف يعنى من ان لقيت الكتاب الى القران فانه غير مبتدع ممّا لم يكن قبل حتى ترتاب فيه- او من ان لقى الموسى الكتاب بالرضاء و القبول كذا قال السدىّ

و اخرج الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فى قوله فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ قال لقاء موسى ربه و قيل معناه لا تكن فى شك من لقائك موسى اى ليلة المعراج قاله ابن عباس و غيره- روى الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال رايت ليلة اسرى بي موسى رجلا أدما طوالا جعدا كانّه من رجال شنوأة و رايت عيسى رجلا مربوع الخلق الى الحمرة و البياض سبط الراس و رايت مالكا خازن النار و الدجال فى آيات أراهن اللّه إياه فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ- و عن ابن عباس قال سرنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فمررنا بواد فقال اىّ واد هذا فقالوا وادي الأزرق قال كانى انظر الى موسى فذكر من لونه و شعره واضعا إصبعيه فى اذنيه له جؤار «رفع الصوت و الاستغاثة- منه رح» الى اللّه بالتلبية مارّا بهذا الوادي- قال ثم سرنا حتى اتينا على ثنية فقال اىّ ثنية هذه فقالوا مرشا او لغت فقال كانى انظر الى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف خطام ناقته حلبته مارّا بهذا الوادي ملبيا- رواه مسلم و قد ذكر فى سورة بنى إسرائيل فى حديث المعراج ان النبي صلى اللّه عليه و سلم راى موسى فى السماء السادسة و مراجعته فى امر الصلاة- و عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لمّا اسرى بي الى السماء رايت موسى يصلى فى قبره وَ جَعَلْناهُ يعنى الكتاب الذي انزل على موسى و قال قتادة يعنى موسى كذا اخرج الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال جعل موسى هدى لبنى إسرائيل هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٤)

٢٤

وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ اى من بنى إسرائيل أَئِمَّةً قادة فى الخير يقتدى بهم يعنى الأنبياء الذين كانوا فيهم و قال قتادة اتباع الأنبياء يَهْدُونَ النّاس الى ما فيه من الاحكام بِأَمْرِنا إياهم او بتوفيقنا لهم لَمَّا صَبَرُوا قرأ «و رويس- ابو محمد» حمزة و الكسائي لما بكسر اللام و تخفيف الميم اى لصبرهم و الباقون بفتح اللام و تشديد الميم اى حين صبروا على دينهم و على البلاء من عدوهم بمصر- و فيه دليل على ان الصبر يورث امامة الناس وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) لامعانهم فيها بالنظر.

٢٥

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ يقضى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فيميز المحق من المبطل متصل بقوله إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ و فيه التفات من التكلم الى الغيبة فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) من امر الدين.

٢٦

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ الهمزة للانكار و الواو للعطف على محذوف و الفاعل ضمير راجع الى ربّك او ما دل عليه قوله كَمْ أَهْلَكْنا تقديره الم يعتبروا بمن سبقهم و لم يهد لهم ربك او كثرة إهلاكه مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ الماضية بسبب كفرهم يَمْشُونَ اهل مكة فى أسفارهم فِي مَساكِنِهِمْ اى مساكن المهلكين إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك لَآياتٍ دلالات على قبح ما فعلوا من الكفر و المعاصي و على قدرتنا على الانتقام أَ فَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) الهمزة للانكار و الفاء للعطف على محذوف تقديره أ يعرضون عن ايتنا فلا يسمعون سماع تدبر و اتعاظ.

٢٧

أَ وَ لَمْ يَرَوْا الهمزة للانكار و الواو للعطف على محذوف تقديره الم يتفكروا و لم يروا اى لم يعلموا بل قد علموا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ التي جرز نباتها اى قطع و ازيل فَنُخْرِجُ بِهِ اى بالماء زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ اى من الزرع أَنْعامُهُمْ كالتين و الورق وَ أَنْفُسُهُمْ كالحب و الثمر أَ فَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) الهمزة للانكار و الفاء للعطف على محذوف تقديره الا يلقون انظارهم فلا يبصرون ما ذكرنا فيستدلون به على كمال قدرتنا و فضلنا و على انا قادرون على بعثهم بعد الموت- اخرج ابن جرير و ذكره البغوي عن قتادة قال قال الصحابة للمشركين ان لنا يوما او شك ان نستريح فيه و نتنعم و يحكم اللّه بيننا و بينكم-

قلت لعلهم يعنون يوم القيامة الذي يحكم اللّه فيه بين العباد و قال الكلبي يعنون فتح مكة و قال السدىّ يوم بدر لان اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم كانوا يقولون ان اللّه ناصرنا و مظهرنا عليكم فقال المشركون استهزاء متى هذا الفتح فنزلت.

٢٨

وَ يَقُولُونَ يعنى كفار مكة عطف على مضمون أَ فَلا يُبْصِرُونَ فان نفى أبصار آيات القدرة انكار للقدرة يعنى ا ينكرون القدرة و يقولون استهزاء مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) فيما تقولون فبينوا لنا وقته.

٢٩

قُلْ يا محمد جملة مستأنفة فى جواب ماذا أقول لهم حين قالوا ذلك يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ المتبادر منه ان المراد بيوم الفتح يوم القيمة لان ايمان ذلك اليوم لا ينفع البتة و من حمل الفتح على فتح مكة او يوم بدر قال معناه لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا و قتلوا او ماتوا على الكفر ايمانهم حين راووا العذاب بعد موتهم وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) اى يمهلون و وجه تطبيق هذا الجواب بسوالهم عن يوم الفتح ان سوالهم ذلك كان استعجالا منهم على وجه التكذيب و الاستهزاء فاجيبوا على حسب ما عرف من عرضهم فى سوالهم- فكانّ التقدير لا تستعجلوا به و لا تستهزءوا فكانّى بكم و أنتم فى ذلك اليوم و أمنتم به فلم ينفعكم ايمانكم و استنظرتم فى درك العذاب فلم تنظروا.

٣٠

فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ الفاء للسببية يعنى إذا عرفت حالهم و ما لهم فاعرض عنهم و لا تبال بتكذيبهم قال ابن عباس نسختها اية السيف وَ انْتَظِرْ موعدى لك بالفتح إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠) بك حوادث الزمان و قيل انتظر عذابنا فيهم فانهم ينتظرون ذلك.

عن ابى هريرة قال كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يقرأ فى الفجر يوم الجمعة الم تَنْزِيلُ و هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ- و عن جابر قال كان النبي صلى اللّه عليه و سلم لا ينام حتى يقرأ الم تَنْزِيلُ و تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ رواه احمد و الترمذي و الدارمي و قال الترمذي هذا حديث صحيح و عن خالد بن معدان قال بلغني فى الم تنزيل و مثله فى تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ان رجلا كان يقراهما ما يقرأ شيئا غيرهما و كان كثير الخطايا فنشرت جناحها عليه و قالت رب اغفر له فانه كان يكثر قراءتى فشفعها الرب تعالى فيه و قال اكتبوا له بكل خطيئة حسنة و ارفعوا له درجة- و قال ايضا انها تجادل عن صاحبها فى القبر تقول ان كنت من كتابك فشفعنى فيه و ان لم أكن من كتابك فامحنى عنه و انها تكون كالطير تجعل جناحها عليه فتشفع له فتمنعه من عذاب القبر و قال فضلتا على كل سورة فى القران بستين حسنة- رواه الدارمي و عن ابن عباس قوله صلى اللّه عليه و سلم من قرا الم تنزيل و تبارك الملك اعطى من الاجر كانما احيى ليلة القدر- رواه الثعلبي و ابن مردوية و روى ابن مردوية عن ابن عمر نحوه-

قال السيوطي هذا حديث موضوع و اللّه اعلم

﴿ ٠