سُورَةُ الْأَحْزَابِ مَدَنِيَّةٌ

وَهِيَ ثَلاَثٌ وَسَبْعُونَ آيَةً

مدنيّة و هى ثلاث و سبعون اية قال أبيّ بن كعب لذرّكم تعدون سورة الأحزاب قال ثلاثا و سبعين اية قال فو الذي يحلف به أبيّ ان كانت لتعدل سورة البقرة او أطول و لقد قرأنا منها اية الرجم الشّيخ و الشّيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من اللّه و اللّه عزيز حكيم- ربّ يسّر و تمّم بالخير

 بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

 اخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال ان اهل مكة منهم الوليد بن المغيرة و شيبة ابن ربيعة دعووا النبي صلى اللّه عليه و سلم الى ان يرجع عن قوله على ان يعطوه شطرا من أموالهم و خوّفه المنافقون و اليهود بالمدينة ان لم يرجع قتلوه فانزل اللّه تعالى.

_________________________________

١

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللّه الاية ناداه بالنبي و لم يقل يا محمد و امره بالتقوى تعظيما و تفخيما لشأن التقوى- و

قال البغوي نزلت الاية فى ابى سفيان بن الحرب و عكرمة ابن ابى جهل و ابى الأعور عمرو بن سفيان السلمى و ذلك انهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد اللّه بن أبيّ رأس المنافقين بعد قتال أحد و قد أعطاهم النبي صلى اللّه عليه و سلم الامان على ان يكلموه- فقام معهم عبد اللّه بن ابى سعد و طعمة بن أبيرق فقالوا للنبى صلى اللّه عليه و سلم (و عنده عمر بن الخطاب) ارفض ذكر الهتنا اللات و العزى و مناة و قل ان لها شفاعة لمن عبدها و ندعك و ربك فشق على النبي صلى اللّه عليه و سلم قولهم فقال عمر يا رسول اللّه ايذن لى فى قتلهم فقال انى قد اعطيتهم الامان فقال اخرجوا فى لعنة اللّه و غضبه فامر النبي صلى اللّه عليه و سلم ان يخرجوهم من المدينة فانزل اللّه تعالى هذه الاية- قيل الخطاب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و المراد به الامة و قال الضحاك معناه اتق و لا تنقض العهد الذي بينك و بينهم و قيل الخطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم للامر بالثبات عليه ليكون مانعا عمّا نهى عنه بقوله وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ من اهل مكة يعنى أبا سفيان و عكرمة و أبا الأعور وَ الْمُنافِقِينَ من اهل المدينة عبد اللّه ابن ابى و عبد اللّه بن سعد و طعمة بن أبيرق إِنَّ اللّه كانَ عَلِيماً بخلقه و مصالحهم و مفاسدهم حَكِيماً (١) لا يحكم الا على وفق الحكمة.

٢

وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من التوحيد و الإخلاص للّه هذه الجملة بمنزلة التأكيد للتقوى و عدم إطاعة الكفار إِنَّ اللّه كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) قرا ابو عمرو بالياء فى يعملون خبيرا ... يعملون بصيرا للغيبة و الضمير عائد للكافرين و المنافقين يعنى ان اللّه خبير بمكائدهم يجازيهم عليها

و قرا الباقون بالتاء خطابا للنبى صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه فان الأمر بالتقوى و ان كان بصيغة الواحد لكن المراد هو و أمته و على هذا الجملة تأكيد لامتثال الأمر طمعا فى حسن الجزاء و خوفا عن قبحه.

٣

وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّه اى ثق به وَ كَفى بِاللّه وَكِيلًا (٣) موكولا اليه الأمور كلها تذييل و قال الزجاج عطف على توكل لفظه خبر و معناه امر اى اكتف باللّه وكيلا تميز من النسبة اى اكتف باللّه وكيلا يعنى اكتف بوكالته و فى صيغة الأمر اشعار على التعليل للامر بالتوكل و الاكتفاء يعنى من كان اللّه مع كمال علمه و قدرته و رحمته موكولا اليه أموره لا يحتاج الى توكيل غيره فتوكيل أموره الى غيره سفه و اللّه اعلم.

٤

ما جَعَلَ اللّه لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ من زائدة و هو فى محل النصب على انه مفعول أول لجعل و لرجل مفعوله الثاني فِي جَوْفِهِ ظرف لغو او صفة لقلبين اعلم ان القلب معدن للروح الحيواني و منبع للقوى بأسرها و ذلك يمنع التعدد إذ لو كان لرجل قلبان فاما ان يفعل بكل واحد منهما شيئا واحدا من افعال القلوب فالثانى فضلة لا حاجة اليه و اما ان يفعل بكل واحد غير ما يفعل به الاخر و حينئذ يفضى الى التناقض ذكر البغوي و كذا اخرج ابن ابى حاتم عن السدىّ و ابن نجيح عن مجاهد انها نزلت فى ابى معمر جميل بن معمر الفهري كان رجلا لبيبا حافظا لما يسمع فقالت قريش ما حفظ ابو معمر هذه الا و له قلبان و كان يقول ان لى قلبين اعقل بكل واحد منهما أفضل مما عقل محمد- فلما انهزم قريش يوم بدر و انهزم فيهم ابو معمر لقيه ابو سفيان واحدي نعليه فى يده و الاخرى برجله فقال له يا أبا معمر ما حال الناس قال انهزموا قال مالك احدى نعليك بيدك و الاخرى برجلك قال ابو معمر ما شعرت الا انهما فى رجلى فعلموا يومئذ انه لو كان له قلبان لما نسى نعله فى يده

و اخرج ابن ابى حاتم من طريق خصيف عن سعيد بن جبير و مجاهد و عكرمة قالوا كان رجل يدعى ذا القلبين فنزلت فيه

و اخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس مثله و من طريق قتادة عن الحسن مثله و زاد و كان يقول نفسى يأمرنى و نفسى ينهانى-

و اخرج الترمذي و حسنه عن ابن عباس قال قام النبي صلى اللّه عليه و سلم فخطر خطرة فقال المنافقون الذين معه الا ترى ان له قلبين قلبا معكم و قلبا مع أصحابه فانزل اللّه تعالى هذه الاية- و قال الزهري و مقاتل هذا مثل ضربه اللّه عز و جل للمظاهر من امرأته و للمتبنّى ولد غيره يقول فكما لا يكون لرجل قلبان لامتناع اجتماعهما لا تكون امراة المظاهر امّا له لامتناع اجتماع النسبتين و لا يكون ولد غيره ولدا له لامتناع اجتماع النسبتين- وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي قرأ قالون «و يعقوب- ابو محمد» و قنبل اللّاء هنا و فى المجادلة و الطلاق بالهمزة «الحقيقة- ابو محمد» من غير ياء «و ابو جعفر- ابو محمد» و ورش بياء مختلسة «اى بهمزة سلمة بغير ياء- ابو محمد» الكسرة خلفا من الهمزة و إذا وقف صيرها ياء ساكنة و البزي و ابو عمرو «بخلاف عنه ما وصلا و الوجه الثاني لها ورش ابو محمد» بياء ساكنة بدلا من الهمزة فى الحالين و الباقون بالهمزة بعدها ياء فى الحالين و حمزة إذا وقف جعل الهمزة بين بين على أصله و من همز منهم و من لم يهمز أشبع التمكين للالف فى الحالين الا ورشا «و من معه- ابو محمد» فان المد و القصر جائز ان عنه تُظْهِرُونَ قرأ عاصم بضم التاء و تخفيف الظاء و الف بعدها و كسر الهاء من المفاعلة و حمزة و «خلف- ابو محمد» الكسائي بفتح التاء و الهاء و بالألف مخففا من التفاعل بحذف احدى التاءين

و قرا ابن عامر بفتح التاء و الهاء و تشديد الظاء و بالألف ايضا من التفاعل لكن بإدغام التاء بعد القلب بالظاء و الإسكان فى الظاء و الباقون بفتح التاء و الهاء «المشددة- ابو محمد» و تشديد الظاء بغير الف من التفعل بإدغام التاء فى الظاء على ما بيّنّا مِنْهُنَّ عدى التظاهر بمن لتضمنه معنى التجنب لانه كان طلاقا فى الجاهلية فعدل فى الشرع الى الحرمة المنتهية بالكفارة أُمَّهاتِكُمْ صورة المظاهر ان يقول الرجل لزوجته أنت علىّ كظهر أمي و قد ذكرنا مسائل الظهار فى سورة المجادلة-

قال البيضاوي ذكر الظهر فى الظهار للكناية عن البطن الذي هو عموده فان ذكره تقارب ذكر الفرج او للتغليظ فى التحريم فانهم كانوا يحرمون إتيان المرأة و ظهرها الى السماء وَ ما جَعَلَ اللّه أَدْعِياءَكُمْ اى الذين تبنيتهم جمع دعى على الشذوذ و كان قياسه دعوى كجرحى جمع جريح لانه فعيل بمعنى مفعول كانّه شبه بفعيل بمعنى فاعل فجمع جمعه كتقىّ و أتقياء و سخى و أسخياء و شقى و أشقياء أَبْناءَكُمْ فلا يثبت بالتبني شى ء من احكام النبوة من الإرث و حرمة النكاح و غير ذلك- و فى الاية ردّ لما كانت العرب تقول من ان اللبيب الأريب له قلبان و الزوجة المظاهر منها تبين من زوجها و تحرم عليه كالام و دعى الرجل ابنه يرثه و يحرّم بالتبني ما يحرم بالنسب و قد كان النبي صلى اللّه عليه و سلم أعتق زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي و تبنّاه قبل الوحى و أخا بينه و بين حمزة بن عبد المطلب- فلما تزوّج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم زينب بنت جحش بعد ما طلقه زيد و كانت امرأته و قال المنافقون تزوج محمد امراة ابنه و هو ينهى عن ذلك انزل اللّه تعالى هذه الاية ذلِكُمْ اشارة الى كل ما ذكر قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ يعنى لا حقيقة لها فى الأعيان كقول الهاذىّ وَ اللّه يَقُولُ الْحَقَّ يعنى ماله حقيقة فى الأعيان تطابق قوله وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) اى يرشد الى سبيل الحق- روى الدارمي عن عائشة قالت جاءت سهلة بنت سهل بن عمرو (و كانت تحت ابى حذيفة بن عتبة ابن ربيعة) عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالت ان سالما مولى ابى حذيفة يدخل علينا و انا فضل «١» و انما نراه ولدا و كان ابو حذيفة تبنّاه كما تبنى النبي صلى اللّه عليه و سلم زيدا فانزل اللّه تعالى.

(١) فضل اى مبتذلة فى ثياب مهنتها يقال تفضلت المرأة إذا لبست ثياب مهنتها او كانت فى ثوب واحد فهى فضل و الرجل فضل ايضا ١٢ نهايه منه رحمه اللّه-.

٥

ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ يعنى انسبوهم الى ابائهم الذين خلقوا من نطفهم افراد للمقصود من أقواله الحقة هُوَ الدعاء لابائهم أَقْسَطُ عِنْدَ اللّه تعليل لقوله ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ و اقسط اسم تفضيل أريد به الزيادة مطلقا من القسط بمعنى العدل و معناه البالغ فى الصدق

و اخرج البخاري عن ابن عمر قال ما كنا نقول زيد بن الحارثة الا زيد بن محمد صلى اللّه عليه و سلم حتى نزل القران ادعوهم لابائهم هو اقسط عند اللّه فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ حتى تنسبوا اليه فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ اى فهم إخوانكم فى الدين و أولياءكم فقولوا هذا أخي فى الدين و مولائى وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ اى اثم فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ اى فيما نسبتم المتبنّى الى المتبنّى مخطئين قبل النهى او بعده على النسيان او سبق اللسان وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ اى لكن الجناح فيما تعمّدت قلوبكم او لكن ما تعمّدت قلوبكم ففيه الجناح عن سعيد بن ابى وقاص و ابى بكرة قالا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من ادعى الى غير أبيه و هو يعلم فالجنة عليه حرام- رواه الشيخان فى الصحيحين و احمد و ابو داؤد و ابن ماجة و عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من ادعى الى غير أبيه او أنتما الى غير مواليه فعليه لعنة اللّه المتتابعة الى يوم القيامة- رواه ابو داؤد و قال السيوطي صحيح وَ كانَ اللّه غَفُوراً رَحِيماً (٥) يعفوا عن المخطئ

قال البيضاوي اعلم ان التبنّي لا عبرة له عندنا (يعنى عند الشافعي رحمه اللّه) و عند ابى حنيفة رحمه اللّه يوجب عتق مملوكه و يثبت النسب لمجهوله الذي يمكن الحاقه به- و هذا سهو منه فان عند ابى حنيفة رحمه اللّه لا يعتق المملوك بقوله تبنيتك و جعلتك ابني و كذا لا يثبت النسب إذا قال لمجهول النسب تبنيتك و جعلتك ابني بل عنده ان السيد إذا قال لعبده هذا ابني يعتق عليه سواء كان يولد مثله لمثله اولا تصحيحا لكلامه و حملا له على المجاز كانّه قال هذا حرّ إطلاقا للسبب على المسبّب إذ النبوة سبب للحرية لقوله صلى اللّه عليه و سلم من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه رواه احمد و اصحاب السنن و قد خالف أبا حنيفة صاحباه فيما إذا قال لعبده هو اكبر سنا منه هذا ابني قانهما قالا لا يعتق بناء على خلافية فى الأصول ان المجاز عنده خلف عن الحقيقة فى التكلم دون الحكم فاذا صح التكلم بالحقيقة صح التجوز عنده و عتق عليه و عندهما خلف له فى الحكم فاذا لم يمكن الحكم بالحقيقة لم يصح التجوز خلفا و لم يعتق عليه و من قال لمجهول النسب هذا ابني و هو بحيث يمكن ثبوت النسب منه يثبت نسبه لكونه ماخوذا بإقراره و التزام النسب خالص حقه و لاجل ذلك من قال لمجهول النسب هذا أخي لا يثبت نسبه من أبيه غير انه إذا مات المقر بالنسب على الغير مصرّا على إقراره و لم يكن له وارث اخر يرث المقر له منه لعدم المزاحم و هو مقدم على بيت المال عندنا لا على أحد من الورثة و ان كانوا من ذوى الأرحام و لا على الموصى له بجميع المال و اللّه اعلم.

قال البغوي قيل كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يدعو الناس الى الجهاد فيقول قوم نذهب فنستأذن من ابائنا و أمهاتنا فنزلت.

٦

النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعنى من بعضهم لبعض فى نفوذ الحكم عليهم و وجوب طاعته عليهم فلا يجوز إطاعة الآباء و الأمهات فى مخالفة امر النبي صلى اللّه عليه و سلم و هو اولى بهم فى الحمل على الجهاد و بذل النفس دونه- قال ابن عباس و عطاء يعنى إذا دعاهم النبي الى شى ء ودعتهم أنفسهم الى شى ء كانت طاعتهم للنبى اولى بهم من طاعتهم لانفسهم و ذلك لانه عالم بمصالحهم و مفاسدهم بتعليم اللّه تعالى و لا يأمرهم و لا يرضى منهم الا ما فيه صلاحهم و نجاحهم قال اللّه تعالى حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ بخلاف أنفسهم فانّها امّارة بالسوء الا من رحم اللّه و هى ظلوم جهول فيجب عليهم ان يكون اللّه أحب إليهم من أنفسهم فامره انفذ عليهم من أمرها و شفقته أوفر من شفقتها عليها- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من والده و ولده و الناس أجمعين متفق عليه من حديث انس و عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ما من مؤمن الا و انا اولى به فى الدنيا و الاخرة اقرءوا ان شئتم النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فايما مؤمن مات و ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا و من ترك دينا او ضياعا فليأتنى فانا مولاه- رواه البخاري وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ فى تعظيم حقهن و تحريم نكاحهن على التأبيد لا فى النظر إليهن و الخلوة بهن فانه حرام فى حقهن كما فى حق الاجنبيات قال اللّه تعالى وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ و لا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين و لا لاخوتهن و أخواتهن أخوال المؤمنين و خالاتهم- قال الشافعي تزوج الزبير اسماء بنت ابى بكر و هى اخت أم المؤمنين عائشه و لم يقل هى خالة المؤمنين-

قلت و زوج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بناته بعلى و عثمان

قال البغوي روى الشعبي عن مسروق ان امرأة قالت لعائشة يا امه فقالت لست لك بام انما انا أم رجالكم- و كذا اخرج البيهقي فى سننه فبان بهذا انه تعالى أراد تحريم النكاح و فى قراءة أبيّ بن كعب وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ و هو اب لّهم يعنى فى الدين فان كل نبى اب لامته من حيث انه اصل فيما به الحيوة الابدية و لذلك صار المؤمنون اخوة وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّه اى فى حكم اللّه او فى اللوح المحفوظ او فى القران و هو هذه الاية او اية المواريث يعنى فى التوارث و لذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فايما مؤمن مات و ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ صلة لاولى و من تفصيلية و الاية ناسخة لما كان فى ابتداء الإسلام التوارث بالهجرة و الموالاة فى الدين

قال البغوي ... قال قتادة كان المسلمون يتوارثون بالهجرة و قال الكلبي أخي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بين الناس و كان يواخى بين رجلين فاذا مات أحدهما ورثه الاخر عصبة حتى نزلت وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ- و هذه الاية بعمومه حجة لنا على الشافعي فى توريث اولى الأرحام ممن ليس بذي فرض و لا عصبة عنه عدم ذوى الفروض و العصبات و عند عدم أحد من اولى الأرحام يوضع المال فى بيت المال إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ اى اصدقائكم من المؤمنين و المهاجرين مَعْرُوفاً اى وصية فالموصى له من الأصدقاء اولى من الورثة و هذا عام خص منه البعض بالسنة و الإجماع فهو اولى من الورثة فى ثلث المال دون كله و هذا استثناء من أعم ما يقدر الاولويّة فيه من النفع او منقطع و ذلك ان اللّه لمّا نسخ التوارث بالحلف و الهجرة أباح ان يوصى بمن يتولاه بما أحب من الثلث- و قيل من فى قوله تعالى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ بيانية و المعنى وَ أُولُوا الْأَرْحامِ من المؤمنين بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ يعنى لا توارث بين المسلم و الكافر و لا بين المهاجر و غير المهاجر إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ اى اقربائكم وصية و ان كانوا من غير اهل الايمان و الهجرة

قال البغوي هذا قول قتادة و عكرمة و عطاء-

قلت و على هذا يخلوا فعل من اللام و الاضافة و من التفضيلية ثم كون اولى الأرحام من المؤمنين و المهاجرين بعضهم اولى ببعض لا يقتضى نفى التوارث بين المسلم و الكافر لا بالمنطوق و هو ظاهر و لا بالمفهوم لان كون المؤمن اولى لا يدل على نفى ميراث كافر من مؤمن عند عدم وارث مؤمن و اللّه اعلم كانَ ذلِكَ اى ما ذكر فِي الْكِتابِ اى فى اللوح المحفوظ او القران و قيل فى التورية مَسْطُوراً (٦) ثابتا مرقوما.

٧

وَ اذكر إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ أجمعين مِيثاقَهُمْ عهودهم حين اخرجوا من صلب آدم قال أخذ اللّه ميثاقهم على ان يعبدوا اللّه و يدعوا الناس الى عبادته و ينصر بعضهم بعضا و ينصحوا لقومهم وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ خصهم بالذكر بعد التعميم لفضلهم لكونهم اصحاب الشرائع و الكتب و اولى العزم من الرسل و قدم النبي صلى اللّه عليه و سلم عليهم فى الذكر تعظيما له و اشعارا بما اخبر عنه صلى اللّه عليه و سلم حيث قال كنت أول الناس فى الخلق و آخرهم فى البعث رواه سعد عن قتادة مرسلا و رواه البغوي متصلا عن قتادة عن الحسن عن ابى هريرة و قال قال قتادة و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ الاية فبدأ به صلى اللّه عليه و سلم قبلهم- و روى ابن سعد و ابو نعيم فى الحلية عن ميسرة الفجر بن سعد عن ابى الجدعاء و الطبراني فى الكبير عن ابن عباس بلفظ كنت نبيّا و آدم بين الروح و الجسد وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً عهدا على الوفاء بما عهدوا غَلِيظاً (٧) شديدا عظيم الشان او مؤكدا بالايمان و التكرير لبيان هذا الوصف.

٨

لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ اى فعلنا ذلك ليسئل اللّه يوم القيامة الأنبياء الذين صدقوا عهودهم عمّا قالوه لقومهم او عن تصديقهم إياهم تبكيتا لهم او المصدقين لهم عن تصديقهم فان مصدق الصادق صادق او المؤمنين الذين صدقوا عهودهم حتى اشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) عطف على أخذنا من جهة ان بعثة الرسل و أخذ الميثاق منهم لاثابة المؤمنين او على ما دل عليه قوله لِيَسْئَلَ كانّه قال فاثاب للمؤمنين وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً ....

٩

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ ظرف لنعمة جُنُودٌ اى كفار قريش و غطفان و يهود قريظة كانوا زهاء اثنى عشر الف حتى حاصروا المسلمين مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و حفر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خندقا حولهم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً يعنى الصبا روى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال نصرت بالصبا و أهلكت عاد بالدبور أرسل اللّه عليهم ريحا باردة فى ليلة شاتية فقطعت الأوتاد و اطناب الفساطيط و اطفأت النيران و اكفأت القدور و جالت الخيل بعضها فى بعض وَ جُنُوداً من الملائكة لَمْ تَرَوْها حتى كثر تكبير الملائكة فى جوانب عسكرهم و القى الرعب فى قلوبهم حتى كان سيد كل قوم يقول يا بنى فلان هلموا الىّ فاذا اجتمعوا عنده قال النجا النجا أبيتم فانهزموا من غير قتال و لم تقاتل الملائكة يومئذ وَ كانَ اللّه بِما تَعْمَلُونَ ايها المؤمنون من حفر الخندق و التهيؤ للقتال هذا على قراءة الجمهور و اما على قراءة البصريين فالمعنى و كان اللّه بما يعمل المشركون من التحزب و المحاربة بَصِيراً (٩) رائيا و كان ذلك الوقعة فى شوال سنة اربع من الهجرة كذا فى مواهب اللدنية من قول موسى بن عقبة بعد ثمانية أشهر من اجلاء بنى النضير و كان اجلاؤهم و تفرقهم فى البلاد و لحوق سلام بن ابى الحقيق و كنانة بن الربيع و حيى بن اخطب و غيرهم بخيبر فى ربيع الاول سنة اربع و المشهور انه فى شوال سنة خمس من الهجرة كذا قال محمد بن إسحاق.

قال البغوي قال محمد بن إسحاق حدثنى يزيد بن رومان مولى ال الزبير عن عروة بن الزبير و عن عبد اللّه بن كعب بن مالك و عن الزهري و عاصم بن عمرو بن قتادة و عن عبد اللّه بن ابى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم و عن محمد بن كعب القرظي و غيرهم من علمائنا دخل حديث بعضهم بعضا ان نفرا من اليهود منهم سلام بن ابى الحقيق و حيى بن اخطب و كنانة بن الربيع بن ابى الحقيق و هودة بن قيس و ابو عامر الوائىّ فى نفر من النضير و نفر من بنى وائل (و هم الذين حزبوا الأحزاب على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم) خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم الى حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قالوا انا سنكون معكم عليه حتى نستأصله فقال لهم قريش يا معشر اليهود انكم اهل الكتاب الاول و العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن و محمد فديننا خير أم دينه قالوا بل دينكم خير من دينه و أنتم اولى بالحق منه (قال فهم الذين انزل اللّه فيهم أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ الى قوله وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) فلمّا قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا و نشطو الى ما دعوهم اليه من حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاجمعوا لذلك- ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان من قيس بن غيلان فدعوهم الى ذلك و اخبروهم انهم سيكونون معهم عليه و ان قريشا قد بايعوهم فاجابوهم.

قلت روى انه كان رجال بنى نضير و بنى وائل نحوا من عشرين رجلا فقال لهم ابو سفيان بن حرب مرحبا بكم أحب الرجال عندنا من عاهدنا على عداوة محمد فقالوا لابى سفيان اختر لنا خمسين رجلا من بطون قريش و تكون منهم حتى ندخل نحن و أنتم فى أستار الكعبة و نلزق صدورنا بجدران الكعبة ثم نحلف على ان نتفق على عداوة محمد و تكون كلمتنا واحدة و نتعاهد على ان نحارب محمدا ما بقي منا رجل واحد ففعلوا ذلك- و لما قدم اليهود على غطفان بعد المعاهدة مع قريش حرضوهم على القتال مع النبي صلى اللّه عليه و سلم و وعدوهم على ذلك بتمر سنة ما كان على نخيل خيبر و قيل بنصف ذلك فأجاب عيينة بن حصين الفزاري رئيس غطفان قولهم بذلك الشرط اى بشرط إعطاء تمر سنة و كتب عيينة الى حلفائه من بنى اسد فجاءوا عنده-

قال البغوي فخرجت قريش قائدهم ابو سفيان بن حرب و غطفان و قائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر فى بنى فزارة و الحارث بن عوف بن ابى حارثة المزي فى بنى مرة و مسعر بن رحيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع.

قلت روى ان أبا سفيان جمع العسكر اربعة آلاف رجل و اعطى رأيته عثمان بن ابى طلحة و كان فى عسكرهم ثلاث مائة فرس و الف بعير حين خرجوا من مكة و نزلوا مر الظهران و اجتمع هناك اسلم و أشجع و بنو مرّة و بنو كنانة و فزارة و غطفان حتى صاروا عشرة آلاف و ساروا بأجمعهم الى المدينة و لذلك سمى غزوة الأحزاب.

قال البغوي فلمّا سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و بما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة و كان الذي أشار على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سلمان الفارسي و كان أول مشهد شهده سلمان مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو يومئذ حر فقال يا رسول اللّه انا كنا بفارس إذا حصرنا خندقنا علينا فعمل فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى أحكموه قلت روى انه صلى اللّه عليه و سلم لما سمع الخبر قال حسبنا اللّه و نعم الوكيل و جمع أسراء المهاجرين و الأنصار و استشارهم فى ذلك و أشار سلمان بضرب الخندق فاستحسنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و استخلف على المدينة عبد اللّه بن أم مكتوم و خرج غازيا و اعطى لواء المهاجرين زيد بن حارثة و لواء الأنصار سعد بن عبادة و خرج معه ثلاثة آلاف من المهاجرين و الأنصار-

قلت روى ان معهم ستة و ثلاثون فرسا و خرج معه صبيان لم يبلغوا الحلم فردهم الى المدينة من كان منهم لم يبلغ خمسة عشر سنة و أجاز منهم للقتال من كان منهم ابن خمسة عشر سنة منهم عبد اللّه بن عمر و زيد بن ثابت و ابو سعيد الخدري و براء بن عازب فطلب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم موضعا لاجل الخندق فى بعض أطراف المدينة فاختار موضعا بقرب جبل سلع جعل جبل سلع على ظهر العسكر و خط خطّا للخندق بينه و بين الكفار-

قال البغوي أخبرنا عن عبد اللّه بن عمرو بن عوف عن أبيه قال خط رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عامّ الأحزاب ثم قطع لكل عشر أربعين ذراعا- قال احتج المهاجرون و الأنصار فى سلمان الفارسي و كان رجلا قويا فقال المهاجرون سلمان منا و قال الأنصار سلمان منا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سلمان منا اهل البيت.

قال عمر بن عوف كنت انا و سلمان و حذيفة و النعمان بن مقرن المزني و ستة من الأنصار فى أربعين ذراعا فحفرنا حتى إذا كنا بجنب ذى باب اخرج اللّه من بطن الخندق صخرة مردة كسرت حديدنا و شقت علينا فقلت يا سلمان ارق الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أخبره خبر هذه الصخرة فان راى ان نعدل عنها فان المعدل قريب و اما ان يأمرنا بامره فانا لا نحب ان نجاوز خطه فرقى سلمان الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو ضارب عليه قبة تركية- قال فخرجت صخرة بيضاء من مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا و شقت علينا حتى ما يجيبك فيها قليل و لا كثير فمرنا فيها بامرك فانا لا نحب ان نجاوز خطك فهبط رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مع سلمان الخندق و التسعة التي فى الخندق فاخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المعول من سلمان فضربها به ضربة صدعها و برق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكانّ مصباحا فى بيت جوف مظلم فكبّر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تكبير فتح و كبّر المسلمون ثم ضربها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الثانية فكسرها و برق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكانّ مصباحا فى جوف بيت مظلم فكبّر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تكبير فتح و كبر المسلمون ثم ضربها- فاخذ بيد سلمان و رقي فقال سلمان بابى أنت يا رسول اللّه لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط فالتفت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى القوم فقال رأيتم ما يقول سلمان قالوا نعم قال ضربت ضربتى الاولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لى قصور الحيرة و مدائن كسرى كانها أنياب الكلاب و أخبرني جبرئيل عليه السلام ان أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربة الثانية فبرق الذي رايتم أضاءت لى منها قصور الحمرة من الروم كانها أنياب الكلاب فاخبرنى جبرئيل ان أمتي ظاهرة عليها فابشروا فاستبشر المسلمون و قالوا الحمد للّه الذي موعده صدق وعدنا النصر بعد الحصر فقال المنافقون الا تعجبون من محمد يمنّيكم و يعدكم الباطل و يخبركم انه يبصر من يثرب قصور الحيرة و مدائن كسرى و انها تفتح لكم و أنتم انما تحفرون الخندق من الغرق لا تستطيعون ان تبرزوا قال فنزل القران وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللّه وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً و انزل فى هذه القصة قل اللّهمّ مالك الملك الاية.

روى البخاري فى الصحيح عن انس قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى الخندق فاذا المهاجرون و الأنصار يحفرون فى غداة باردة و لم يكن لهم عبيد يعملون ذلك فلمّا راى ما بهم من النصب و الجوع قال

ان العيش عيش الاخرة فاغفر الأنصار و المهاجرة

فقالوا مجيبين له

نحن الذين بايعوا محمّدا هلى الجهاد ما بقينا ابدا

و روى ايضا فى الصحيح عن البراء بن عازب رضى اللّه عنه قال لما كان يوم الأحزاب و خندق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رايته ينقل تراب الخندق حتى و ارى على الغبار جلد بطنه و كان كثير الشعر فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة و هو ينقل من التراب يقول

اللّهم لو لا أنت ما اهتدينا و لا تصدقنا و لا صلينا

فانزل سكينة علينا و ثبت الاقدام ان لاقينا

ان الاولى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا

ثم يمدّ صوته بآخرها و فى رواية و اللّه لو لا اللّه ما اهتدينا الى آخره قلت و روى ان سلمان كان رجلا قويا يعمل فى الخندق عمل عشرة من الرجال و يروى انه كان يحفر الخندق كل يوم خمسة اذرع فى عمق خمسة اذرع فاصابه عين من قيس بن ابى صعصعة فصرع فامر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قيسا ان يتوضأ لسلمان و يجعل وضوءه فى اناء و يضل به سلمان و يلقى الإناء خلفه منكوسا ففعلوا ذلك فبرئ سلمان.

و روى احمد و البخاري فى الصحيح عن جابر بن عبد اللّه قال كنا يوم الخندق مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فعرضت لنا كدبة «بضم الكاف القطعة الصلبة الصماء- منه رح» شديدة فجاءوا النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالوا هذه كدية من الجبل عرضت فقال انا نازل ثم قام و بطنه معصوب بحجر و لبثنا ثلاثة ايام لا نذوق ذواقا فاخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المعول فعادت كثيبا اهيل او اهيم فقلت يا رسول اللّه ايذن لى البيت فقلت لامراتى انى رايت من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خمصا شديد اما فى ذلك صبر فعندك شى ء فاخرجت لى جرابا فيه صاع من شعير و لنا بهيمة داجن «١» فذبحتها و طحنت ففرغت الى فراغى و قطعتها فى برمتها «البرمة القدر- منه رح» و العجين قد انكسر «٢» و البرمة بين الأثافي «الحجارة التي توضع عليها القدر- منه رح» فى قدر كادت ان تنضج ثم ولّيت الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالت لا تفضحنى برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و بمن معه فجئته فساررته فقلت طعيم لى يا رسول اللّه فقم أنت و رجل او رجلان قال كم هو فذكرت له قال كثير طيب قل لها لا تنزع البرمة و الخبز من التنور حتى اتيكم و استقر صحافا ثم صاح رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا اهل الخندق ان جابرا صنع لكم سورا «٣» فحى «٤» هلابكم- فقلت ويحك «٥» جاء النبي صلى اللّه عليه و سلم بالمهاجرين و الأنصار و من معهم فقالت بك «٦» و بك هل سألك فقلت نعم فقالت اللّه و رسوله اعلم فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال ادخلوا و لا تضاغطوا «اى لا تزوحموا- منه رح» فاخرجت له عجينا فبسق فيه و بارك ثم عمد الى برمتنا فبسق فيها و بارك ثم قال يا جابر ادع خابزة فلتخبز معك و اقدحى «اى اغرقى- منه رح» من برمتك و لا تنزلوها- و جعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يكسر الخبز و يجعل عليه اللحم يخمر البرمة و التنور إذا أخذ منه و يقرب الى أصحابه ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز و يغرف اللحم حتى شبعوا و هم الف- قال جابر فاقسم باللّه لاكلوا حتى تركوه و انحرفوا و ان برمتنا لتغط «٧» كما هى و ان عجيننا ليخبز كما هو ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كلى و اهدى فان الناس أصابتهم مجاعة فلم نزل

(١) الشاة التي يعلقها الناس فى منازلهم- نهاية منه رح.

(٢) اى لان و رطب و تمكن من الخبز- منه رح.

(٣) اى طعاما يدعو اليه الناس و اللفظ فارسية- نهاية جزرى منه رح [.....].

(٤) حى هلا كلمة استدعاء فيها حث اى هلموا مسرعين- نهاية منه رح.

(٥) ويح كلمة ترحم- منه رح.

(٦) اى جعل اللّه بك كذا و كذا او فعل بك كذا و كذا و الموحدة متعلق بمحذوف ١٢ نهاية منه رح.

(٧) اى تفلى و تفور- منه رح-.

نأكل و نهدى يومنا-

قلت و قد صح انهم قد فرغوا من امر الخندق فى ستة ايام.

قال البغوي رجعنا الى حديث ابن إسحاق فلما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من الخندق أقبلت قريش بمجتمع الاخبال من دومة الجرف و الغابة فى عشر آلاف من أحابيشهم «١» و من تابعهم من اهل التهامة و أقبلت غطفان و من تابعهم من اهل نجد حتى نزلوا بذنب نقم ى الى جانب أحد- و خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و المسلمون حتى جعلوا ظهورهم الى سلع فى ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هنا لك عسكره و الخندق بينه و بين القوم و امر بالذراري و النساء فرفعوا الى الآطام. «الاجنبية المرتفعة كالحصون- نهادينه رح» و خرج عدو اللّه حيى ابن اخطب من بنى النضير حتى اتى كعب بن اسد القرظي صاحب عقد بنى قريظة و عهدهم و كان قد وادع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على قومه و عاهده ذلك فلما سمع كعب بحيي بن اخطب غلق دونه حصنه فاستأذن عليه فابى ان يفتح له فناداه حيى يا كعب افتح لى فقال ويحك يا حيى امر اشوم انى قد عهدتّ محمدا فلست بناقض ما بينى و بينه و لم أر منه الا الوفاء و الصدق قال ويحك افتح أكلمك قال ما انا بفاعل قال و اللّه ان غلقت دونى الا لخشيتك ان أكل معك منها فاحفظ الرجل ففتح له الباب فقال يا كعب جئتك بعز الدهر ببحر «اى مرتفع منه رح» طام جئتك بقريش على قادتها و سادتها حتى انزلتهم بمجتمع الاسبال من دومة و غطفان على قادتها و سادتها حتى امسى بذنب نقمى الى جانب أحد فتعاهدونى و تعاقدونى ان لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا و من معه فقال كعب بن اسد جئتنى و اللّه بذل الدهر و بجهام قد أهرق «اى صب ١٢ منه رح» ماؤه برعد و برق ليس فيه شى ء فدعنى و محمدا و ما انا عليه فانى لم ار من محمّد الا صدقا و وفاء فلم يزل حيى بن اخطب بكعب يقتله «٢» فى الذروة و الغارب حتى سمح له على ان أعطاه من اللّه عهدا و ميثاقا لان رجعت قريش و لم يصيبوا محمدا ان ادخل معك فى حصنك حتى يصيبنى ما أصابك- فنقض كعب بن اسد عهده و برئ ممّا كان

(١) احياء من القارة انضموا الى بنى ليث فى محاربتهم قريشا- نهاية منه رح.

(٢) يفتله فى الذروة و الغارب هذا مثل و أصله فى البعير يستصعب عليك فتأخذ القراد من ذروته و غاب سنامه و تفتل هناكه فيجد البعير مهرة فيستأنس عند ذلك فضرب هذا الكلام مثلا فى المراوضة و المخاتلة و الذروة و الغارب أعلى ظهر البعير يعنى لم يخل يخدعه ١٢ منه رحمه اللّه-.

عليه فيما بينه و بين محمّد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلما انتهى الى رسول اللّه الخبر و الى المسلمين بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سعد بن معاذ أحد بنى الأشهل و هو يومئذ سيد الأوس و سعد بن عبادة أحد بنى ساعدة و هو يومئذ سيد الخزرج و معهما عبد اللّه ابن رواحة أخو بنى الحارث بن الخزرج و خوّات بن جبير أخو بنى عمرو بن عوف فقال انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغني عن هؤلاء القوم أم لا فان كان حقّا الحنوا الىّ لحنا «١» أعرفه لا تفتوا «اى لا تكسروا قوائهم بإدخال الرعب فى قلوبهم- منه رح» أعضاد الناس و ان كانوا على الوفاء فيما بيننا و بينهم فاجهروا به الناس فخرجوا حتى أتوهم فوجدوا على أخبث ما بلغهم منهم و مالوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قالوا لا عقد بيننا و بين محمد فشاتمهم سعد بن عبادة و شاتموه و كان رجلا فيه فقال سعد بن معاذ دع عنك مشاتمتهم فما بيننا و بينهم اربى «أزيد- منه رح» من المشاتمة ثم اقبل سعد و سعد و من معهما الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فسلموا عليه و قالوا عضل «٢» و القارة لعذر عضل و القارة باصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اللّه اكبر ابشروا يا معشر المسلمين و عظم عند ذلك البلاء و اشتد الخوف و أتاهم عدوهم من فوقهم و من أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن و نجم «٣» النفاق من بعض المنافقين حتى قال معتب بن قشير أخو بنى عمرو بن عوف كان محمد يعدنا ان ناكل كنوز كسرى و قيصر واحدنا لا يقدر ان يذهب الى الغائط ما وَعَدَنَا اللّه وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً و حتى قال أوس بن قبطى أحد بنى حارثة يا رسول اللّه إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ و ذلك على ملا من رجال قومه فاذن لنا فلنرجع الى ديارنا فانها خارجة من المدينة-

قلت روى انه لما نقض كعب عهده الذي كان بينه و بين رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و عزم على ذلك جمع اشراف قومه منهم زبير بن بلطا و نباش بن قيس و عقبة بن زيد و غيرهم و أخبرهم بذلك لاموه أشد ملامة و كرهوا ذلك حتى ندم كعب على ذلك و لكن لم ينفعه لما كان ذهب عنان الأمر من يده و كان ذلك ما أراد اللّه إهلاك قريظة و روى الشيخان فى الصحيحين عن الزبير بن العوام رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من يأتى بنى قريظة فيأتينى بخبرهم فانطلقت فلما رجعت جمع لى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أبويه فقال فداك ابى و أمي-

(١) اللحن قول يفهم المخاطب و يخفى على غيره- منه رح.

(٢) العضل المنع و الشدة- منه رح.

(٣) اى ظهر النفاق- منه رح.

قلت و كان إرسال الزبير الى بنى قريظة قبل إرسال سعد و سعد إليهم روى انه لما جاء الزبير من بنى قريظة الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أخبره بانهم يصلحون حصونهم و يسدون الطرق و الثغور و يجمعون دوابهم و مواشيهم فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم لكل نبى حواريا و حواريى الزبير.

قال البغوي فاقام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و اقام المشركون عليه بضعا و عشرين ليلة قريبا من شهر و لم يكن بين القوم حرب الا الرمي بالنبل و الحصى- فلمّا اشتد البلاء على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أرسل الى عيينة بن حصين و ابى الحارث ابن عمرو و هما قائدا غطفان فاعطاهما ثلث ثمار المدينة على ان يرجعا بمن معهما عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بأصحابه فجرى بينه و بينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب و لم يصنع الشهادة و ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لسعد بن معاذ و سعد بن عبادة و استشارهما فيه فقالا يا رسول اللّه أ شي ء أمرك اللّه به لا بد لنا من عمل به أم امر تحبه فتصنعه أم شى ء تصنعه لنا قال بل لكم و اللّه ما اصنع ذلك الا انى رايت العرب قدر منكم عن قوس واحدة و كالبوكم «١» من كل جانب فاردتّ ان اكسر عنكم شوكتهم فقال لهم سعد بن معاذ قد كنا نحن و هؤلاء القوم على شرك باللّه و عبادة الأوثان لا نعبد اللّه و لا نعرفه و هم لا يطمعون ان يأكلوا تمرة الا قرى او بيعا فحين أكرمنا اللّه بالإسلام و أعزنا بك نعطيهم أموالنا و مالنا بهذا حاجة و اللّه لا تعطهم الا السيف حَتَّى يَحْكُمَ اللّه بَيْنَنا و بينهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فانت و ذلك فتناول سعد الصحيفة فمحى ما فى الكتاب ثم قال ليجتهدوا علينا قلت و روى ان أسيد ابن حضير قال ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اولا ثم قال مثله سعد و سعد و كان عيينة بن حصين أطال رجله فى ذلك المجلس فقال له أسيد يا عين الهجرس اطو رجلك و لو لا مهابة مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لوضعت رمحى فى خاسرتك فانقلب عيينة و الحارث خائبين و علموا ان لا يكون لهم سلطان على المدينة و حيث راوا قوة الأنصار و شدتهم تزلزلوا-

قال البغوي فاقام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و عدوهم فحاصروهم و لم يكن

(١) اشتدوا عليكم و أصله من الكلب و الصفار- منه رح.

بينهم قتال الا فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود أخو بنى عامر بن لوى و عكرمة بن ابى جهل و هبيرة بن ابى وهب المخزوميان و نوفل بن عبد اللّه و ضرار بن الخطاب و مرداس بن لوى أخو بني محارب بن فهر قد تلبسوا القتال و خرجوا على خيلهم و مروا على بنى كنانة و قالوا تهيئوا للحرب يا بنى كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان ثم اقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا على الخندق فلما راوه قالوا و اللّه ان هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها ثم تيمموا «اى قصدوا- منه رح» مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيولهم فاقتحمت فجالت بهم فى المسبحة بين الخندق و السلع- و خرج على بن ابى طالب رضى اللّه عنه فى نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقحموا منها خيلهم و أقبلت الفرسان تعيق «اى لسرع منه رح» نحوهم و كان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى اثبت الجراحة فلم يشهد أحدا فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه فلمّا وقف هو و خيله قال له علىّ يا عمرو انك كنت تعاهد اللّه لا يدعوك رجل من قريش الى خلتين الا أخذت منه إحداهما قال أجل قال له على ابن ابى طالب فانى أدعوك الى اللّه و الى رسوله و الى الإسلام قال لا حاجة لى بذلك قال فانى أدعوك الى النزال قال لم يا ابن أخي فو اللّه ما أحب ان أقتلك قال على لكن و اللّه أحب ان أقتلك فحمى عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره او ضرب وجهه ثم اقبل على علىّ فتناولا و تجادلا فقتله علىّ و خرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة و قتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان بن عبد السياق بن عبد الدار أصابه سهم فمات عنه بمكة و نوفل بن عبد اللّه بن المغيرة المخزومي و كان قد اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة فقال يا معشر العرب قتله احسن من هذه فنزل له علىّ فقتله فغلب المسلمون- فسالوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان يبيعهم جسده فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا حاجة لنا فى جسده و ثمنه فشأنكم فخلى بينهم و بينه.

قالت عائشة أم المؤمنين كنا يوم الخندق فى حصن بنى حارثة و كان احرز حصون المدينة و كان سعد بن معاذ معنا فى الحصن و ذلك قبل ان يضرب علينا الحجاب فخرج سعد ابن معاذ و عليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها و بيده حربقة «١» و هو يقول

(١) اى جعل لنفسه علامة تعرف بها البراز للحرب- منه رح.

يا ليت قلاملا يدرك الهيجاء جمل لا بأس بالموت إذا حان الاجل

فقالت امه الحق «١» يا بنى فقد و اللّه أخرت فقلت لها يا أم سعد و اللّه لوددتّ ان درع سعد كانت أسبغ مما هى و خفت عليه حيث أصاب السهم قالت امه يقضى اللّه ما هو قاض فرمى يومئذ بسهم قطع منه الا كحل رماه حيان بن قيس الغرفة أحد بنى عامر بن لوى فلما أصاب السهم قال خذها و اما ابن الغرفة فقال سعد وجعك اللّه فى النار ثم قال سعد اللّهم ان كنت أبقيت من حرب قريش فابقنى له فانه لا قوم أحب الىّ ان اجاهدهم من قوم آذوا رسولك و كذبوه و أخرجوه و ان كنت قد وضعت الحرب بيننا و بينهم فاجعله لى شهادة و لا تمتنى حتى تقر عينى من بنى قريظة و كانوا حلفاؤه و مواليه فى الجاهلية- قال مجاهد و محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه عباد قال كانت صفية بنت عبد المطلب فى رقاع حصن حسان بن ثابت قالت و كان حسان معنا فيه مع النساء و الصبيان فمر بنا رجل من اليهود فجعل يطيف بالحصن و قد حاربت بنو قريظة ما بينها و بين رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ما بيننا و بينهم أحد يدفع عنا و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و المسلمون فى نحور عدوهم لا يستطيعون ان ينصرفوا إلينا عنهم إذ أتانا ات فقلت يا حسان ان هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن و انى و اللّه ما امنه ان يدخل عورتنا من ورائنا من اليهود و قد شغل عنّا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه فانزل اليه فاقتله فقال يغفر اللّه لك يا ابنة عبد المطلب و اللّه لقد عرفت و ما انا بصاحب هذا فلمّا قال لى ذلك و لم ار عنده شيئا احتجزت «اى شدوت الميزر» ثم أخذت عمودا ثم نزلت عن الحصن اليه فضربت عنقه بالعمود حتى قتلته فلمّا فرغت منه رجعت الى الحصن فقلت يا حسان انزل عليه فاسلبه فانه لم يمنعنى من سلبه الا انه رجل قال مالى بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب-

قلت روى ان بنى قريظة أرادوا ان يبيتوا على المدينة و طلبوا فى ذلك مددا من قريش فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سلمة بن اسلم مع مائتى رجل و زيد بن حارثة مع ثلاث مائة رجل حتى يحرسوا بقاع المدينة و حصونها- و روى ان عباد بن بشر مع أصحابه كانوا يحرسون كل ليلة خيمة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم

(١) يعنى اى پسر بشتاب و با رسول كريم ملحق شو و بخدا كه تو دير كردى- منه رح.

و كان المشركون يريدون ان يجاوزوا الخندق و الصحابة يمنعونهم برمى السهام و الحجارة و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يحرس بنفسه الكريمة روى الشيخان فى الصحيحين عن عائشة قالت سهر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مقدمة المدينة ليلة فقال ليت لى رجلا صالحا يحرسنى إذ سمعنا صوت سلاح فقال من هذا قال سعد قال ما جاء بك قال وقع فى نفسى خوف على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فجئت احرسه فدعا له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم نام و فى رواية قالت عائشة أحب سعدا من يوم كان يحرس رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى ايام الخندق كان من الخندق موضعا يخاف عبور الكفار من ذلك الموضع كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يحرس ذلك الموضع و إذا اشتد عليه البرد يأتينى و يستد فأبى ثم يذهب و يحرس و يقول لا أخاف على العسكر الا من هذا الموضع فجاءنى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مرة ليستد فأبى و قال ليت لى رجلا صالحا يحرسنى الليلة حتى أنام إذ سمعنا صوت سلاح فقال من هذا قال سعد قال احرسنا ذلك الموضع ففعل فنام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى سمعت صوت نفسه.

و روى عن أم سلمة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يحرس بنفسه الكريمة و كان البرد شديدا فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى ليلة من الليالى صلى فى خيمته ثم ذهب يحرس فقال هؤلاء فرسان المشركين حول الخندق فنادى عباد بن بشير فقال لبيك يا رسول اللّه فقال هل معك أحد فقال نعم رجال من قومى يحرسونك فقال اذهب برجال قومك فان رجالا من المشركين حول الخندق يريدون ان يبيتوا و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اللّهم ادفع عنا شرهم و انصرنا عليهم فذهب عباد بن بشير بأصحابه الى الخندق فاذا ابو سفيان و رجال من المشركين دخلوا فى مضيق الخندق و المسلمون يرمونهم بالسهام و الحجارة فلحقهم عباد بن بشير قال عباد فرميتهم مع المؤمنين حتى انهزم المشركون فرجعت الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو يصلى فلمّا فرغ من الصلاة أخبرته الخبر فقالت أم سلمة فنام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى سمعت صوته و لم ينتبه حتى اذن بلال للصبح فخرج فصلى بالناس و كانت أم سلمة تقول اللّهم ارحم عباد بن بشير و عن أم سلمة رضى اللّه عنها قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نائما فى خيمته فاذا انتصفت الليل ارتفعت الأصوات و سمعت يقولون يا خيل اللّه اركبوا و كان هذا فى تلك الغزوة شعار المهاجرين (و فى رواية كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال إذا بيتوا اى الكفار فشعاركم حم لا ينصرون و وجه الجمع ان هذا كان شعار الأنصار و ذلك شعار المهاجرين) فانتبه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من النوم و خرج من خيمته على رجال كانوا يحرسون خيمته منهم عباد بن بشير فسأله ما تلك الأصوات و امر عبادا ان يأتي بالخبر فذهب عباد و انتظر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى اتى و قال يا رسول اللّه هذا عمرو بن عبد ود مع جمع من المشركين يحاربون مع المؤمنين يترامون بالسهام و الحجارة فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خيمته و رفع سلاحه فخرج و ركب الفرس و سار الى المعركة بجمع من الصحابة ثم رجع بعد ساعة فرحان و قال قد ذهب اللّه بشرهم و انهزم بجراحات كثيرة- فاضطجع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و نام حتى سمعت صوت نفسه ثم ارتفعت الأصوات مرة ثانية فانتبه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قال يا عباد انظر ما تلك الأصوات فذهب عباد ثم رجع و قال يا رسول اللّه هذا إضرار بن الخطاب بجمع من المشركين يحارب المسلمين بالنبال و الحجارة فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و عليه سلاح و ذهب هناك و حاربهم حتى أصبحوا ثم رجع و قال انهزموا بجراحات كثيرة- قالت أم سلمة كنت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى غزوة مريسع و خيبر و حديبية و فتح مكة و حنين و ما كان شى ء منها أشد و أشق على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من غزوة الخندق و أصاب المسلمون فى تلك الغزوة جراحات كثيرة و كان بردا شديدا و عشرة.

و روى ان يوما من الأيام اجتمعت الكفار و أخذوا حوالى الخندق و حاربوا حربا شديدا حتى غابت الشمس و لم يجد النبي صلى اللّه عليه و سلم فرصة للصلوة حتى فات عنه صلوة الظهر و الع صر و المغرب فصلاها فى وقت العشاء- روى الترمذي و النسائي عن ابى عبيدة عن أبيه عبد اللّه بن مسعود انه قال ان المشركين شغلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن اربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء اللّه فامر بلالا فاذّن ثم اقام فصلى الظهر ثم اقام فصلى العصر ثم اقام فصلى المغرب ثم اقام فصلى العشاء قال الترمذي ليس بإسناده بأس الا ان أبا عبيدة لم يسمع من أبيه فهو منقطع و روى النسائي فى سننه عن ابى سعيد الخدري قال حبسنا يوم الخندق عن الظهر و العصر و المغرب و العشاء حتى كفينا ذلك فانزل اللّه تعالى وَ كَفَى اللّه الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاقام فصلى الظهر كما كان يصليها قبل ذلك ثم اقام فصلى العصر كما كان يصليها قبل ذلك ثم اقام فصلى المغرب كما كان يصليها قبل ذلك ثم اقام فصلى العشاء كما كان يصليها قبل ذلك و ذلك قبل ان ينزل فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً و رواه ابن حبان فى صحيحه و لم يذكر فيه العشاء لانها كانت فى وقتها و ذكرها فى الرواية الاخرى باعتبار انها تأخرت عن وقتها المعتاد

و اخرج البزار عن جابر بن عبد اللّه انه صلى اللّه عليه و سلم شغل يوم الخندق عن صلوة الظهر و العصر و المغرب و العشاء حتى ذهب ساعة من الليل فامر بلالا فاذّن و اقام فصلى الظهر ثم امره فاذّن و اقام فصلى العصر ثم امره فاذّن و اقام فصلى المغرب ثم امره فاذّن و اقام فصلى العشاء ثم قال ما على ظهر الأرض قوم يذكرون اللّه فى هذه الساعة غيركم- و فيه عبد الكريم بن ابى المخارق مضعف و فى الصحيحين عن جابر ابن عبد اللّه ان عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس جعل يسبّ كفار قريش و قال يا رسول اللّه ما كدتّ ان أصلي حتى كادت الشمس تغرب قال النبي صلى اللّه عليه و سلم و اللّه ما صليتها فنزلنا مع النبي صلى اللّه عليه و سلم بطحان فتوضأ للصلوة و توضأ نالها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب و فى الصحيحين عن علىّ عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال يوم الخندق ملا اللّه عليهم بيوتهم و قبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس- و فى رواية لمسلم ثم صلاها بين المغرب و العشاء- و هذه الأحاديث جاز ان يكون وقائع مختلفة لان ايام وقعة الخندق كانت كثيرة و جاز ان يكون واقعة حال واحد و يمكن الجمع بينها كما لا يخفى.

(مسئلة) إذا فاتت صلوات يوذّن للاولى ثم يقيم لكل صلوة و الاولى ان يؤذّن و يقيم لكل صلوة كما يدل عليه حديث البزار و اللّه اعلم.

و لمّا اشتد البلاء على المؤمنين دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على الكفار فاستجاب اللّه دعاءه روى البخاري فى الصحيح عن عبد اللّه بن ابى اوفى قال دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على الأحزاب قال اللّهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللّهم اهزمهم و زلزلهم-

قلت و روى عن جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنه انه صلى اللّه عليه و سلم دعا على الأحزاب ثلاثة ايام متتابعات فى مسجد الفتح قيل هو يوم الاثنين و الثلثاء و الأربعاء فاستجاب اللّه دعاءه يوم الأربعاء بين الظهر و العصر فرايتا الفرح فى وجهه قال فما ناب لنا نائبة و دعانا اللّه تعالى فى تلك الساعة الا استجاب اللّه دعاءنا.

قال البغوي ثم نعيم بن مسعود بن عامر بن غطفان اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه انى قد أسلمت و ان قومى لم يعلموا بإسلامي فمرنا بما شئت فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا ان استطعت فان الحرب خدعة-

قلت و فى رواية قال نعيم يا رسول اللّه ايذن لى ان أقول ما شئت فاذن له- فخرج نعيم بن مسعود حتى اتى بنى قريظة و كان لهم نديم فى الجاهلية فقال لهم يا بنى قريظة قد عرفتم ودى إياكم خاصة قالوا صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم ان قريشا و غطفان جاءوا للحرب قد ظاهرتموهم عليه و ان قريشا و غطفان ليسوا كهيئتكم البلد بكدكم به أموالكم و أولادكم و نساؤكم و لا تقدرون ان تتحولوا منه الى غيره و ان قريشا و غطفان أموالهم و أولادهم و نساؤهم بعيدة ان راوا نهزة و غنيمة أصابوها و ان راوا غير ذلك لحقوا ببلادهم و خلّوا بينكم و بين الرجل و الرجل ببلدكم لا طاقة لكم به ان خلا بكم فلا تقاتلوا القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من اشرافهم يكون بايديكم ثقة على ان تقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه «١» فقالوا لقد أشرت بنصح ثم خرج حتى اتى قريشا فقال لابى سفيان بن حرب و من معه من رجال قريش قد عرفتم ودى إياكم و برائى من محمد و قد بلغني امر رايت حقّا ان أبلغكم نصحا لكم فاكتموا علىّ قالوا نفعل قال لتعلمن ان معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم و بين محمد و قد أرسلوا اليه انا ندمنا على ما صنعنا فهل يرضيكم عنا من القبيلتين قريش و غطفان رجالا من اشرافهم فنعطيكم فيضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم فارسل إليهم ان نعم فاذا بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا

(١) المناجزة فى الحرب المبارزة نهاية منه رح.

إليهم منكم رجلا واحدا- ثم خرج حتى اتى غطفان فقال يا معشر غطفان أنتم أهلي و عشيرتى و أحب الناس الىّ و لا أراكم تتهمونى قالوا صدقت قال فاكتموا علىّ قالوا نفعل ثم قال لهم مثل ما قال القريش و حذرهم ما حذرهم.

فلمّا كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس و كان ممّا صنع اللّه لرسوله ان أرسل ابو سفيان ورقة بن غطفان و عكرمة بن ابى جهل فى نفر من قريش و غطفان الى بنى قريظة و قالوا لسنا بدار مقام قد هلك الخف و الحافر فاعدوا للقتال حتى نناجز محمدا و نفرغ ممّا بيننا و بينه- فارسلوا إليهم اليوم يوم السبت و هو يوم لا نعمل فيه شيئا و قد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فاصابهم ما لم يخف عليكم و لسنا مع ذلك نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكون بايدينا ثقة لنا حتى تناجز محمدا فانا نخشى ان ضرتكم الحرب و اشتد عليكم القتال ترجعون الى بلادكم و تتركونا و الرجال فى بلدنا و لا طاقة لنا بذلك من محمد- فلمّا رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش و غطفان لتعلمن و اللّه ان الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق فارسلوا الى بنى قريظة و اللّه لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا فان كنتم تريدون فاخرجوا فقاتلوا- فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا ان الذي ذكر نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم الا ان يقاتلوا فان وجدوا فرصة انتهزوها «اغتنموا ها منه رح» و ان كان غير ذلك اشمأزوا «اجتمعوا- منه رح» الى بلادهم دخلوا بينكم و بين الرجل فى بلادكم فارسلوا الى قريش و غطفان اما و اللّه لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا فابوا عليهم فخذل اللّه بينهم و بعث عليهم الريح فى ليلة شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم و تطرح آنيتهم.

فلمّا بلغ الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما اختلف من أمرهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا روى محمد بن إسحاق عن زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي و روى غيره عن ابراهيم التيمي عن أبيه قالا قال فتحا من اهل الكوفة لحذيفة بن اليمان يا أبا عبد اللّه رايتم رسول اللّه صلى اللّه عليه و صحبتموه قال نعم يا ابن أخي قال كيف تضعون قال و اللّه لقد كنا نجهر قال الفتى و اللّه لو أدركناه ما تركناه يمشى على الأرض و لحملناه على أعناقنا و لخدمناه و فعلنا فقال حذيفة يا ابن أخي و اللّه لقد رايتنى ليلة الأحزاب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال من يقوم فيذهب الى هؤلاء القوم فيأتينا خبرهم ادخله اللّه الجنة فما قام منا رجل ثم صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هويّا «١» من الليل ثم التفت إلينا فقال مثله فسكت القوم و ما قام منا رجل ثم صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هويّا من الليل ثم التفت إلينا فقال من رجل فيقوم فينظر لنا ما فعل القوم على ان يكون رفيقى فى الجنة فما قام رجل من شدة الخوف و شدة الجوع و شدة البرد- فلمّا لم يقم أحد دعانى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا حذيفة فلم يكن لى بد من القيام حين دعانى فقلت لبيك يا رسول اللّه و قمت حتى أتيته و ان جنبىّ لتضطربان فمسح رأسى و وجهى ثم قال ايت هؤلاء القوم حتى تأتى بخبرهم فلا تحدثن شيئا حتى ترجع الىّ ثم قال اللّهم احفظه من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله و من فوقه و من تحته فاخذت سهمى و شددتّ علىّ اسلابى ثم انطلقت امشى نحوهم كانى امشى فى حمام فذهبت فدخلت فى القوم قد أرسل اللّه عليهم ريحا و جنودا و جنود اللّه تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا و لا نارا و لا بناء و ابو سفيان قاعد يصطلى «٢» فاخذت سهمى فوضعت فى كبد قوسى فاردتّ ان ارميه فلو رميته أصبته فذكرت قول رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم" لا تحدثن شيئا حتى ترجع الىّ" فرددتّ سهمى فلما راى ابو سفيان ما تفعل الريح و جنود اللّه بهم لا تقرّبهم قدرا و لا نارا و لا بناء فقام و قال يا معشر قريش ليأخذ كل رجل منكم جليسه فلينظر من هو فاخذت بيد جليسى فقلت من أنت فقال سبحان اللّه اما تعرفنى انا فلان بن فلان فاذا برجل من هوازن فقال ابو سفيان يا معشر قريش انكم و اللّه ما أصبحتم بدار مقام قد هلك الكراع و الخف و أخلفتنا بنوا قريظة و بلغنا عنهم الذي نكره و لقينا من هذه الريح ما ترون فارتحلوا فانى مرتحل ثم قام الى جمله و هو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما اطلق عقاله الا و هو قائم و سمعت غطفان فعلت ما فعلت قريش فاستمروا راجعين الى بلادهم قال فرجعت الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كانّى امشى فى حمام فاتيته و هو قائم يصلى فلمّا سلم أخبرته بخبر القوم فضحك حتى بدت أنيابه فى سواد الليل قال فلمّا أخبرته و فرغت و زرت و ذهب عنى الدفاء أدناني النبي صلى اللّه عليه و سلم فاتانى

(١) الهوى بالفتح الحين الطويل من الزمان و قيل هو مختص بالليل- منه رح [.....].

(٢) الاصطلاء الاستدفاء بالنار- منه رح.

عند رجليه و القى علىّ طرف ثوبه و الزق صدرى ببطن قدميه فلم ازل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت قال قم يا نومان.

قلت و عند ابن جرير و ابن ابى حاتم عن قتادة لما بعث اللّه على عسكر المشركين ريحا و كبّرت الملائكة فى جوانب العسكر قال طليحة بن خويلد الأسدي امّا محمد فقد بدأكم بالسحر فالنجا «١» النجا فانهزموا من غير قتال-

قلت قال الشيخ عماد الدين بن كثير فى تفسيره انه لو لا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رحمة للعالمين ما تركت الريح أحدا من الكفار الا جعلته كالرميم كما جعلت عادا الريح العقيم و فى رواية فى حديث حذيفة انه قال لما رجعت من عسكر الكفار الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رايت فى أثناء الطريق عشرين فارسا بيضاء عمائمهم قالوا لى قل لصاحبك ان اللّه سبحانه كفاك و دفع عنك شر أعدائك. و روى الشيخان فى الصحيحين عن جابر يقول قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم الأحزاب من يأتينا بخبر القوم فقال الزبير انا ثم قال من يأتينا بخبر القوم قال الزبير انا ثم قال من يأتينا بخبر القوم قال الزبير انا فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم ان لكل نبى حوارى و حوارى الزبير و روى البخاري فى الصحيح عن سليمان بن صرد يقول سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول حين اجلى الأحزاب عنه الان نغزوهم و لا يغزوننا نحن نسير إليهم- و روى ايضا فى الصحيح عن ابن عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان إذا «رجع- منه رح» قفل من الغزو او الحج او العمرة ببلدة يكبر ثلاث مرات ثم يقول لا اله الا اللّه وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شى ء قدير آئبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق اللّه وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده- قال محمد بن عمر استشهد فى غزوة الخندق ستة رجال من المسلمين و قتل من المشركين ايضا ستة ..

(١) النجا السرعة اى اسرعوا سرعة- نهاية منه رح.

١٠

إِذْ جاؤُكُمْ بدل من إذ جاءتكم مِنْ فَوْقِكُمْ اى من أعلى الوادي من قبل المشرق و هم اسد و غطفان عليهم مالك بن عوف النظري و عيينة بن حصين الفزاري فى الف من غطفان و معهم طليحة بن خويلد الأسدي فى بنى اسد و حيى بن اخطب فى يهود بنى قريظة وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعنى من بطن الوادي من قبل المغرب و هم كنانة و قريش عليهم ابو سفيان بن حرب فى قريش و من تبعهم و ابو اعور عمرو بن سفيان السلمى من قبل الخندق وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ اى مالت عن مستوى نظرها حيرة و شخوصا «١» من العدو وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ رعبا فان الرية تنتفخ من شدة الروع فترتفع القلب بارتفاعها الى رأس الحنجرة و هى طرف الحلقور و هذا مثل يعبر عنه عن شدة الخوف وَ تَظُنُّونَ بِاللّه الظُّنُونَا (١٠) أنواعا من الظن فظن المنافقون استيصال محمد صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه و ظن المؤمنون النصر و الظفر لما سبقهم من الوعد فى إعلاء دينه و لحق ضعاف القلوب التزلزل- قرا ابو بكر و اهل المدينة و ابن عامر الظّنونا الرّسولا السّبيلا بإثبات الالف وصلا و وقفا لانها مثبة فى المصاحف

و قرا اهل البصرة و حمزة بغير الف فى الحالين على الأصل و الباقون بالألف فى الوقف لموافقة رءوس الاى و اتباع الخط و بغير الف فى الوصل على الأصل.

(١) شخوص البصر ارتفاع الأجفان الى فوق و تحديد النظر- منه رح.

١١

هُنالِكَ اى فى ذلك الوقت ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ اى امتحنوا ليمتاز المخلص من المنافق و الثابت من المتزلزل وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (١١)

١٢

وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ و هم معقب بن قشير و عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه و إذ بدل من هنالك.

وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف اعتقاد و جبن ما وَعَدَنَا اللّه وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (١٢)

قال البغوي هذا قول اهل النفاق يعدنا محمد فتح قصور الشام و فارس و أحدنا لا يستطيع ان يجاوز رحله هذا و اللّه الغرور و أخرجه ابن ابى حاتم عن السدىّ قال فقال رجل يعنى منافق من الأنصار يدعى بشير بن معتب فذكر نحوه.

١٣

وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ اى من المنافقين و هو أوس بن قبطى و أصحابه يا أَهْلَ يَثْرِبَ يعنى المدينة و قال ابو عبيدة اسم ارض مدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى ناحية منها

قال البغوي ورد فى بعض الاخبار ان النبي صلى اللّه عليه و سلم نهى ان تسمى المدينة يثرب و قال هى طابة كانّه كره هذا اللفظ لانه مشتق من ثربه يثربه و ثرّبه و عليه و اثربه لامه و عيّره بذنبه و المثرب القليل العطاء كذا فى القاموس لا مُقامَ لَكُمْ قرأ الجمهور بفتح الميم اى لا موضع قيام لكم هاهنا

و قرا حفص بالضم على انه مكان او مصدر من اقام فَارْجِعُوا الى منازلكم عن القتال و رفاقة محمد صلى اللّه عليه و سلم او لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا الى الشرك و أسلموه لتسلموا او لا مقام لكم بيثرب فارجعوا الى الشرك و أسلموه لتسلموا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ و هم بنو حارثة و بنو سلمة يَقُولُونَ حال من فاعل يستأذنون إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ اى غير حصينة يجئ عليها العدو و السارق فكذّبهم اللّه و قال وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ اى ما يريدون بذلك القول الكاذب إِلَّا فِراراً (١٣) من القتال.

١٤

وَ لَوْ دُخِلَتْ المدينة اى دخل هؤلاء الأحزاب عَلَيْهِمْ فى المدينة او فى بيوتهم و حذف الفاعل ايماء بان دخول هؤلاء الأحزاب و غيرهم فى اقتضاء الحكم المترتب عليه سواء مِنْ أَقْطارِها اى جوانبها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ اى الشرك او مقاتلة المسلمين لَآتَوْها قرأ اهل الحجاز بالقصر اى لجاءوها و فعلوها و الباقون بالمد اى لاعطوا ما سئلوا من الفتنة وَ ما تَلَبَّثُوا بِها اى بالفتنة يعنى بإتيانها و اعطائها إِلَّا يَسِيراً (١٤) اى زمانا يسيرا يعنى زمان السؤال و الجواب كذا قال اكثر المفسّرين و قيل معناه ما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر الا زمانا قليلا ثم يهلكون او يجلون.

١٥

وَ لَقَدْ كانُوا عاه َدُوا اللّه مِنْ قَبْلُ غزوة الخندق لا يُوَلُّونَ عدوهم الْأَدْبارَ اى لا ينهزمون قال يزيد بن رومان و هم بنو حارثة هموا يوم أحد ان يقتلوا بنى سلمة فلمّا نزل فيهم ما نزل عاهدوا اللّه ان لا يعودوا لمثلها و قال قتادة هم أناس قد غابوا عن وقعة بدر و لمّا راوا ما أعطاه اللّه اهل بدر من الكرامة و الفضيلة قالوا لئن أشهدنا اللّه قتالا فلنقاتلنّ فسلق اللّه إليهم ذلك وَ كانَ عَهْدُ اللّه مَسْؤُلًا (١٥) عن الوفاء به يجازى عليه.

١٦

قُلْ لهم يا محمّد لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ لانه من حضر اجله لا بد له من ان يموت سواء بالقتل او حتف انفه و متى لا يحضر اجله لا يموت قطعا وَ إِذاً اى إذا فررتم لا تُمَتَّعُونَ فى الدنيا حيّا إِلَّا قَلِيلًا (١٦) اى تمتيعا قليلا او زمانا قليلا و قيل معناه ان نفعكم الفرار فرضا فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتيع الا قليلا لكون الدنيا فانية لا محالة.

١٧

قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللّه اى من عذابه إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً اى عذابا أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً يعنى و من ذا الذي يصيبكم بسوء ان أراد بكم رحمة فاختصر الكلام كما فى قوله متقلدا سيفا و رمحا و جاز ان يكون حمل الثاني على الاول لما فى العصمة من معنى المنع وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّه وَلِيًّا قريبا ينفعهم وَ لا نَصِيراً (١٧) يدفع عنهم الضر.

١٨

قَدْ يَعْلَمُ اللّه الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ من التعويق بمعنى التصريف و العوق الصرف و العائق الصارف عن الخير و المراد الذين يصرفون الناس عن ملازمة النبي صلى اللّه عليه و سلم و هم المنافقون وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ من ساكنى المدينة هَلُمَّ اى قربوا أنفسكم إِلَيْنا و دعوا محمدا فلا تشهدوا معه الحرب فانا نخاف عليكم الهلاك قال قتادة هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يثبّطون أنصار النبي صلى اللّه عليه و سلم و يقولون لاخوانهم ما محمد و أصحابه الا أكلة رأس و كانوا لحما لالتقمه ابو سفيان و ابو سفيان و أصحابه دعوا الرجل فانه هالك- و قال مقاتل ان اليهود أرسلت الى المنافقين و قالوا ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد ابى سفيان و من معه فانهم ان قدروا فى هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا و انا مشفق عليكم أنتم إخواننا و جيراننا هلم إلينا فاقبل عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه على المؤمنين يعوّقونهم و يخوّفونهم بابى سفيان و من معه و قالوا لان قدروا عليكم لم يستبقوا منكم أحدا ما ترجون من محمد ما عنده خير ما هو الا ان يقتلنا هاهنا انطلقوا بنا الى إخواننا يعنون اليهود فلم يزدادوا المؤمنون بقول المنافقين الا ايمانا و احتسابا فنزلت تلك الاية قوله تعالى وَ لا يَأْتُونَ اى المنافقون الْبَأْسَ اى الحرب إِلَّا قَلِيلًا (١٨) اى اتيانا قليلا او زمانا او بأسا قليلا فانهم كانوا يعتذرون و يثبّطون المؤمنين ما أمكن لهم او يخرجون مع المؤمنين و لكن لا يقاتلون الا قليلا رياء و سمعة من غير احتساب و لو كان ذلك القليل للّه لكان كثيرا و قيل انه تتمة كلامهم و معناه و لا يأتى محمد و أصحابه حرب الأحزاب و لا يقادمونهم الا قليلا.

١٩

أَشِحَّةً جمع شحيح و نصبها على الحال من فاعل يأتون او المعوّقين او على الذم يعنى بخلا عَلَيْكُمْ بالمعاونة او النفقة فى سبيل اللّه او الظفر و الغنيمة فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ فى احداقهم من الخوف كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ اى كنظر المغشى عليه او كدوران عينيه او مشبهين و شبهة بعينيه و ذلك ان من قرب موته و غشيه أسبابه يذهب عقله و يشخص أبصارهم لشدة الخوف فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ قال ابن عباس يعنى نقصوكم و تناولوكم بالنقص و الغيبة و قيل آذوكم و رموكم فى حالة الا من و قال قتادة بسطوا ألسنتهم منكم وقت قسمة الغنيمة يقولون أعطونا قد شهدنا معكم القتال فلستم أحق منا بالغنيمة أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ نصب على الحال او الذم و ليس بتكرير لان كلا منهما مقيد من وجه أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا بقلوبهم فَأَحْبَطَ اللّه أَعْمالَهُمْ يعنى أبطل اللّه أعمالهم يعنى لم يعتد بها لعدم الإخلاص و حسن النية و انما الأعمال بالنيات كذا قال مجاهد وَ كانَ ذلِكَ الإحباط عَلَى اللّه يَسِيراً (١٩) هيّنا لان تعلق الارادة يكفى لوجود كل ممكن لاراد لفعله.

٢٠

يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا اى هؤلاء لجبنهم يظنون ان الأحزاب لم يذهبوا ففروا الى داخل المدينة وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كررة ثانية يَوَدُّوا تمنوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ يعنى لو ثبت انهم خارجون الى البد و يقال بدا يبدا بدوا و بداوة إذا خرج الى البادية فِي الْأَعْرابِ حال من الضمير فى بادون او خبر بعد خبر لان اى كائنون فى الاعراب يَسْئَلُونَ كل قادم من المدينة عَنْ أَنْبائِكُمْ اى عما جرى عليكم جملة يسئلون خبر بعد خبر او حال مترادف او متداخل و جواب لو محذوف يعنى لكان خيرا وَ لَوْ كانُوا يعنى هؤلاء المنافقين فِيكُمْ و لم يفروا من عندكم فى هذه الكرة و كان قتال ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (٢٠) رياء و خوفا من التعيير كذا قال مقاتل.

٢١

لَقَدْ كانَ لَكُمْ ايها المؤمنون فِي رَسُولِ «١» اللّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الاسوة معناه القدوة و هو ما يقتدى به و المراد هاهنا ان لكم فى شان رسول اللّه خصلة حسنة من حقها ان يؤسى بها كالثبات فى الحرب و مقاساة الشدائد- او هو يعنى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لكم قدوة يحسن التأسي به كقولك فى البيضة عشرون منّا حديد اى فى البيضة هذا القدر من الحديد و قيل هو فعلة من الايتساء كالقدوة من الاقتداء اسم وضع موضع المصدر

(١) عن ابن عباس ان عمر أكب على الركن فقال انى لاعلم انك حجر و لو لم ار حبيبى صلى اللّه عليه و سلم قبّلك و استلمك ما استلمتك و لا قبّلتك لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ و عن يعلى بن منبه قال طفت مع عمر فلما كنت عند الركن الذي يلى الباب مما يلى الحجر أخذت بيده ليستلم قال ما طفت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قلت بلى قال فهل رايته يستلمه قلت لا قال فابعد عنك فان لك فى رسول اللّه أسوة حسنة- منه رح.

اى لكم برسول اللّه اقتداء حسن اى تنصرون دين اللّه كما هو ينصر و تصبرون على ما يصيبكم كما هو يصبر كما فعل هو إذ كسرت رباعيته و جرح وجهه و قتل عمه و أوذي بضروب الأذى فواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم ايضا كذلك و استنوا بسنته لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّه وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ اى يرجوا ثواب اللّه و لقائه و نعيم الاخرة كذا قال ابن عباس او ايام اللّه و اليوم الاخر خصوصا و هذا كقولك أرجو زيدا و فضله و قال مقاتل اى يخشى اللّه و يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال و قوله لِمَنْ كانَ صلة لحسنة او صفة لها و قيل بدل من لكم و الأكثر على ان الضمير المخاطب لا يبدل منه وَ ذَكَرَ اللّه كَثِيراً (٢١) فى السراء و الضراء قرن بالرجاء كثرة الذكر المودي الى دوام الطاعة فان المؤسى بالرسول من كان كذلك ..

٢٢

وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللّه وَ رَسُولُهُ بقوله تعالى فى سورة البقرة أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ الى قوله أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّه قَرِيبٌ فان الاية يتضمن ان المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء و لعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أخبرهم بوقعة الأحزاب قبل وقوعه وَ صَدَقَ اللّه وَ رَسُولُهُ فيما اخبر به وَ ما زادَهُمْ تحزب الأحزاب إِلَّا إِيماناً اى تصديقا بما جاء به الرسول عليه السلام وَ تَسْلِيماً (٢٢) لامره و قدره.

٢٣

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ اى قاموا بما عاهدوا رسول اللّه من الثبات معه فى القتال مع اعداء الدين من صدقنى إذا قال لك الصدق فان العاهد إذا و فى بعهده فقد صدق فيه فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ اى فرغ من نذره و وفى بعهده فلم يبق فى ذمته شى ء ما عاهده يعنى صبر على الجهاد و الطاعة حتى استشهد او مات و النحب النذر و النحب ايضا الموت يقال قضى نحبه اى اجله فقتل على الوفاء يعنى حمزة و أشباهه و قيل قضى نحبه اى بذل جهده فى الوفاء بالعهد من قول العرب نحب فلان فى مسيرة يومه و ليلته اجمع وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الفراغ من نذره يرجو ان يموت على الوفاء وَ ما بَدَّلُوا العهد و لا غيروه تَبْدِيلًا (٢٣) شيئا من التبديل روى الشيخان و الترمذي و ابن ابى شيبة و الطيالسي و ابن سعد و البغوي عن انس بن مالك ان انس بن النضر عم انس بن مالك غاب عن بدر فشق عليه و قال أول مشهد شهده رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم غبت عنه لان أشهدني اللّه قتال المشركين ليرين اللّه ما اصنع فلمّا كان يوم أحد و انكشف المسلمون قال انس بن النضر اللّهم انى اعتذر إليك ممّا صنع هؤلاء يعنى أصحابه و ابرا إليك مما فعل هؤلاء يعنى المشركين فانتهى الى رجال من المهاجرين و الأنصار قد القوا ما بايديهم فقال ما يجلسكم قالوا قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم استقبل القوم فلقيه سعد بن معاذ دون أحد فقال سعد انا معك قال سعد فاستقبل انس القوم فلم أستطع ان اصنع ما صنع انس فقال يا سعد (و فى لفظ يا أبا عمرو) ها لريح الجنة و رب النضر إني لاجد ريحها دون أحد ثم تقدم فقاتل حتى قتل فوجدوا فى جسده بضعا و ثمانين ضربة من بين ضربة بسيف و طعنة برمح و رمية بسهم قال انس و وجدنا قد مثل به المشركون فما عرفه أحد منّا الا أخته بشامّة ببنانه فكنا نرى او نظنّ ان هذه نزلت فيه و فى أشباهه رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ- و روى البغوي عن خباب بن الأرت قال هاجرنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فمنا من مضى لم يأكل من اجره شيئا منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم نجد شيئا نكفن فيه الا نمرة فكنا إذا وضعنا على رأسه خرجت رجلاه و إذا وضعنا على رجليه خرج رأسه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ضعوها مما يلى رأسه و اجعلوا على رجليه الاذخر و منا من انبعث له ثمرته فهو يهديها- و روى الترمذي عن جابر بن عبد اللّه قال نظر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى طلحة بن عبيد اللّه فقال من أحب ان ينظر الى رجل يمشى على وجه الأرض و قد قضى نحبه «١» فلينظر الى هذا-

(١) عن عيسى بن طلحة قال دخلت على عائشة أم المؤمنين و عائشة بنت طلحة و هى تقول لاسماء بنت ابى بكر انا خير منك و ابى خير من أبيك فجعلت اسماء تشمها و تقول أنت خير منى فقالت عائشة الا أقضي بينكما قالتا بلى قال فان أبا بكر دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال أنت عتيق من النار قالت فمن يومئذ سمّى عتيقا ثم دخل طلحة فقال أنت يا طلحة ممن قضى نحبه-

و اخرج الترمذي عن معاوية قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول طلحة ممن قضى نحبه- منه رحمه اللّه-.

و روى البخاري عن قيس بن حازم قال رايت يد طلحة شلاء وقى بها النبىّ صلى اللّه عليه و سلم يوم أحد- و روى الترمذي و ابن حبان و الحاكم و غيرهم من حديث الزبير مرفوعا أوجب طلحة.

٢٤

لِيَجْزِيَ اللّه الصَّادِقِينَ فى العهود بِصِدْقِهِمْ اى جزاء صدقهم او بسبب صدقهم و هو الوفاء بالعهد وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ ان يموتوا على الكفر و النفاق فيعذبهم أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ان تابوا و أخلصوا دينهم للّه قوله لِيَجْزِيَ متعلق بقوله صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّه تعليل للمنطوق و المعرض به كانّ المنافقين قصدوا بالتبديل التعذيب كما قصد المخلصون بالوفاء الثواب إِنَّ اللّه كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) لمن تاب.

٢٥

وَ رَدَّ اللّه الَّذِينَ كَفَرُوا اى الأحزاب من قريش و غطفان بِغَيْظِهِمْ اى كائنين بغيظهم متغيظين لعدم نيلهم بما أرادوا لَمْ يَنالُوا خَيْراً اى ظفرا و لا مالا حال بعد حال يتداخل او يعاقب وَ كَفَى اللّه الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح و الملئكة وَ كانَ اللّه قَوِيًّا فى ملكه على احداث ما يريده عَزِيزاً (٢٥) فى انتقامه.

٢٦

وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ اى عاونوا الأحزاب من قريش و غطفان على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ و هم بنوا قريظة مِنْ صَياصِيهِمْ اى من حصونهم جمع صيصة و هى ما يحصن به و لذلك يقال لقرن الثور و الظبى و شوكة الديك و الحائك صئصة وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ اى الخوف فَرِيقاً تَقْتُلُونَ و هم الرجال فعند ابن إسحاق انهم كانوا ست مائة و به جزم ابو عمرو فى ترجمة سعد بن معاذ و عند ابن عائذ من مرسل قتادة كانوا سبع مائة و قال السهيلي المكثر يقول انهم ما بين ثمان مائة الى تسع مائة و فى حديث جابر عند الترمذي و النسائي و ابن حبان بإسناد صحيح انهم كانوا اربع مائة مقاتل فيحتمل فى طريق الجمع ان يقال ان الباقين كانوا اتباعا و قد حكى ابن إسحاق انه قيل انهم كانوا تسع مائة وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) و هم النساء و الذراري و كانوا سبع مائة و خمسين و قيل تسع مائة و ذكر فى سبيل الرشاد ان السبي كان الفا من النساء و الصبيان.

٢٧

وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ مزارعهم وَ دِيارَهُمْ حصونهم وَ أَمْوالَهُمْ من النقود و الأجناس و المواشي وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بعد قال مقاتل و ابن زيد يعنى خيبر و قال قتادة كنا نحدث انها مكة و قال الحسن فارس و الروم و قال عكرمة كل ارض يفتح الى يوم القيامة وَ كانَ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (٢٧) فيقدر على ذلك (قصة غزوة بنى قريظة) قال محمد بن عمر عن شيوخه لما انصرف المشركون عن الخندق خاف بنوا قريظة خوفا شديدا و روى احمد و الشيخان مختصرا و البيهقي و الحاكم و صححه مطولا عن عائشة و ابو نعيم و البيهقي من وجه اخر عنها و ابن عابد عن حميد بن هلال و ابن جرير عن ابن ابى اوفى و البيهقي عن عروة و ابن سعد عن الماجشون و عن يزيد بن الأصم و محمد بن عمر عن شيوخه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و المسلمين لمّا رجعوا عن الخندق مجهودين وضعوا السلاح و دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بيت عائشة و دعا بماء فاخذ يغسل رأسه و ذكر البغوي انه صلى اللّه عليه و سلم كان عند زينب بنت جحش و هى تغسل رأسه و قد غسلت شقه- قالت عائشة فسلّم علينا رجل و نحن فى البيت قال محمد بن عمر وقف موضع الجنائز فنادى عذيرك «١» من محارب فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فزعا فوثب وثبة شديدة فخرج اليه فقمت فى اثره انظر من خلل الباب فاذا هو دحية الكلبي فيما كنت ارى و هو ينفض الغبار عن رأسه (فقال ابن إسحاق معتجرا بعمامة) «الاعتجار لف العمامة دون التلحي- منه رح» فقال يا رسول اللّه ما اسرع ما حللتم عذيرك من محارب عفا اللّه عنك قد وضعتم السلاح ما وضعت الملئكة منذ نزل بك العدوّ و فى لفظ منذ أربعين ليلة و ما رجعنا الان الا من طلب القوم حتى بلغنا حمراء الأسد يعنى الأحزاب و قد هزمهم ان اللّه يأمرك بقتال بنى قريظة و انا عامد إليهم بمن معى من الملائكة لا زلزل بهم الحصون فاخرج بالناس- قال حميد بن هلال فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان فى أصحابي جهدا فلو انظرتهم أياما فقال انتهض إليهم فو اللّه لادقنهم كدق البيض على الصفا «الحجارة- منه رح» ثم لاضغضفنّها- «اى لاحركن- منه رح» قالت عائشة فلمّا دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قلت من ذاك الرجل الذي كنت تكلمه قال و رايته قلت نعم قال بمن تشبهينه قلت بدحية الكلبي قال ذاك جبرئيل أمرني ان امضى الى بنى قريظة- قال حميد فادبر جبرئيل و من معه من الملائكة حتى سطع الغبار فى زقاق بنى غنم من الأنصار قال انس فيما رواه البخاري كانّى انظر الى الغبار ساطعا و قال قتادة فيما رواه ابن عابدان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعث يومئذ مناديا ينادى «يعنى يار كبان خيل اركبوا- منه رح» يا خيل اللّه اركبي و امر بلالا فاذّن

(١) يعنى هات من يعذرك فعيل بمعنى الفاعل- منه رح.

فى الناس من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر الا ببني قريظة- و روى الشيخان عن ابن عمر و البيهقي عن عائشة و ابن عقبة و الطبراني عن كعب بن مالك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لاصحابه عزمت عليكم ان لا تصلوا صلوة العصر- و وقع فى مسلم فى حديث ابن عمر صلوة الظهر الا ببني قريظة فادرك بعضهم صلوة العصر و فى لفظ صلوة الظهر فى الطريق فقال بعضهم لا نصليها حتى نأتى بنى قريظة انا لفى عزيمة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ما علينا من اثم فصلوا العصر ببني قريظة حين وصلوها بعد غروب الشمس و قال بعضهم بل نصلى لم يرد منا ان ندع الصلاة فصلوا فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلم يعنف واحدا من الفريقين.

(فائدة) وجه الجمع بين حديث صلوة الظهر و صلوة العصر ان طائفة منهم راحت بعد طائفة قيل للطائفة الاولى لا يصلين الظهر الا ببني قريظة و قيل للطائفة الاخرى لا يصلين العصر- و قيل فى وجه الجمع انه صلى اللّه عليه و سلم قال لاهل القوة او لمن كان منزله قريبا لا يصلين أحد الظهر و قال لغيرهم أحد العصر.

(مسئلة) هذا الحديث يدل على ان المجتهد لا اثم عليه ان اخطأ حيث لم يعنف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على أحد من الفريقين من صلّى فى الطريق و من لم يصل- قال فى زاد المعاد ما حاصله ان كلّا من الفريقين مأجور بقصده الا ان من صلّى فى الطريق جاز الفضيلتين فضيلة امتثال الأمر فى الاسراع فى المشي الى بنى قريظة لان المراد بامره صلى اللّه عليه و سلم- ان لا يصلوا الا فى بنى قريظة المبالغة فى الاسراع مجازا و فضيلة امتثال الأمر فى المحافظة على الوقت و اللّه اعلم.

و دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم علىّ بن ابى طالب فدفع اليه لواءه و كان اللواء على حاله لم يحل عن مرجعه من الخندق فابتدره الناس- «اى سارعوا اليه- منه رح» قال محمد بن عمرو بن سعد و ابن هشام و البلاذري استعمل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على المدينة ابن أم مكتوم قال محمد بن عمرو خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لسبع يقين من ذى القعدة

قال البغوي سنة خمس من الهجرة و لبس السلاح و الدرع و المغفر و البيضة و أخذ قناه «الرمح- منه رح» بيده و تقلد الترس و ركب فرسه اللحيف و حف به أصحابه قد لبسوا السلاح و ركبوا الخيل و كانت ستة و ثلاثين فرسا فسار فى أصحابه و الخيل و الرجال حوله قال ابن سعد و كان معه ثلاثة آلاف.

(مسئلة) هذه القصة تدل على جواز البداية بالقتال فى الشهر الحرام لكن خطبته صلى اللّه عليه و سلم فى حجة الوداع و فيها المنع من القتال فى الأشهر الحرم متاخر عنه و لعل اللّه سبحانه أحل لرسوله ذلك القتال فى أشهر الحرم كما أباح له القتال فى حرم مكة ساعة من النهار عام الفتح- و يمكن ان يقال ان هذا ليس بداية بالقتال بل كانت البداية من بنى قريظة حيث ظاهروا قريشا و من معهم و اللّه اعلم روى الطبراني عن ابى رافع و ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما اتى بنى قريظة ركب على حمار عرى يقال له يعفور و الناس حوله- و روى الحاكم و البيهقي و ابو نعيم عن عائشة و محمد بن عمرو عن شيوخه و ابن إسحاق ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مرّ بنفر من بنى النجار بالصّورين «١» فيهم حارثة بن النعمان قد صفوا عليهم السلاح فقال هل مرّ بكم أحد قالوا نعم دحية الكلبي مرّ على بغلة عليها رحاله عليها من إستبرق و أمرنا بحمل السلاح فاخذنا سلاحنا فصففنا و قال هذا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يطلع عليكم الان قال حارثة بن النعمان و كنا صفين فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذاك جبرئيل بعث الى بنى قريظة لتزلزل بهم حصونهم و يقذف الرعب فى قلوبهم و سبق على بن ابى طالب فى نفر من المهاجرين و الأنصار و فيهم ابو قتادة روى محمد بن عمر عن ابى قتادة قال انتهينا الى بنى قريظة فلمّا راينا أيقنوا بالشر و غرز علىّ الراية عند اصل الحصن فاستقبلونا فى صياصيهم يشتمون رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أزواجه قال ابو قتادة و سكتنا و

قلنا السيف بيننا و بينكم و انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و نزل قريبا من حصنهم على بئرانا «٢» بأسفل حرّة «ارض ذات حجارة- منه رح» بنى قريظة فلمّا راه على رضى اللّه عنه رجع اليه و أمرني ان الزم اللواء فلزمته و كره ان يسمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اذاهم و شتمهم فقال يا رسول اللّه لا عليك ان لا تدنوا من هؤلاء الاخابيث فقال أ تأمرني بالرجوع فقال أظنك سمعت منهم أذى قال نعم فقال لوراونى لم يقولوا من ذلك شيئا- فسار

(١) تثنية صور بالفتح ثم السكون اسم للنخل المجتمع الصغار و موضع فى أقصى بقيع الغرقد مما على طريق بنى قوينمة ١٢ منه رحمه اللّه.

(٢) بالضم و تخفيف النون و قيل بالفتح و التشديد كحتى- منه رح.

رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و تقدّمه أسيد بن حضير فقال يا اعداء اللّه لا نبرح عن حصونكم حتى تموتوا جوعا انما أنتم بمنزلة ثعلب فى جحر فقالوا يا ابن الحضير نحن مواليك دون الخزرج فقال لا عهد بينى و بينكم و لا إلّ و دنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ترسنا عنه و نادى بأعلى صوته نفرا من اشرافهم حتى أسمعهم فقال أجيبوا يا اخوة القردة و الخنازير و عبدة الطاغوت هل أخزاكم اللّه انزل بكم نقمته أ تشتموني فجعلوا يحلفون ما فعلنا و يقولون يا أبا القاسم ما كنت جهولا و فى لفظ ما كنت فاحشا و اجتمع المسلمون عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عشاء و بعث سعد بن عبادة بأحمال تمر لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فكان طعامهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نعم الطعام التمر-

و غدا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سحرا و قدّم الرماة فاحاطوا بحصون يهود و راموهم بالنبل و الحجارة و هم يرمون من حصونهم حتى امسوا فباتوا حول الحصون و جعل المسلمون يعتقبون يعقب بعضهم بعضا فما برح رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم براميهم حتى أيقنوا الهلكة و تركوا رمى المسلمين فقالوا دعونا نكلمكم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نعم فانزلوا نباش بن قيس فكلّم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على ان ينزلوا على ما نزلت عليه بنوا النضير من الأموال و الحلقة و نخرج من بلادك بالنساء و الذراري و لنا ما حملت الإبل الا الحلقة فابى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا تحقن دماءنا و تسلم لنا النساء و الذرية و لا حاجة لنا فيما حملت الإبل فابى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الا ان ينزلوا على حكمه- و عاد نباش إليهم بذلك فلمّا عاد نباش الى قومه و أخبرهم الخبر قال كعب بن اسد يا معشر بنى قريظة و اللّه قد نزل بكم ما ترون و انى اعرض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا ما شئتم منها قالوا و ما هى قال نبائع هذا الرجل و نصدقه فو اللّه لقد تبين لكم انه نبى مرسل و انه الذي تجدونه فى كتابكم فتامنون به على دمائكم و أموالكم و نسائكم و اللّه انكم لتعلمون ان محمدا نبى و ما منعنا معه من الدخول الا الحسد للعرب حيث لم يكن نبيّا من بنى إسرائيل فهو حيث جعله اللّه تعالى- و لقد كنت كارها لنقض العهد و العقد و لكن البلاء و الشوم من هذا الجالس يعنى حيى بن اخطب

(و كان حيى دخل معهم فى حصنهم حين رجعت منهم قريش و غطفان وفاء لكعب بن اسد بما كان عاهده عليه) أ تذكرون ما قال لكم ابن جوّاس حين عليكم تركت الخمر و الحمير و التأمير و حنت الى الشفاء و التمر و الشعير قالوا و ما ذاك- قال انه يخرج بهذه القرية نبى فان يخرج و انا حى اتبعه و انصره و ان خرج بعدي فاياكم ان تخدعوا عنه فاتبعوه و كونوا أنصاره و أولياءه و قد أمنتم بالكتابين كلاهما الاول و الاخر و اقرءوه منى السّلام و اخبروه انى مصدق به- قال فتعالوا فلنبايعه و لنصدقه فقالوا لا نفارق حكم التورية ابدا و لا نستبدل به غيره- قال فاذا أبيتم على هذه فلنقتل أبناءنا و نساءنا ثم نخرج الى محمد و أصحابه مصلّتين بالسيوف لم نترك ثقلا حتى يحكم اللّه بيننا و بين محمد فان نهلك نهلك و لم نترك ورائنا فصلا نخشى عليه و ان نظهر فلعمرى لنجدن النساء و الأبناء قالوا لا نقتل هؤلاء المساكين فما خير فى العيش بعدهم- قال فان أبيتم عن هذه فان الليلة ليلة السبت و انه عسى محمد و أصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا نصيب من محمد و أصحابه غرة «غفلة- منه رح» قالوا نفسد سبتنا و نحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان من قبلنا الا من قد علمت فاصابه ما لم يخف عليك من المسخ- فقال ما بات منكم منذ ولدته امه ليلة واحدة من الدهر جازما-

فقال ثعلبة و أسيد ابنا سعية و اسد بن عبيد ابن عمهم و هم نفر من هذيل ليسوا من بنى قريظة و لا النضير نسبهم فوق ذلك و هو بنوا عم القوم يا معشر بنوا قريظة و اللّه انكم لتعلمون انه رسول اللّه و ان صفته عندنا حدثنا بها علماؤنا و علماء بنى النضير هذا أولهم يعنى حيى بن اخطب مع خبر بن الهيّان اصدق الناس عندنا هو اخبر بصفته عند موته قالوا لا نفارق التورية فلما راى هؤلاء النفر آباءهم نزلوا تلك الليلة فى صبحها فاسلموا و أمنوا على أنفسهم و أهليهم و أموالهم- و قال عمرو بن سعد يا معشر يهود انكم خالفتم محمدا على ما خالفتموه عليه فنقضتم عهده الذي كان بينكم و بينه و لم ادخل فيه و لم اشرككم فى غدركم فان أبيتم فاثبتوا على اليهودية و اعطوا الجزية فو اللّه ما أدرى يقبلها أم لا قالوا فنحن لا نقر للعرب «خرج و خراج ما يؤذى كلّ سنة- منه رح» بخرج فى رقابنا يأخذونه القتل خير من ذلك قال فانى برئ منكم و خرج تلك الليلة مع ابني سعية فمرّ بحرس رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و عليهم محمد بن سمة فقال محمد من هذا قال عمرو بن سعد قال محمد اللّهم لا تحرمنى عشرة الكرام و خلّى سبيله فخرج حتّى اتى مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فبات حتى أصبح فلمّا أصبح غدا فلم يدر اين هو حتى الساعة فسئل عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال ذاك رجل نجاه اللّه بوفائه.

قال اهل المغازي ثم انهم بعثوا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان ابعث إلينا أبا لبابة (أحد بنى عمرو بن عوف و كانوا حلفاء الأوس) نستشير فى أمورنا فارسله رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إليهم فلما راوا قام اليه الرجال و جهش «اى اسرع متباليا ١٦ منه رح» اليه النساء و الصبيان يبكون فى وجهه فرقّ لهم فقالوا يا أبا لبابة أ ترى ان ننزل على حكم محمد قال نعم و أشار بيده الى حلقه انه الذبح- قال ابو لبابة فو اللّه ما زالت قدماى حتى عرفت انى خنت اللّه و رسوله ثم انطلق ابو لبابة على وجهه و لم يأت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى ارتبط فى المسجد على عمود من عمده و قال لا أبرح من مكانى حتى أموت او يتوب اللّه على ما صنعت و عاهدتّ اللّه ان لا أطأ ارض بنى قريظة ابدا و لا ارى فى بلد خنت اللّه و رسوله فيه ابدا و بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذهابى و ما صنعت فقال دعوه حتى يحدث اللّه فيه ما شاء لو كان جاءنى استغفرت فاذا لم يأتنى و ذهب فدعوه و انزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّه وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قال ابو لبابة ثم ان اللّه انزل توبة ابى لبابة على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو فى بيت أم سلمة قالت أم سلمة فسمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يضحك فقلت بم تضحك يا رسول اللّه اضحك اللّه سنك قال تيب على ابى لبابة فقلت الا أبشره بذلك قال بلى ان شئت قالت فقمت الى باب حجرتى (و ذلك قبل ان يضرب عليهن الحجاب) فقلت يا أبا لبابة ابشر فقد تاب اللّه عليك فثار «اى قاموا- منه رح» الناس ليطلقوه قال لا و اللّه حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هو الذي يطلقنى بيده فلمّا مرّ عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خارجا الى الصبح أطلقه- روى حماد بن سلمة عن علىّ بن زيد بن جدعان عن على بن الحسين عليهما السلام ان فاطمة عليها السلام جاءت تحله فقال انى حلفت ان لا تحلني الا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان فاطمة بضعة منى- على بن جدعان ضعيف و رواية على بن الحسين مرسلة قال ابو لبابة و اذكر رؤيا رايتها فى النوم و نحن محاصرون بنى قريظة كانى فى حماة «طين اسود متغيرة- منه رح» أسنة فلم اخرج منها حتى كدتّ أموت من ريحها ثم ارى نهرا جاريا فارانى اغتسلت فيه حتى استقيت و أراني أجد ريحا طيبا فاستعبرتها أبا بكر فقال لتدخلن فى امر تغتم له ثم يفرج عنك فكنت اذكر قول ابى بكر و انا مرتبط فارجو ان ينزل اللّه توبتى- قال فلم ازل كذلك حتى ما اسمع الصوت من الجهد و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ينظر قال ابن هشام اقام مرتبطا ست ليال تأتيه امرأته وقت كل صلوة فتحله حتى يتوضأ و يصلى ثم ترتبط-

قال ابن عقبة زعموا انه ارتبط قريبا من عشرين ليلة قال فى البداية و هذا أشبه الأقاويل و قال ابن إسحاق اقام مرتبطا خمسا و عشرين ليلة و كانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة او أراد ان يذهب لحاجته فاذا فرغ أعادت الرباط و الظاهر ان زوجته تحله مرة و ابنته اخرى و انزل اللّه فى توبة ابى لبابة وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّه أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ-

قال البغوي و حاصرهم خمسا و عشرين ليلة حتى جهدهم الحصار و قذف اللّه فى قلوبهم الرعب فلما جهدهم الحصار نزلوا على حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فامر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فكتفوا رباطا و جعل على كتافهم محمد بن سلمة و نحوا ناحية

و اخرج النساء و الذرية من الحصون و استعمل عليهم عبد اللّه بن سلام و جمعت أمتعتهم و وجدوا فيها الفا و خمس مائة سيف و ثلاث دروع و الفى رمح و الفا و خمس مائة ترس و جحفة و أثاثا كثيرا و آنية كثيرة و خمرا و سكرا فهريق ذلك كله و لم يخمسه و وجد من الجمال النواضح عدة و من الماشية شيئا كثيرا فجمع هذا كله و تنحى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و جلس- و دنت الأوس الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا يا رسول اللّه حلفاؤنا دون الخزرج و قد رأيت ما صنعت ببني قينقاع بالأمس حلفاء ابن أبيّ وهبت لهم ثلاث مائة حاسر «من لا وزع له منه رح» و اربع مائة دارع «صاحب درع- منه رح» و قد ندم حلفاءنا على ما كان من نقضهم العهد فهبهم لنا و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ساكت لم يكلم حتى أكثروا عليه و ألحّوا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اما ترضون ان يكون الحكم فيهم الى رجل منكم قالوا بلى قال فذلك الى سعد بن معاذ و قال ابن عقبة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اختاروا من شئتم من أصحابي فاختاروا سعد بن معاذ- و كان سعد بن معاذ قد جعله رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى خيمة امراة من المسلمين يقال لها رفيدة فى مسجده صلى اللّه عليه و سلم و كانت تداوى الجرحى و تحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة «١» الذي ليس له من يقوم بامره و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق اجعلوه فى خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب- فلمّا جعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الحكم الى سعد خرجت الأوس حتى جاءوه فحملوه على حمار عربى بشنذة «٢» من ليف و على الحمار قطيفة فوق الشنذة و خطامه «الخطام ما يقاد به الدابة- منه رح» من ليف و كان رجلا جسيما فخرجوا حوله يقولون يا أبا عمرو ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد ولّاك امر مواليك لتحسن فيهم فاحسن فيهم فقد رايت ابن أبيّ و ما صنع فى حلفائه و أكثروا و هو ساكت لا يتكلم حتّى إذا أكثروا عليه قال قد ان «بالفتح و المد و نا و قرب- منه رح» لسعدان لا يأخذه فى اللّه لومة لائم فقال الضحاك بن خليفة بن ثعلبة الأنصاري وا قوماه و قال غيره نحو ذلك ثم رجع الضحاك الى الأوس فنعى بهم رجال بنى قريظة قبل ان يصل إليهم سعد كلمته التي سمع منه- و فى الصحيحين فلما دنا سعد من المسجد اى الذي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أعده فى بنى قريظة ايام حصارهم للصلوة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قوموا الى سيدكم و فى لفظ الى خيركم فاما المهاجرون من قريش فيقولون انما أراد الأنصار و اما الأنصار فيقولون عم بها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المسلمين و عند احمد قوموا الى سيدكم فانزلوه و كان رجال من بنى عبد الأشهل يقولون قمنا له على أرجلنا صفين و فى حديث جابر عند ابن عائذ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم احكم فيهم يا سعد فقال اللّه و رسوله أحق بالحكم قال عليه السلام أمرك اللّه ان تحكم فيهم- و قالت الأوس الذين بقوا عنده يا أبا عمرو ان رسول اللّه قد ولاك الحكم فى امر مواليك فاحسن فيهم فقال سعد أ ترضون حكمى لبنى قريظة قالوا نعم قد رضينا بحكمك و أنت غائب اختيارا منا لك و رجاء ان تمنّ علينا كما فعل غيرك بحلفائه بنى قينقاع و اثرنا عندك اثرنا و أحوج ما كان اليوم الى مجازاتك فقال سعد ما أتوكم جهدا فقالوا ما يعنى بقوله هذا ثم قال سعد عليكم عهد اللّه و ميثاقه ان احكم

(١) الضيعة ترك وضيع مصدر ضاع الشي ء صيعا اى تركتهم الضائع الذي ليس له من يقوم بامره ١٢ منه رح.

(٢) بشين معجمة فنون فذال مفتوحات شبه الا كاف يجعل لمقدمته اعوجاج ١٢ منه رحمه اللّه.

فيهم ما حكمت قالوا نعم قال سعد و على من هاهنا للناحية التي فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو معرض عنها إجلالا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نعم قال سعد فانى احكم فيهم ان يقتل كل من جرين عليه الموسى و تسبى النساء و الذرية و تقسم أموالهم و يكون الديار للمهاجرين و الأنصار- فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لقد حكمت فيهم بحكم اللّه من فوق سبعة «السموات قال اى الأعز اتى سموما بالرقيع لانها مرقومة بالنجوم منه رح» ارقعة- و فى رواية قال عليه السلام بذلك طرقنى الملك سحرا- و كان سعد بن معاذ فى الليلة التي فى صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد دعا اللّهم ان كنت أبقيت من حرب قريش فابقنى لها فانى لا قوم احبّ الىّ ان أقاتلهم من قوم كذبوا رسولك و آذوه و أخرجوه و ان كانت الحرب قد وضعت أوزارها عنّا و عنهم فاجعله لى شهادة و لا تمتنى حتى تقر عينى من بنى قريظة فاقر اللّه سبحانه عينيه منهم.

فانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم الخميس لتسع ليال و قيل لخمس خلون من ذى الحجة و امر بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فحبسوا فى دار رملة بنت الحارث من بنى النجار- فلمّا أصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم غدا الى سوق المدينة التي هى سوقها اليوم فامر بأخدود فخذت فى السوق ما بين موضع دار ابى الجهم العدوى الى أحجار الزيت بالسوق فكان أصحابه يحضرون و جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و معه أصحابه و دعا برجال بنى قريظة فكانوا يخرجون يضرب أعناقهم فى تلك الخنادق فقالوا لكعب بن اسد و هم يذهب بهم الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إرسالا يا كعب ما ترى محمدا يصنع بنا قال ما يسوءكم ويلكم على كل حال لا تعقلون الا ترون الداعي لا ينزع و انه من ذهب منكم لا يرجع هو و اللّه السيف قد دعوتكم الى غير هذا فابيتم قالوا ليس هذا بحين عتاب لو لا انا كرهنا ان نرمى برأيك ما دخلنا فى نقض العهد الذي كان بيننا و بين محمد قال حيى بن اخطب اتركوا التلاوم فانه لا يرد عنكم شيئا و اصبروا للسيف و كان الذي قتلهم على بن ابى طالب و الزبير بن العوام رضى اللّه عنهما ثم اتى حيى بن اخطب مجموعة يداه الى عنقه عليه حلة فقاحية قد لبسها للقتل ثم عمد إليها فشقها انملة انملة لئلا يسلبه إياها أحد فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين اطلع الم يمكنى اللّه منك يا عدو اللّه قال بلى و اللّه انا ما لمت نفسى فى عداوتك و قد التمست العز فى مظانة فابى اللّه الا ان يمكنك منى و لقد قلقلت «حركت- منه رح» كل مقلقل و لكنه من يخذل اللّه يخذل ثم اقبل على الناس فقال ايها الناس لا بأس بامر اللّه كتاب اللّه و قدره ملجمة «القتل و موضعه- منه رح» على بنى إسرائيل ثم جلس فضرب عنقه- فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أحسنوا أساراهم و أقيلوهم و اسقوهم حتى يبردوا فاقتلوا من بقي لا تجمعوا عليهم حر الشمس و حر السيف و كان يوما صائفا فقيلوهم و سقوهم فلمّا أبرد و أراح رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقتل من بقي و اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بكعب بن اسد فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما تنفعتم بنصح ابن جوّاس لكم و كان مصدقا بي اما أمركم باتباعى و ان رايتمونى ان تقرءونى منه السلام قال بلى و التورية يا أبا القاسم و لو لا ان يعيرنى اليهود بالجزع من السيف لاتبعتك و لكنه على دين يهود قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قدمه فاضرب عنقه و امر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بقتل كل من أنبت منه روى احمد و اصحاب السنن عن عطية القرظي قال كنت غلاما فوجدونى لم أنبت فخلّوا سبيلى و روى الطبراني عن اسلم الأنصاري قال جعلنى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على أسارى بنى قريظة فكنت انظر الى فرج الغلام فان رايته أنبت ضربت عنقه و ان لم أره جعلته فى مغانم المسلمين و كان رفاعة بن شمول القرظي رجلا قد بلغ فلاذ بسلمى بنت قيس أم المنذر اخت سليط بن قيس و كانت احدى خالات النبي صلى اللّه عليه و سلم يعنى خالة جده عبد المطلب فان امه كانت من بنى النجار و كانت سلمى قد صلّت للقبلتين فقالت يا نبى اللّه بابى أنت و أمي هب لى رفاعة فانه زعم سيصلّى و يأكل لحم الجمل فوهبه لها فاستحيته فاسلم بعد و لم تزل ذلك الداب حتى قتلوا الى ان غاب الشفق ثم رد عليهم التراب فى الخندق كل ذلك بعين سعد بن معاذ فاستجاب اللّه دعوته رضى اللّه عنه- و لم يقتل من نسائهم الا امرأة واحدة من بنى النضير يقال لها بنانة كانت تحت رجل من بنى قريظة يقال له الحكم و كان يحبها و تحبه فلما اشتد عليهم الحصار بكت اليه و قالت انك لمفارقى فقال هو و التورية ما ترين و أنت امرأة فدلّى عليهم هذه الرحى فانا لم نقتل منهم أحدا بعد و أنت امرأة و ان يظهر محمد علينا فانه لا يقتل النساء و انما اكره ان تسبى فاحبّ ان تقتل و كانت فى حصن الزبير بن باطا فدلّت الرحى من فوق الحصن و كان المسلمون ربما جلسوا تحت الحصن يستظلون فى فيئة فلمّا راها القوم انفضوا و تدرك خلاد بن سويد فتشدخ رأسه و مات- روى عروة عن عائشة انها قالت و اللّه انها لعندى تحدث و تضحك ظهرا لبطن و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقتل رجالهم بالسيوف و فى رواية و هى تقول سراة بنى قريظة يقتلون إذ هتف هاتف باسمها اين فلانة قالت انا و اللّه قلت ويلك مالك قالت اقتل قلت لم قالت حدث أحدثته قالت فانطلقت فضرب عنقها بخلاد بن سويد و كانت عائشة تقول لا انسى طيب نفس بنانة كثرة ضحكها و قد عرفت انها تقتل.

(مسئلة) هذا الحديث حجة لمن حكم بالقصاص على القتل بالمثقل و عليه الجمهور و قال ابو حنيفة لا قصاص بالمثقل و لو رماه بابا قبيس لقوله صلى اللّه عليه و سلم لا تود فى النفس و غيره الا بحديدة و قد مرّ الخلاف فى هذه المسألة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ- و روى محمد بن إسحاق عن الزهري ان الزبير بن باطا القرظي و كان يكنى أبا عبد الرحمن قدم على ثابت بن قيس بن شماس فى الجاهلية يوم بعاث لاخذه فجر ناصية ثم خلّى سبيله فجاءه يوم قريظة و هو شيخ كبير فقال ثابت يا أبا عبد الرحمان هل تعرفنى قال و هل يجهل مثلى لمثلك قال انى أريد ان أجزيك بيدك عندى قال ان الكريم يجزى قال ثم اتى ثابت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه قد كان للزبير عندى يد و له على منة فاحببت ان أجزيه بها فهب لى دمه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هو لك فاتاه فقال له ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد وهب لى دمك قال شيخ كبير لا اهل له و لا ولد فما يصنع بالحياة فاتى ثابت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه اهله و ولده قال فهم لك فاتاه فقال له ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أعطاني امرأتك و ولدك فهم لك قال اهل بيت فى الحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك فاتى ثابت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال ما له يا رسول اللّه قال هو لك فقال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أعطاني مالك فهو لك- فقال اى ثابت ما فعل الذي كان وجهه مراة صينية «منسوبة الى الصين- منه رح» حسنة يتراى فيه عذار الحي كعب بن اسد قال قتل قال فما فعل سيد الحاضر و البادي سيد الحيّين كليهما يحملهم فى الحرب و يطعهم فى المحل حيى بن اخطب قال قتل قال فما فعل «مقدمته الحرب ادلة- منه رح» مقدمتنا إذا شددنا و حاشيتنا إذا كررنا عزّالة بن شمول قال قتل- قال فما فعل المجلسان يعنى بنى كعب بن قريظة و بنى عمرو ابن قريظة قال ذهبوا فقتلوا- قال فانى أسئلك بيدي عندك يا ثابت الا ما ألحقتني بالقوم فو اللّه ما فى العيش بعد هؤلاء من خير ارجع الى دار قد كانوا حلولا فيها فاخلد فيها بعدهم لا حاجة لى فى ذلك و لكنى يا ثابت انظر الى امراتى و ولدي فاطلب الى صاحبك فيهم ان يطلقوا و ان يردوا أموالهم فطلب ثابت من النبي صلى اللّه عليه و سلم اهل الزبير و ماله و ولده فرد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اهله و ماله الا السلاح- قال الزبير يا ثابت أسئلك بيدك عندى الا ألحقتني بالقوم فما انا بصابر للّه فتلة «١» دلو ناضح حتى القى الا حبة- قال ابن إسحاق فقدمه ثابت فضرب عنقه و قال محمد بن عمر قال ثابت ما كنت لا قتلك قال الزبير لا أبالي من قتلنى فقتله الزبير بن العوام رضى اللّه عنه- و لمّا بلغ أبا بكر الصديق رضى اللّه عنه قوله" القى الاحبة" قال يلقاهم فى نار جهنم خالدا مخلدا.

(١) فتلة دلو ناضح قال ابن إسحاق بالفاء و التاء الفوقانية اى مقدار ما يأخذ الرجل الدلو الذي خرجت من البئر فيصبها فى الحوض ثم يفتلها اى يردها الى موضعها- و قال ابن هشام انما هو بالقاف و الموحدة و قال بل الدلو هو الذي يأخذها من المستقى- و لفظ الخبر عند ابى عبيد فلست صابرا عنهم افراغه دلوا- ١٢ منه نور اللّه مرقده-.

ثم قسم اموال بنى قريظة و نساءهم و أموالهم على المسلمين و كان أول فئى وقع فيه السهمان و كان المسلمون ثلاثة آلاف و الخيل ستة و ثلاثين و كان سهمان الخيل و الرجال على ثلاثة آلاف و اثنين و سبعين سهما للفرس سهمان و لصاحبه سهم و قاد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلاثة افرس فلم يضرب السهم الا لفرس واحد- و هذا حجة لابى حنيفة و مالك و الشافعي حيث قالوا لا سهم الا لفرس واحد و قال ابو يوسف و محمد و احمد يسهم لفرسين و لا يسهم لاكثر من ذلك اجماعا و قد مرّ المسألة فى سورة الأنفال- و أسهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لخلاد بن سويد و قد قتل تحت الحصن و أسهم لسنان بن محصن و مات و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم محاصرهم و كان يقاتل مع المسلمين- و هذا حجة للائمة الثلاثة حيث قالوا الغنيمة لمن شهد الوقعة و ان مات قبل هزيمة الكفار و إحراز الغنيمة بدار الإسلام و قد روى ابن ابى شيبة بسند صحيح الغنيمة لمن شهد الوقعة موقوفا على عمر و أخرجه الطبراني مرفوعا و موقوفا و الموقوف أصح و روى الشافعي موقوفا على ابى بكر و فيه انقطاع و قال ابو حنيفة لا يتاكد الحق فى الغنيمة الا بالاحراز بدار الإسلام فمن مات او قتل قبل الاحراز لا سهم له و لا يورث منه- و المدد إذ الحق بدار الحرب بعد الوقعة قبل الاحراز بدار الإسلام يسهم لهم و قد مر مسئلة المدد فى سورة الأنفال.

(مسئلة) و فى هذه القصة حجة للجمهور على ابى حنيفة حيث قالوا للفارس ثلاثة أسهم سهم له و سهمان لفرسه و قال ابو حنيفة سهم له و سهم لفرسه و قد مرّ المسألة فى سورة الأنفال و اللّه اعلم.

(فائدة) أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من السبي خمسا فكان يعتق و يهب منه من أراد و كذلك النخل عزل خمسه و كل ذلك يسهم عليه خمسة اجزاء و صار الخمس الى محمية بن جز الزبيدي ثم قسم اربعة أخماس على الناس و اعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم النساء اللاتي حضرن القتال و لم يسهم لهن و هن صفية بنت عبد المطلب و أم عمارة نسية و أم سليط و أم العلاء الانصارية و السميرى بنت قيس و أم سعد بن معاذ و كبشة بنت رافع- و بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم طائفة مع السبايا مع سعد بن عبادة يشترى بهم سلاحا و خيلا كذا قال محمد بن عمر و قال ابن إسحاق بعث سعد بن زيد الأنصاري الأشهلي بسبايا من بنى قريظة فابتاع لهم بها خيلا و سلاحا- و اشترى عثمان بن عفان و عبد الرحمان بن عوف طائفة فاقتسما يقال لما قسم جعل الشوابّ على حدة و العجائز على حدة ثم خير عبد الرحمان عثمان فاخذ العجائز فربح عثمان مالا كثيرا و ذلك لانه كان يوجد عند العجائز من المال و لم يوجد عند الشواب- قال ابن سيرة و انما لم يؤخذ ما جاءت به العجائز فيكون فى الغنيمة لانه لم يوجد معهن الا بعد شهر او شهرين- و جعل عثمان على كل من اشتراه من سبيهم شيئا موقتا فمن جاء منهن بالذي وقت لهن عتق فلم يتعرض لهن- و نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان يفرق فى القسم و البيع بين النساء و الذرية و قال لا يفرق بين الام و ولدها حتى يبلغ قيل يا رسول اللّه ما بلوغه قال تحيض الجارية- و يحتلم الغلام- رواه الحاكم و صححه عن عبادة بن الصامت عنه صلى اللّه عليه و سلم قال لا تفرقوا بين الام و ولدها فقيل الى متى قال الى ان يبلغ الغلام و تحيض الجارية- و قال ابن الجوزي قال الدار قطنى فى سنده عبد اللّه بن عمر بن حسان ضعيف الحديث رماه على بن المديني بالكذب و روى الترمذي عن ابى أيوب الأنصاري قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول من فرق بين والدة و ولدها فرق اللّه بينه و بين أحبته يوم القيامة- و قال الترمذي حديث حسن غريب و صححه الحاكم على شرط مسلم و فيه نظر لان فى سنده حيى بن عبد اللّه و لم يخرجه فى الصحيح و اختلف فيه و لذا لم يصححه الترمذي و روى الحاكم فى المستدرك عن عمران بن حصين قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ملعون من فرق بين والدة و ولدها- و قال اسناده صحيح و فيه طليق بن محمد يرويه تارة عنه عن عمران بن حصين و تارة عنه عن ابى بردة و تارة عن طليق عن النبي صلى اللّه عليه و سلم مرسلا-

قلت و يمكن الجمع بان طليقا لعله سمعه عمران و عن ابى بردة كليهما فيرويه تارة عنه و تارة عنه و تارة مرسلا و قال ابن القطان لا يصح الحديث لان طليقا لا يعرف حاله قال ابن همام يريد خصوص ذلك و الا فللحديث طرق كثيرة و شهرة و ألفاظه توجب صحة المعنى المشترك و هو منع التفريق و روى الدار قطنى بسنده عن ميمون بن ابى شعيب عن على عليه السلام انه فرق بين جارية و ولدها فنهاه النبي صلى اللّه عليه و سلم عن ذلك فرد البيع- و رواه ابو داود ورده بالانقطاع بين ميمون ابن ابى شعيب و على قال ابن الهمام ان الإرسال عندنا لا يضر و رواه الحاكم و صحح اسناده و رجحه البيهقي.

(مسئلة) و من هاهنا قال ابو حنيفة لا يجوز ان يفرق بالبيع او الهبة او نحوهما بين مملوكين صغيرين و كذا بين صغير و كبير يكون بينهما رحم و محرمية و كذا بين كبيرين كذلك عند احمد و قال مالك لا يفرق بين الام و ولدها خاصة و قال الشافعي لا يفرق بين صغير و بين أبويه و ان عليا- وجه قول مالك ان الحديث المذكور ورد فى المنع من التفريق بين الام و ولدها خاصة و الحق الشافعي بالأم الأصول مطلقا- و وجه قول ابى حنيفة و احمد فى المنع من التفريق بين اثنين بينهما رحم و محرمية ان فى بعض الأحاديث ورد المنع فى غير الأصول و الفروع ايضا عن على عليه السلام قال وهب لى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم غلامين أخوين فبعت أحدهما فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا على ما فعل غلامك فاخبرته قال رده رده قال الترمذي حديث حسن غريب و تعقبه ابو داود بانه من رواية ميمون بن ابى شعيب عن على و هو لم يدرك عليّا

قلنا فهو مرسل و المرسل عندنا حجة و أخرجه الحاكم و الدار قطنى من طريق اخر عن عبد الرحمان بن ابى ليلى عن على قال قدم على النبي صلى اللّه عليه و سلم سبىّ فامرنى ببيع أخوين فبعتهما و فرقت بينهما ثم أتيت النبي صلى اللّه عليه و سلم فاخبرته فقال أدركها فارتجعهما و لا تبعهما الا جميعا و لا تفرق بينهما و صححه الحاكم على شرط الشيخين و نفى ابن القطان العيب عنه و قال هو اولى ما اعتمد عليه فى هذا الباب و من طريق اخر عند احمد و البزار قال ابن همام فيه انقطاع لكن لا يضر على أصلنا على ما عرف و روى الدار قطنى عن طليق بن عمران عن ابى بردة عن ابى موسى قال لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من فرق بين الوالدة و ولدها و بين الأخ و أخيه و إذا ثبت المنع من التفريق بين أخوين ايضا ظهر ان علة المنع الرحم مع المحرمية و لا يمنع من التفريق المحرمية بالرضاع و نحو ذلك و لا رحم بلا محرمية كابن العم لانه ليس فى معناه.

(مسئلة) من فرق بين والدة و ولدها يأثم لكن ينعقد البيع و ينفذ عند ابى حنيفة و محمد و عند مالك و الشافعي و احمد لا ينعقد بل هو باطل و كذا لا ينعقد البيع فى غير قرابة الولاد ايضا عند احمد و قال ابو يوسف يفسد البيع فى قرابة الولاد خاصة و عنه انه يفسد مطلقا سواء كان قرابة ولاد او غيرها و مبنى الخلاف على خلافية اصولية فان النهى عن الشرعيات بلا قرينة يوجب البطلان عندهم و يوجب الفساد عند ابى حنيفة و صاحبيه لكن أبا حنيفة و محمدا قالا ان النهى فى هذا البيع انما هو لمعنى مجاور كالبيع وق ت أذان الجمعة فلا يوجب الفساد بخلاف ما كان لوصف لازم- وجه قول ابى يوسف انه صلى اللّه عليه و سلم امر عليّا برد البيع و الارتجاع و ذا لا يمكن الا عند فساد العقد و حمل ابو حنيفة الارتجاع على طلب الا قالة.

(مسئلة) يجوز التفريق ان كانا بالغين كما يدل عليه حديث عبادة بن الصامت و قال احمد لا يجوز عملا بإطلاق الاخبار المذكورة و ردّ ابن الجوزي حديث عبادة كما ذكرنا و لنا ايضا حديث سلمة بن الأكوع قال خرجنا مع ابى بكر فغزونا فزارة الى ان قال فجئت بهم الى ابى بكر و فيهم امرأة معها ابنة لها من احسن العرب فنفلنى ابو بكر ابنتها فقدمت المدينة فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم يا سلمة هب لى المرأة قلت هى لك فقدى بها أسارى ثلاثة- و ما روى انه صلى اللّه عليه و سلم فرق بين مارية القبطية أم ابراهيم بن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و سيرين أختها أهداهما المقوقس ملك الاسكندرية الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فوهب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سيرين لحسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمان بن حسان- ذكر الحديث ابن عبد البر فى الاستيعاب و ذكر البزار ان هذا الحديث فى صحيح ابن خزيمة و اللّه اعلم.

(مسئلة) إذا كان مع الصغير أبواه لا يبيع واحدا منهم و لو كان أم و أخ او أم و عمة او خالة او أخ جاز البيع سوى الام فى ظاهر الرواية لان شفقة الام تغنى عمن سواه و لو كان له ستة اخوة ثلاثة كبار و ثلاثة صغار فباع مع كل صغير كبيرا جاز و لو كان مع الصغير جدة و عمة و خالة جاز بيع العمة و الخالة و لو كان معه عمة و خالة بدون جدة لا يباع الا معا- و الأصل انه إذا كان معه عدد بعضهم ابعد من بعض جاز البيع سوى الأقرب و ان كانوا فى درجة واحدة فان كانوا من جنسين مختلفين كالاب و الام و الخالة و العمة لا يفرق بل يباع الكل او يمسك الكل و ان كانوا من جنس واحد كالاخوين و العمين جاز ان يمسك مع الصغير واحدا منهم و يبيع ما سواه و اللّه اعلم.

(مسئلة) ذكر فى سبيل الرشاد انه كان يباع الام و ولدها الصغار من سبى بنى قريظة من اليهود و من المشركين من العرب و إذا كان الولد صغيرا ليس معه أم لم يبع من المشركين و لا من اليهود الا من المسلمين و ذا لان الصغير إذا سبى مع أحد أبويه يعتبر كافرا فيجوز بيعه من الكافر مشركا كان او يهوديا فان الكفر ملة واحدة-

و ان سبى لا مع أحد أبويه يعتبر مسلما بتبعية الدار و اللّه اعلم و استشهد يوم بنى قريظة خلاد بن سويد و منذر بن محمد.

(فائدة) اصطفى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لنفسه ريحانة بنت زيد بن عمرو بن حذافة من بنى النضير المتزوجة فى بنى عمرو بن قريظة و كانت جميلة فعرض عليها الإسلام فابت فعزلها و وجد فى نفسه فارسل الى ابن سعية فذكر له ذلك فقال ابن سعية فداك ابى و أمي هى تسلم فخرج حتى جاءها فجعل يقول لها لا تبتغى قومك فقد رايت ما ادخل عليهم حيى بن اخطب فاسلمى يصطفيك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاجابت الى ذلك فبينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى أصحابه إذ سمع وقع نعلين فقال ان هاتين لنعلا ابن سعية يبشرنى بإسلام ريحانة فجاءه فقال يا رسول اللّه لقد أسلمت ريحانة فسرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بذلك و كانت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى توفى عنها و هى فى ملكه و قد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يحرص عليها ان يتزوجها و يضرب عليها الحجاب فقالت يا رسول اللّه بل تتركنى فى ملكك فهو أخف علىّ و عليك فتركها و اللّه اعلم.

(فائدة) و لمّا انقضى شأن بنى قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ قالت عائشة فحضره رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ابو بكر و عمر فو الذي نفس محمد بيده انى لا عرف بكاء ابى بكر من بكاء عمرو انى لفى حجرتى و كانوا كما قال اللّه تعالى رحماء بينهم.

(مناقب سعد بن معاذ) عن انس قال لمّا حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون ما أخف جنازته و ذلك لحكمه فى بنى قريظة فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال ان الملائكة كانت تحمله- رواه الترمذي و عن جابر قال سمعت النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول اهتز عرش الرحمان لموت سعد بن معاذ- متفق عليه و عن البراء ابن عازب قال أهديت لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حلة حرير فجعل أصحابه يمسونها و يتعجبون من لينها فقال أ تعجبون من لين هذا لمناديل سعد بن معاذ فى الجنة خير منها و ألين- متفق عليه- ذكر البغوي و غيره ان ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم سالنه من عرض الدنيا و طلبن منه زيادة فى النفقة و آذينه بغيرة بعضهن على بعض فهجرهن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الى ان لا يقربهن شهرا و لم يخرج الى أصحابه فقالوا ما شأنه و كانوا يقولون طلّق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نساءه فقال عمر لا علمكم ما شأنه فدخلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقلت يا رسول اللّه أ طلّقت نساءك قال لا قلت يا رسول اللّه انى دخلت المسجد و المسلمون يقولون طلق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاخبرهم انك لم تطلقهن قال نعم ان شئت فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتى لم يطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نساءه و نزلت وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ فكنت انا استنبطت ذلك الأمر فانزل اللّه تعالى.

٢٨

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها اى السعة و التنعم فيها و زخارفها فَتَعالَيْنَ اصل تعال ان يقوله من كان فى مكان مرتفع لمن كان فى مكان دونه ثم كثر حتى استوت فى استعماله الامكنة كلها بمعنى اقبل الىّ و المعنى هاهنا اقبلن بارادتكن و اختياركن لطلب الطلاق أُمَتِّعْكُنَّ اى اعطكن المتعة وَ أُسَرِّحْكُنَّ اى أطلقكن سَراحاً طلاقا جَمِيلًا (٢٨) من غير ضرار.

٢٩

وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللّه اى مراتب القرب الى اللّه و مرضاته وَ قرب رَسُولَهُ وَ نعماء الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللّه أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ يعنى لمن أرادت رضوان اللّه و رسوله و الدار الاخرة فانها هى المحسنة إذ الإحسان ان تعبد ربك بالحضور كانك تراه أَجْراً عَظِيماً (٢٩)

قال البغوي و كانت تحت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يومئذ تسع نسوة خمس من قريش عائشة بنت ابى بكر و حفصة بنت عمرو أم حبيبة بنت ابى سفيان و أم سلمة بنت امية و سودة بنت زمعة و اربع من غير قريش زينب بنت جحش الاسدية و ميمونة بنت الحارث الهلالية و صفية بنت حيى بن اخطب الخيبرية و جويرية بنت الحارث المصطلقية- و لمّا نزلت اية التخيير بدأ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعائشة و كانت أحبهن اليه فخيرها

و قرا عليها القران فاختارت اللّه و رسوله و الدار الاخرة و رات الفرح فى وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و تابعنها على ذلك- قال قتادة فلمّا اخترن اللّه و رسوله شكرهن على ذلك و قصره عليهن فقال لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ.

اخرج مسلم و احمد و النسائي من طريق ابى الزبير عن جابر قال اقبل ابو بكر ليستأذن على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلم يؤذن له ثم اقبل عمر فاستاذن فلم يوذن له ثم اذن لهما فدخلا و النبي صلى اللّه عليه و سلم جالس و حوله نساؤه واجما «١» ساكتا قال فقال عمر لا قولن شيئا اضحك النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال لو رايت بنت خارجة سالنى النفقة فقمت إليها فوجأت «اى ضربت يحاء يضرب- منه رح» عنقها فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قال هن حولى كما ترى يسئلننى النفقة فقام ابو بكر الى عائشة يجأء عنقها و قام عمر الى حفصة يجاء عنقها كلاهما يقولان لا تسئلنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ابدا ما ليس عنده- ثم اعتزلهن شهرا و تسعا و عشرين ثم نزلت هذه الاية- قال فبدا بعائشة قال يا عائشة انى أريد ان اعرض عايك امرا احبّ ان لا تعجلى فيه حتى تستشير أبويك فقال و ما هو يا رسول اللّه فتلا عليها الآيات فقالت أفيك يا رسول اللّه استشير ابوىّ بل اختار اللّه و رسوله و الدار الاخرة أسئلك ان لا تخبر امرأة من نسائك قال لا تسئلنى امراة منهن الا أخبرتها ان اللّه لم يبعثنى جحودا و لا مفتنا و لكنه بعثني مبشرا معلما و فى الصحيح عن الزهري ان النبي صلى اللّه عليه و سلم اقسم ان لا يدخل على أزواجه شهرا قال الزهري فاخبرنى عروة عن عائشة قالت فبدانى فقلت يا رسول اللّه انك أقسمت ان لا تدخل علينا شهرا فانك بتسع و عشرين اعدهن قال ان الشهر تسع و عشرون.

(١) الوجم ككتف صاحب العبوس المطرق لشدة الحزن وجم كوعد وجما و وجوما سكت على غيظه ١٢ قاموس منه رحمه اللّه.

(فائدة)

قال البغوي اختلف العلماء فى هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق حتى يقع الطلاق بنفس اختيارها نفسها أم لا فذهب الحسن و قتادة و اكثر اهل العلم انه لم يكن تفويض الطلاق بل خيرهن فى طلب الطلاق فان اخترن الدنيا فارقهن بدليل قوله تعالى فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ- و ذهب قوم الى انه كان تفويض الطلاق لو اخترن انفسهن كان طلاقا.

(مسئلة) إذا قال الزوج لامراته اختاري و نوى بذلك ان تطلق نفسها ان شاءت فلها ان تطلق نفسها مادامت فى المجلس فان قامت منه او أخذت فى عمل اخر خرج الأمر من يدها لانه تمليك الفعل منهيّا و التمليكات يقتضى جوابا فى المجلس كما فى البيع قال صاحب الهداية لها خيار المجلس بإجماع الصحابة رضى اللّه عنهم و قال ابن همام قال ابن المنذر اختلفوا فى الرجل يخير زوجته فقالت طائفة أمرها بيدها فى المجلس فان قامت من مجلسها فلا خيار لها روينا هذا القول عن عمر بن الخطاب و عثمان و ابن مسعود رضى اللّه عنهم و فى أسانيدها مقال و به قال جابر بن عبد اللّه و به قال عطاء و مجاهد و الشعبي و النخعي و مالك و سفيان الثوري و الأوزاعي و الشافعي و ابو ثور و اصحاب الرازي- و قالت طائفة أمرها بيدها فى المجلس و بعدها و هو قول الزهري و قتادة و ابى عبيدة و ابن نصر قال ابن المنذر و به نقول لقوله صلى اللّه عليه و سلم لعائشة لا تستعجلى حتى تستأمرى أبويك و حكى صاحب المغني هذا القول من الصحابة عن على رضى اللّه عنه و أجاب ابن الهمام عن قول ابن المنذر ان الرواية عن على لم يستقر فقد روى عنه قول الجماعة كذا نص محمد فى بلاغاته حيث قال بلغنا عن عمر و عثمان و على و ابن مسعود و جابر رضى اللّه عنهم فى الرجل يخير امرأته ان لها الخيار مادامت فى مجلسها ذلك فاذا قامت من مجلسها فلا خيار لها و لم يرو عن غيره من الصحابة ما يخالف ذلك فكان اجماعا سكوتيا و قوله فى أسانيدها مقال لا يضر بعد تلقى الامة بالقبول مع ان رواية عبد الرزاق عن جابر و ابن مسعود جيدة- و اما التمسك بقوله صلى اللّه عليه و سلم لا تعجلى فضعيف لانه ليس فى الاية تخيير الطلاق و تفويضه كما يدل عليه قوله تعالى فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا.

(مسئلة) لا بد من النية فى قوله اختاري لانه يحتمل تخيرها فى نفسها و يحتمل تخيرها فى تصرف اخر غيره.

(مسئلة) إذا قال الزوج اختاري فقالت اخترت نفسى فالمروى عن عمرو ابن مسعود و ابن عباس انها تقع واحدة رجعية و به أخذ الشافعي و احمد لان قوله اختاري بمنزلة قوله طلقى نفسك و قولها اخترت نفسى بمنزلة قوله طلقت نفسى و الواقع بها رجعى اجماعا و بان الكتاب دل على ان الطلاق يعقب الرجعة الا الثالث- و روى عن زيد بن ثابت انه يقع الطلقات الثلاث و به أخذ مالك فى المدخول بها و فى غيرها يقبل منه دعوى الواحدة وجه قول زيد ان اختيارها يقتضى ثبوت اختصاصها بها بحيث لا يكون لزوجها إليها سبيل من غير رضاءها و الا لا يحصل فائدة التخيير إذا كان له ان يراجعها فى الحال شاءت او أبت و ذلك الاختصاص لا يتصور الا فى البائن و الطلاق يعقب الرجعة بالكتاب الا ان يكون ثلاثا فيقع الثلاث و ثبت عن على رضى اللّه عنه ان الواقع به واحدة بائنة و به قال ابو حنيفة رحمه اللّه لما ذكرنا ان اختصاصها بنفسها لا يتصور الا بالبينونة و البينونة قد يكون بواحدة اجماعا كالطلاق بمال و الطلاق قبل الدخول فيحمل عليه لحصول المقصود و لا وجه لجعله ثلاثا بعد حصول المقصود بواحدة- و قد روى الترمذي عن ابن مسعود و عمر ان الواقع بها بائنة كما روى عنهما الرجعية فاختلف الرواية عنهما-

قلت البينونة يتنوع الى غليظة و خفيفة فان نوى بها الزوج الغليظة لا بد ان يقع به ثلاثا- لكن أبا حنيفة رحمه اللّه يقول ان قوله اختاري لا يدل على البينونة بل يفيد الخلوص و الصفاء و البينونة يثبت فيه اقتضاء فلا يعم بل يقدر بقدر الضرورة بخلاف أنت بائن و نحوه فلا يقع الثلاث بقوله اختاري و ان نوى الثلاث لان النية انما تعمل فيما يحتمله اللفظ و يقع بقوله أنت بائن ثلاثا ان نوى الثلاث و بخلاف قوله اختاري اختاري اختاري لان تعدد اللفظ يدل على تعدد المقصود.

(مسئلة) لو قالت اخترت زوجى بعد ما قال لها اختاري لا يقع شى ء عند الجمهور لان الزوج لم يطلقها بل جعل أمرها باختيارها و هى لم تختر الطلاق بل اختارت ابقاء النكاح- و عن على رضى اللّه عنه انه يقع رجعية كانه جعل نفس اللفظ ايقاعا قال ابن همام لكن قول عائشة خيّرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاخترناه و لم يعدّه علينا شيئا- رواه الستة و فى لفظ الصحيحين فلم يعدد يفيد عدم وقوع شى ء كما قاله الجمهور-

قلت لما ذكرنا فيما سبق ان تخيير ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم لم يكن تخييرا للطلاق بل كان تخييرا فى طلب انطلاق فلا يكون قول عائشة حجة على ما قاله الجمهور و اللّه اعلم.

(مسئلة) و لا بد من ذكر النفس فى كلامه او كلامها حتى لو قال اختاري فقالت اخترت لا يقع الطلاق لان هذا اللفظ ليس لفظا للطلاق فكان القياس ان لا يقع بها شى ء لان التمليك فرع ملك المملك و الزوج لا يملك إيقاع الطلاق بهذا اللفظ لكنا تركنا القياس و

قلنا بوقوع الطلاق باختيارها بإجماع الصحابة و الإجماع انما هو فى المفسّر من أحد الجانبين بالنفس و لان قوله اختاري مبهم يحتمل تخيرها فى نفسها و تخيرها فى تصرف اخر غيره- و المبهم لا يصلح تفسيرا للمبهم و لا تعيين مع الإبهام- و لمّا كان وقوع الطلاق بقوله اختاري معدولا عن سنن القياس مقتصرا على مورد الإجماع لا يكتفى بالنية و ان كان مع القرينة الحالية دون المقالية لعدم الإجماع هناك- و قال الشافعي و احمد يكتفى بالنية مع القرينة الحالية بعد ان نوى الزوج وقوع الطلاق به و تصادقا عليه و قال ابو حنيفة النية بدون احتمال اللفظ يلغوا و الا لوقع بجرد النية مع لفظ لا يصلح له أصلا كاسقنى و انما تركنا القياس بموضع الإجماع. قلت لكن قوله النية بدون احتمال اللفظ يلغو ليس فى محله فان لفظ اختاري و اخترت بدون ذكر النفس يحتمل تخيرها الطلاق و اختارها إياه و غير ذلك و ان لم تكن نصّا فيه و لذلك لو قال اختاري فقالت اخترت نفسى يقع الطلاق ان نوى الزوج لان كلامها مفسرة و ما نواه الزوج من محتملات كلامه- و كذا لو قال اختاري اختيارة فقالت قد اخترت طلقت ايضا لان الهاء فى اختيارة ينبئ عن الاتحاد و و الانفراد و اختيارها نفسها يتحد مرة و يتعدد اخرى فصار مفسرا من جانبه.

(مسئلة) و لو قال الزوج اختاري فقالت انا اختار نفسى فهى طالق و القياس ان لا يطلق لان هذا مجرد وعد او يحتمله فصار كما إذا قال طلقى نفسك فقالت انا اطلق نفسى قال صاحب الهداية وجه الاستحسان قول عائشة لابل اختار اللّه و رسوله و اعتباره صلى اللّه عليه و سلم جوابا منها- لا يقال ذكر فيما سبق ان قصة عائشة لم يكن تخييرا فى التطليق بل فى طلب الطلاق لانا نقول مقصودنا يحصل باعتباره صلى اللّه عليه و سلم جوابا للاختيار سواء كان الاختيار متعلقا بالتطليق او طلب التطليق- و لان قولها انا اختار نفسى حكاية عن حالة قائمة و هو اختيار نفسها بخلاف قولها- طلق نفسى لان جمله على الحال متعذر لانه ليس حكاية عن حالة قائمة و اللّه اعلم.

٣٠

يا نِساءَ النَّبِيِّ التفات من الغيبة الى الخطاب مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قال ابن عباس أراد بالفاحشة النشوز و سوء الخلق يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ قرأ ابن كثير و ابن عامر نضعّف بالنون على التكلم و كسر العين و تشديدها بغير الف من التفعيل و العذاب بالنصب على المفعولية- و الباقون بالياء التحتانية على الغيبة و و فتح العين على صيغة المجهول و العذاب بالرفع على انه مفعول ما لم يسم فاعله فيقرأ ابو جعفر «و يعقوب- ابو محمد» و ابو عمرو بتشديد العين بلا الف من التفعيل و الباقون بالتخفيف و الالف من الافعال ضِعْفَيْنِ اى ضعفى عذاب غيرهن و الضعف من الألفاظ المتضائفة التي يتوقف فهمه على شى ء اخر كالنصف و الزوج و هو تركب قدرين متساويين و- معنى أضعفت الشي ء و ضعّفته واحد و هو ضمت اليه مثله و كذا ضاعفته- و الضعفين المثلين الذين يضم أحدهما الى صاحبه كالزوجين فان أحدهما يضاعف الاخر و يزاوجه- و قد يطلق الضعف على مجموع المثلين كما فى قوله تعالى حكاية عن الاتباع من الكفار فاتهم عذابا ضعفا من النّار اى مثلى ما نحن فيه من العذاب لانهم ضلوا و أضلونا- و إذا أضيف الضعف الى عدد يراد به ذلك العدد مع مثله فضعف عشرة عشرون و ضعف مائة مائتان و ضعف الواحد اثنان و إذا أضيف الضعفين الى واحد يّثلثه و فى القاموس ضعف الشي ء مثله و ضعفاه مثلاه او الضعف المثل الى ما زاد يقال لك ضعفه يريدون مثليه و ثلاثة أمثاله لانه زيادة غير محصورة- و فسّر الجزري فى النهاية الضعف الواقع فى حديث ابى الدحداح بانه مثلى الاخر و قال يقال ان أعطيتني درهما فلك ضعفه اى درهمان و ربما قالوا فلك ضعفاه و قيل ضعف الشي ء مثله و ضعفاه مثلاه- و قال الزهري الضعف فى كلام العرب المثل فما زاد و ليس بمقصور على مثلين فاقل الضعف محصور فى الواحد و أكثره غير محصور و منه الحديث يضعف صلوة الجماعة على صلوة الفذ خمسا و عشرين درجة و قال اللّه تعالى فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً اى يزاد عليها يقال ضعّفت الشي ء و أضعفته و ضاعفته إذا زدته

قال البغوي ضعّف و ضاعف لغتان مثل بعّد و باعد قال ابو عمرو و ابو عبيد ضعّفته إذا جعلته مثليه و ضاعفته إذا جعلته أمثاله- و شدد ابو عمرو هاهنا لقوله تعالى ضعفين و قوله تعالى ضعفين منصوب على المفعولية لان التضعيف و المضاعفة يتضمنان معنى التصيير او على المصدرية من قبيل ضربته ضربتين او ضربته سوطين او على الحال من العذاب و وجه تضعيف العذاب ان الذنب منهن مع توافر النعمة أقبح و لذلك جعل حد الحر ضعف حد العبد و لان فى صدور الذنب منهن هتك حرمة مصاحبة سيّد البشر صلى اللّه عليه و سلم و ذلك أشد و أقبح وَ كانَ ذلِكَ اى تضعيف العذاب عَلَى اللّه يَسِيراً (٣٠) جملة معترضة.

٣١

وَ مَنْ يَقْنُتْ القنوت الطاعة قرا يعقوب من تأت و تقنت بالتاء «١» الفوقانية فيهما نظرا الى المعنى و الباقون بالياء التحتانية نظرا الى كلمة من يعنى من يدم على الطاعة مِنْكُنَّ للّه وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ قرأ حمزة «و خلف- ابو محمد» و الكسائي بالياء التحتانية حملا على لفظة من و الباقون بالتاء الفوقانية نظرا الى المعنى صالِحاً منصوب على المصدرية او المفعولية نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ اى مثلى اجر غيرها مرة على الطاعة و مرة على طلبهن رضاء النبي صلى اللّه عليه و سلم بالقناعة و حسن المعاشرة قال مقاتل مكان كل حسنة عشر حسنات- قرا حمزة «و خلف- ابو محمد» و الكسائي يؤتها بالياء التحتانية على ان فيه ضمير اسم اللّه تعالى و الباقون بالنون على التكلم وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) اى جليل القدر و هو الجنة زيادة على أجرها قلت و ذلك لانهن يرزقن بمتابعة النبي صلى اللّه عليه و سلم ما يرزق النبي صلى اللّه عليه و سلم ..

(١) هذا ليس بشئ بل قرأهما يعقوب بالياء كالجمهور- ابو محمّد رحمه اللّه.

٣٢

يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ اى ليست كل واحدة منكن او المعنى لم توجد جماعة واحدة من جماعات النساء مثلكن فى الفضل كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ و جملة لستن تعليل لمضمون ما ذكر و اصل أحد وحد بمعنى الواحد ثم وضع فى النفي العام مستويا فيه المذكر و المؤنث و الواحد و الكثير قال ابن عباس اى ليس قدر كن عندى مثل قدر غير كن من النساء الصالحات أنتن أكرم علىّ و ثوابكن أعظم لدىّ- هذه الاية تدل على فضلهن على سائر النساء و يعارضها قوله تعالى فى حق مريم ابنة عمران انّ اللّه اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ و القول بان المراد من نساء العالمين نساء زمانه يأباه ما رواه الترمذي عن انس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد صلى اللّه عليه و سلم و آسية امراة فرعون فالواجب ان يقال ان النساء فى قوله تعالى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ من حيث انكن ازواج سيد البشر صلى اللّه عليه و سلم يعنى ليست أحد من النساء شريكة لكنّ فى هذا الفضل و الجمهور على ان أفضل نساء العالمين فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و خديجة بنت خويلد خير نساء الرسول صلى اللّه عليه و سلم و مريم بنت عمران و آسية امرأة فرعون و عائشة الصديقة بنت الصديق الأكبر حبيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم روى الشيخان فى الصحيحين و احمد و الترمذي و ابن ماجة عن ابى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كمل من الرجال كثير و لم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون و مريم بنت عمران و ان فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام- و فى الصحيحين عن على رضى اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول خير نسائها مريم بنت عمران و خير نسائها خديجة بنت خويلد- و فى رواية كريب و أشار وكيع الى السماء و الأرض و فى الصحيحين من حديث عائشة عن فاطمة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا فاطمة الا ترضين ان تكونى سيدة نساء اهل الجنة او نساء المؤمنين- و عن حذيفة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انه قال ان هذا ملك لم ينزل الى الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه ان يسلم علىّ و يبشرنى بان فاطمة سيدة نساء اهل الجنة و ان الحسن و الحسين سيدا شباب اهل الجنة رواه الترمذي و قال هذا حديث غريب إِنِ اتَّقَيْتُنَّ مخالفة حكم اللّه و رضاع رسوله شرط استغنى عن الجزاء بما مضى فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ الفاء للسببية يعنى إذا ثبت فضلكن على سائر النساء بشرط التقوى فلا بد ان لا يظهر منكن ما ينافى التقوى من الخضوع بالقول للرجال يعنى ان تكلم المرأة مع الرجل الأجنبي كلاما لينا بما تطمعه منها- و ذكر الجزري فى النهاية نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان يخضع الرجل لغير امرأته ان يلين لها بالقول بما يطمعها منه- و الخضوع الانقياد و المطاوعة و ذكر ايضا فى النهاية ان رجلا مرّ فى زمان عمر رضى اللّه عنه برجل و امراة قد خضعا بينهما حديثا فضربه حتى شجه فاهدره عمر رضى اللّه عنه اى ليّنا بينهما الحديث و تكلما بما يطمع كلّا منهما من الاخر و روى الطبراني بسند حسن عن عمرو بن العاص ان النبي صلى اللّه عليه و سلم نهى ان يكلم النساء الا بإذن أزواجهن و روى الدار قطنى فى الافراد عن ابى هريرة انه صلى اللّه عليه و سلم نهى ان يتمطى الرجل فى الصلاة او عند النساء الا عند امرأته و جواريه فَيَطْمَعَ فى الفجور منصوب فى جواب النهى بان المقدرة بعد الفاء الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ اى شائبة من النفاق فان المؤمن الكامل الذي مطمئن بالايمان و يرى برهان ربه لا يطمع فيما حرمه اللّه تعالى و الذي إيمانه ضعيف كان فيه شائبة النفاق يشتهى الى ما حرم اللّه عليه- و فى غير المتواتر من القراءة فيطمع مجزوم عطفا على محل النهى فهو نهى لمريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول.

(مسئلة) المرأة مندوبة الى الغلظة فى المقال إذا خاطبت الا جانب لقطع الاطماع وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً (٣٢) يعنى ما يعرفه حسنا بعيدا من الريبة.

٣٣

وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ قرأ نافع «و ابو جعفر- ابو محمد» و عاصم بفتح القاف من قرّ يقرّ بكسر العين فى الماضي و فتحها فى الغابر أصله اقررن حذفت الراء الاولى و نقلت حركتها الى القاف و استغنى عن همزة الوصل و الباقون بكسر القاف من قرّ يقرّ قرارا بفتح العين فى الماضي و كسرها فى الغابر و هما لغتان فيه و معناهما واحد و كذا تعليلهما واحدة- امر بالقرار فى البيوت و عدم الخروج بقصد المعصية كما يدل عليه قوله تعالى وَ لا تَبَرَّجْنَ فانه عطف تفسيرى و تأكيد معنى و ليس فى الاية نهى عن الخروج من البيت مطلقا و ان كان للصلوة او الحج او لحاجة الإنسان كما زعمه الذين فى قلوبهم مرض من الروافض حتى طعنوا فى الصديقة الكبرى بنت الصديق الأكبر حبيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انها خرجت من بيتها الى مكة و ذهبت منها الى البصرة فى وقعة الجمل و كان خروجها الى مكة للحج و بعد خروجها استشهد عثمان رضى اللّه عنه و اظهر اهل المصر فتنة فى المدينة حتى هرب منها طلحة و زبير رضى اللّه عنهما و لحقا بعائشة و أشارا بالخروج للاصلاح ذات البين و لمّا أبت احتجا بقوله تعالى لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فخرجت الى البصرة و وقع الصلح بين من كان معها و من كان مع على رضى اللّه عنهما ثم اثار نار الفتنة عبد اللّه بن سبأ اليهودي المنافق الذي تزىّ بزى شيعة علىّ رضى اللّه عنه حتى وقع القتال بين المسلمين فى وقعة الجمل و قد ذكرنا القصة فى كتابنا السيف المسلول- و التبرج من البروج بمعنى الظهور و المراد بها اظهار الزينة و إبراز المحاسن للرجال و قال ابن نجيح التبرج «اى التكبر و الاعجاب بنفسه- منه رح» التبختر

قال البيضاوي فى تفسيره لا تبخترن فى مشيتكن تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى منصوب على المصدرية اى تبرجا مثل تبرج الجاهلية الاولى و المراد بالجاهلية الاولى جاهلية الكفر قبل الإسلام و الجاهلية الاخرى جاهلية الفسوق بعد الإسلام- قال الشعبي هى ما بين عيسى و محمد عليهما الصلاة و السلام و قال ابو العالية هى زمن داود و سليمان عليهما السلام كانت المرأة تلبس قميصها من الدر غير مخيط للجانبين فيرى خلقها فيه و قال الكلبي كان ذلك فى زمن نمرود الجبار كانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه و تمشى وسط الطريق ليس عليها شى ء غيره و تعرض نفسها على الرجال و روى عكرمة عن ابن عباس الجاهلية الاولى فيما بين نوح و إدريس و كان الف سنة و كان سبطين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل و الاخر يسكن الجبل و كان رجال الجبل صباحا و فى النساء دمامة «بالفتح: القصر و القبح- نهايه رح» و كان النساء السهل صباحا و فى الرجال دمامة و ان إبليس اتى رجلا من اهل السهل و اجر نفسه منه فكان يخدمه و اتخذ شيئا مثل الذي يدمو الرعاء فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يسمعون اليه و اتخذوا عيدا يجتمعون اليه فتبرج النساء للرجال و تزين الرجال لهن و ان رجلا من اهل الجبل هجم عليهم فى عيدهم ذلك فراى الرجال و النساء و صباحتهن فاتى أصحابه فاخبرهم بذلك فتحولوا إليهم فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فيهن فذلك قوله تعالى وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى و قد تذكر الاولى و ان لم يكن لها اخرى كقوله تعالى أَهْلَكَ عاداً الْأُولى و لم يكن لها اخرى او المعنى الجاهلية التي كانت قبل زمانكم وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللّه وَ رَسُولَهُ فى كل ما امرتنّ به و نهيتنّ عنه فان ذلك هو التقوى الذي هو شرط افضليتكن على سائر نساء العالمين إِنَّما يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ كلام مستأنف يعم حكمه نساء النبي صلى اللّه عليه و سلم و غيرهن من أولاده صلى اللّه عليه و سلم و لقصد التعميم أورد ضمير المذكر و قد أورد اللّه سبحانه هذا الكلام فى مقام التعليل لما سبق يعنى انما يريد اللّه سبحانه فيما امركن به و نهاكن عنه لاذهاب الرجس يعنى عمل الشيطان من الإثم و القبائح الشرعية و الطبعية الذي ليس فيه مرضاة اللّه تعالى عنكن و عن غيركن من اهل البيت أَهْلَ الْبَيْتِ بيت النبي صلى اللّه عليه و سلم منصوب على النداء او المدح قال عكرمة و مقاتل أراد باهل البيت نساء النبي صلى اللّه عليه و سلم و رضى عنهن لانهنّ فى بيته و هو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس و تلا قوله تعالى

٣٤

وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللّه وَ الْحِكْمَةِ- رواه ابن ابى حاتم و روى ابن جرير عن عكرمة نحوه و هم استدلوا بسياق الاية و سباقها لكن القول بتخصيص الحكم يهن يأباه ضمير المذكرين و ذهب ابو سعيد الخدري و جماعة من التابعين منهم مجاهد و قتادة و غيرهما الى انهم على و فاطمة و الحسن و الحسين رضى اللّه عنهم لحديث عائشة قالت خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و عليه مرط «يعنى عليه صورة الرجل- منه رح» يعنى عليه صورة الرجل- منه رح مرحل من شعر اسود فجاء الحسن ابن على فادخله ثم جاء الحسين بن على فدخل معه ثم جاءت فاطمة فادخلها ثم جاء على فادخله ثم قال

إِنَّما يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً- رواه مسلم و حديث سعد بن ابى وقّاص قال لمّا نزلت هذه الاية نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عليّا و فاطمة و حسنا و حسينا فقال اللّهمّ هؤلاء اهل بيتي رواه مسلم و حديث واثلة بن الأسقع انه صلى اللّه عليه و سلم تلا هذه الاية إِنَّما يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ الاية و قال لعلى و فاطمة و ابنيهما اللّهم هؤلاء اهل بيتي و خاصتى فاذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا-

و اخرج الترمذي و غيره عن عمر بن ابى سلمة و ابن جرير و غيره عن أم سلمة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم دعا عليّا و فاطمة و حسنا و حسينا لما نزلت هذه الاية إِنَّما يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ فحللّهم بكساء فقال اللّهم هؤلاء اهل بيتي فاذهب عنهم و طهرهم تطهيرا- و هذه الأحاديث و نحوها لا تدل على تخصيص الحكم بهؤلاء الاربعة رضى اللّه عنهم و يأباه ما قبل الاية و ما بعدها و يأباه العرف و اللغة لان الأصل فى استعمال اهل البيت لغة النساء و اما الأولاد و غيرهم فانها يطلق عليهم تبعا لان لهم بيوتا متغائرة غالبا و قد قال اللّه تعالى حكاية عن قول الملائكة لسارة امرأة ابراهيم عليه السلام أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّه رَحْمَتُ اللّه وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ و الحق ما ذكرنا ان الاية يعم جميع اهل البيت و ان كان سوق الكلام للنساء عن أم سلمة رضى اللّه عنها قالت فى بيتي أنزلت إِنَّما يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ قالت فارسل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى فاطمة و على و الحسن و الحسين فقال هؤلاء اهل بيتي فقلت يا رسول اللّه اما انا من اهل البيت قال بلى ان شاء اللّه- رواه البغوي و غيره هذا الحديث يدل على ان اهل البيت يعم كلهم و كلمة ان شاء اللّه للتبرك و قال زيد بن أرقم اهل بيته من حرم عليه الصدقة ال على و ال عقيل و ال جعفر و ال عباس و ال الحارث بن عبد المطلب

وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) من نجاسة الآثام بالحفظ فى الدنيا و المغفرة فى الاخرة- بين اللّه سبحانه انه انما نهاهن و امرهن و وعظهن لئلا يقارف اهل بيت رسوله المأثم و ليتصفوا بالتقوى- استعار للذنوب الرجس و للتقوى الطهارة لان عرض المقترف بالمعاصي ملوث كما يتلوث بدنه بالنجاسة و المتقى نقى كالثوب الطاهر النقي- و لكمال المناسبة بين الآثام و الارجاس قال ابو حنيفة يتنجس الماء المستعمل للقربة او لرفع الحدث و لما ثبت انه صلى اللّه عليه و سلم قال من توضأ فاحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره متفق عليه من حديث عثمان و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا توضأ العبد المسلم او المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء الحديث- رواه مسلم احتجت الروافض بهذه الاية على ان عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين معصومون و هم الخلفاء بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم دون غيرهم و على ان إجماعهم و من دونهم من الائمة حجة قالوا إذا أراد اللّه تطهيرهم فهم معصومون لان مراد اللّه تعالى لا ينفك عن الارادة و الأثيم غير طاهر و العصمة شرط للامامة و ابو بكر و عمر و عثمان غير معصومين بالإجماع فهم الائمة لا غيرهم. و هذا الاستدلال باطل بوجوه الاول ان الاية غير مختص حكمها بعلى و فاطمة و ابنيهما كما ذكرت بل هى نازلة فى أمهات المؤمنين ل كن هؤلاء الكرام داخلون فى حكمهن و الثاني ان الاية لا تدل على العصمة و قد ورد مثل ذلك فى اية الوضوء لجميع الامة حيث قال ما يُرِيدُ اللّه لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لا يقال مقتضى اية الوضوء ان اللّه يريد ان يطهر أبدانكم من الأنجاس و الأحداث ان توضأتو و مقتضى هذه الاية يريد اللّه ان يطهركم من الآثام فاين هذا من ذلك لانا نقول انها من واد واحد فان اللّه كما يريد ان يطهر أبدان المؤمنين إذا توضؤا و استعملوا الماء فى مواضعه كذلك يريد ان يطهر اهل بيت النبي صلى اللّه عليه و سلم من الآثام ان اتقوا و لذلك بين لهم طريقة استعمال الماء لطهارة الظاهر و بين لهم التقوى بقوله فَلا تَخْضَعْنَ لطهارة الباطن فكما ان طهارة ظاهر البدن يتوقف على اختيار العبد فى استعمال الماء كذلك الطهارة من الآثام يتوقف على اختياره التقوى و اللّه اعلم و الثالث ان العصمة ليست بشرط الامامة بل يجوز ان يكون الامام غير معصوم مع وجود المعصوم فيهم الم تر ان اللّه تعالى جعل الملك و الامامة لطالوت مع وجود النبي المعصوم فيهم و هو اشموئيل و داود عليهما السّلام إذ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ انّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً الى قوله تعالى وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ و اللّه اعلم ..

وَ اذْكُرْنَ عطف على اطعن اللّه و رسوله و ما بينهما اعتراض للتعليل ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللّه يعنى القران وَ الْحِكْمَةِ يعنى الوحى الغير المتلو و هو السنة و قال مقاتل يعنى احكام القران و مواعظه و

قال البيضاوي يعنى اذكرن الكتاب الجامع بين الامرين و هو تذكير لما أنعم اللّه عليهن حيث جعلهن اهل بيت النبوة و مهبط الوحى و ما شاهدن من برحاء الوحى مما يوجب قوة الايمان و الحرص على الطاعة حثا على الايتمار و الانتهاء فيما كلفن به

إِنَّ اللّه كانَ لَطِيفاً بكم يعظكم و يعلمكم ما يصلح فى الدين خَبِيراً (٣٤) بكل شى ء يعلم من يصلح لنبوته و من يصلح ان يكون اهل بيته و فى صحبته قال اللّه تعالى الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ و اللّه اعلم ذكر البغوي ان ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم قلن يا رسول اللّه ذكر اللّه الرجال فى القران و لم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به انا نخاف ان لا يقبل منا طاعة اللّه فانزل اللّه تعالى.

٣٥

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ الاية و روى الطبراني و ابن مردوية عن ابن عباس نحوه

و اخرج ابن سعد عن قتادة نحوه

و اخرج الطبراني بسند لا بأس به عن ابن عباس قال قال النساء يا رسول اللّه ما باله يذكر المؤمنين و لا يذكر المؤمنات فنزلت و رواه ابن جرير من حديث قتادة مرسلا

و اخرج الترمذي و حسنه عن أم عمارة الانصارية انها أتت النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالت ما ارى كل شى ء الا للرجال و ما نرى النساء يذكرن بشئ فنزلت و ذكر البغوي انه قال مقاتل قالت أم سلمة بنت ابى امية و أنيسة بنت الكعب الانصارية للنبى صلى اللّه عليه و سلم ما بال ربنا يذكر الرجال و لا يذكر النساء فى شى ء من كتابه نخشى ان لا يكون فيهن خيرا فنزلت هذه الاية و روى ان اسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن ابى طالب فدخلت على نساء النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالت هل نزل فينا شى ء من القران قلن لا فاتت النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالت يا رسول اللّه ان النساء فى خيبة و خسارة قال و مم ذلك قالت انهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال فانزل اللّه تعالى هذه الاية إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ اى المنقادين لحكم اللّه و رسوله المفوضين أمورهم الى اللّه المتوكلين عليه من الرجال و النساء وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ المصدقين بما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الذين أمن الناس من يوابقهم من الرجال و النساء وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ المداومين على الطاعة من الفريقين وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقاتِ فى القول و العمل اعنى عاملين أعمالا يصدق من يثنى عليها وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِراتِ فى المصائب و على الطاعات و عن المعاصي و اتباع الشهوات وَ الْخاشِعِينَ وَ الْخاشِعاتِ المتواضعين غير متكبرين من الرجال و النساء وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ مما رزقهم اللّه ابتغاء مرضاة اللّه وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِماتِ فرضا و نفلا وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ فروجهن عما لا يحل وَ الذَّاكِرِينَ اللّه كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ اللّه تعالى بقلوبهم و ألسنتهم «١».

(١) عن معاذ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان رجلا ساله فقال اىّ المجاهدين أعظم اجرا فقال أكثرهم للّه ذكرا قال فاىّ الصائمين أعظم اجزا قال أكثرهم للّه ذكرا ثم ذكر الصلاة و الزكوة و الحج و الصدقة كل ذلك و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول أكثرهم للّه ذكرا فقال ابو بكر لعمر يا أبا حفص ذهب الذاكرون بكل خير فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أجل ١٢ منه نور اللّه مرقده- [.....].

قال البغوي قال مجاهد لا يكون العبد من الذّاكرين اللّه كثيرا حتى يذكر اللّه قائما و قاعدا و مضطجعا يعنى لا يفتر ذكرهم فى حين من الأحيان-

قلت و ذلك لا يتصور الا بعد فناء القلب و استغراق القلب فى الذكر و حصول الحضور الدائم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سبق المفردون قالوا و ما المفردون يا رسول اللّه قال الذاكرون اللّه كثيرا و الذاكرات- رواه مسلم من حديث ابى هريرة و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من شى ء أنجى من عذاب اللّه من ذكر اللّه قالوا و لا الجهاد فى سبيل قال و لا الجهاد فى سبيل اللّه الا ان يضرب بسيفه حتى ينقطع رواه البيهقي فى الدعوات الكبير من حديث عبد اللّه بن عمرو عن ابى سعيد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سئل اى العباد أفضل و ارفع درجة عند اللّه يوم القيامة قال الذاكرون اللّه كثيرا و الذاكرات قيل يا رسول اللّه و من الغازي فى سبيل اللّه قال لو ضرب بسيفه فى الكفار و المشركين حتى ينكسر و يختضب دما فان الذاكر للّه أفضل منه درجة رواه احمد و الترمذي و قال هذا حديث غريب و عن مالك قال بلغني ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يقول ذاكر اللّه فى الغافلين كالمقاتل خلف الفارّين و ذاكر اللّه فى الغافلين كغصن شجر اخضر فى شجر يابس و ذاكر اللّه فى الغافلين مثل مصباح فى بيت مظلم و ذاكر اللّه فى الغافلين يريه اللّه مقعده من الجنة و هو حىّ و ذاكر اللّه فى الغافلين يغفر له بعدد كل فصيح و أعجم و الفصيح بنوا آدم و الأعجم بهائم- رواه رزين-

قال البغوي قال عطاء بن ابى رباح من فرض امره الى اللّه فهو داخل فى قوله إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ و من أقر بأن اللّه ربه و محمدا رسوله و لم يخالف قلبه لسانه فهو داخل فى قوله وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ و من أطاع اللّه فى الفرائض و الرسول فى السنة فهو داخل فى قوله وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ و من صان قوله عن الكذب فهو داخل فى قوله وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقاتِ و من صبر على الطاعة و خاف من المعصية و صبر على الرزية فهو داخل فى قوله وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِراتِ و من صلى و لم يعرف من عن يمينه و عن يساره فهو داخل فى قوله الْخاشِعِينَ وَ الْخاشِعاتِ و من تصدق فى كل أسبوع بدرهم فهو داخل فى قوله وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ و من صام فى كل شهر ايام البيض (الثالث عشر و الرابع عشر و الخامس عشر) فهو داخل فى قوله وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِماتِ و من حفظ فرجه عمالا يحل له فهو داخل فى قوله وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ و من صلى الصلوات الخمس فهو داخل فى قوله وَ الذَّاكِرِينَ اللّه كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ-

قال البيضاوي عطف الإناث على الذكور ضرورى لاختلاف الجنسين و عطف الزوجين على الزوجين لتغائر الوصفين ليس بضرورى و لذلك ترك فى قوله تعالى مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ إلخ و فائدته الدلالة على ان الاعداد و الموعود لهم للجمع بين هذه الصفات أَعَدَّ اللّه لَهُمْ مَغْفِرَةً لما صدر منهم من الذنوب وَ أَجْراً عَظِيماً (٣٥) على طاعتهم و اللّه اعلم- اخرج الطبراني بسند صحيح عن قتادة قال خطب النبىّ صلى اللّه عليه و سلم زينب بنت جحش و هو يريد لزيد بن الحارثة فظنت انه يريدها لنفسه فلمّا علمت انه يريدها لزيد أبت فانزل اللّه تعالى.

٣٦

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ الاية فرضيت و سلمت

قال البغوي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اشترى زيدا فى الجاهلية بعكاظ فاعتقه و تبناه فلمّا خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رضيت و ظنت انه يخطبها لنفسه فلما علمت انه يخطبها لزيد أبت و كرهت و كذلك أخوها عبد اللّه بن جحش كره ذلك (و كانت أم زينب و أخيها اميمة بنت عبد المطلب عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم)

و اخرج ابن جرير من طريق عكرمة و مثله من طريق العوفى عن ابن عباس قال خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاستنكفت منه و قالت انا خير منه حسبا فانزل اللّه تعالى وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ يعنى عبد اللّه بن جحش وَ لا مُؤْمِنَةٍ يعنى زينب بنت جحش يعنى لا يجوز لاحد إِذا قَضَى اللّه وَ رَسُولُهُ أَمْراً يعنى امر امرا على وجه التختم أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ يعنى ان يختاروا من أمرهم ما شاء وابل يجب عليهم ما أمرهم اللّه به و ان يجعلوا اختيارهم تبعا لاختيار اللّه و رسوله- و جمع الضمير الاول لعموم مؤمن و مؤمنة لوقوعهما نكرتين فى حيز النفي و جمع الثاني للتعظيم قرا الكوفيون و هشام يكون بالياء التحتانية لاجل الفصل بين الفعل و فاعله و الباقون بالتاء الفوقانية لاجل التأنيث و الخيرة و الخيار بمعنى واحد و هذه الاية دليل على ان مطلق الأمر للوجوب و يستفاد من هاهنا ان العالم و من له فضل من حيث الدين كفؤ للعلوى و غيره من الشرفاء-

و اخرج ابن ابى حاتم عن ابن زيد قال نزلت الاية فى أم كلثوم بنت عقبة بن ابى معيط و كانت أول من هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبى صلى اللّه عليه و سلم فزوّجها زيد بن حارثة فسخطت هى و أخوها و قالا انما أردنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فزوّجنا غيره فنزلت وَ مَنْ يَعْصِ اللّه وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً (٣٦)

بين الانحراف عن الصواب فان كان عصيان ردّ و انكار فهو ضلال كفرون كان عصيان فعل مع قبول الأمر و اعتقاد الوجوب فضلال فسق جملة فقد ضلّ تعليل لجزاء الشرط المحذوف تقديره يهلك فقد ضلّ.

قال البغوي فلما نزلت هذه الاية و سمعت زينب بنت جحش و أخوها رضيا بذلك و سلما و جعلت أمرها بيد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و كذلك أخوها فانكحها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم زيدا فدخل بها و ساق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عليها عشرة دنانير و ستين درهما و خمارا و درعا و إزارا و ملحفة و خمسين مدا من طعام و ثلاثين صاعا من تمر و مكثت عنده حينا ثم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اتى ذات يوم لحاجة فابصر زينب قائمة فى درع و خمار و كانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش فوقعت فى نفسه و أعجبه حسنها فقال سبحان اللّه مقلب القلوب فانصرف فلمّا جاء زيد ذكرت له ذلك ففطن زيد فالقى فى نفسه كراهتها فى الوقت و اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال انى أريد ان أفارق صاحبتى فقال مالك ارايت منها شيئا قال لا و اللّه يا رسول اللّه ما رايت منها إلا خيرا و لكنّها تتعظّم علىّ لشرفها و تؤذيني بلسانها فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم امسك عليك زوجك و اتّق اللّه فى أمرها كذلك روى ابن جرير عن ابى زيد فانزل اللّه تعالى.

٣٧

وَ اذكر إِذْ تَقُولُ يا محمد الاية

و اخرج الحاكم عن انس قال جاء زيد بن حارثة يشكو الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من زينب بنت جحش فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم امسك عليك أهلك فنزلت و إذ تقول لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِ اى هداه للاسلام و رزقه مصاحبتك و القى فى قلبك محبته و الرحمة عليه وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالإنفاق و الاعتاق و هو زيد بن حارثة رضى اللّه عنه أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يعنى زينب بنت جحش وَ اتَّقِ اللّه فى أمرها فلا تطلقها فان الطلاق من ابغض المباحات وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّه مُبْدِيهِ قوله أَمْسِكْ مقولة تقول و جملة تخفى معطوف على قوله تَقُولُ يعنى و كنت تسرّ فى نفسك ما اللّه مظهره اخرج البخاري عن انس ان هذه الاية نزلت فى شأن زينب بنت جحش و زيد بن حارثة قال الحسن أعجبه قول زيد و أخفى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذلك فى نفسه حياء و كرما و قيل وقع فى قلبه انه لو فارقها زيد تزوجها و قال ابن عباس حبها و قال قتادة ودّ انه طلقها.

و

قال البغوي روى سفيان بن عيينة عن على بن زيد بن جدعان قال سالنى على ابن الحسين زين العابدين عليهما السلام ما يقول الحسن فى قوله عزّ و جلّ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّه مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ قلت يقول لما جاء زيد الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال يا نبى اللّه انى أريد ان أفارق زينب أعجبه ذلك فقال أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللّه قال على بن الحسين ليس كذلك كان اللّه تعالى قد اعلمه انها ستكون من أزواجه و ان زيدا سيطلقها فلما جاء زيد و قال انى أريد ان أطلقها قال أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ فعاتبه اللّه و قال لم قلت امسك عليك زوجك و قد أعلمناك انها ستكون من أزواجك- و هذا هو الاولى و الأليق بحال الأنبياء و هو مطابق للتلاوة لان اللّه تعالى اعلم ان يبدئ و يظهر ما أخفاه و لم يظهر اللّه غير تزويجها منه فقال زَوَّجْناكَها فلو كان الذي أضمره رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم محبتها او ارادة طلاقها لكان يظهر ذلك و انما أخفى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم استحياء ان يقول لزيد التي تحتك و فى نكاحك ستكون امراتى-

قال البغوي و هذا قول مرضى حسن و ان كان القول الاخر و هو انه أخفى محبتها او نكاحها لو طلقها زيد لا يقدح فى حال الأنبياء لان العبد غير ملوم على ما يقع فى قلبه فان مثل هذه الأشياء ما لم يقصد لا اثم فيه لان الود و ميل النفس من طبع البشر- و قوله أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللّه امر بالمعروف و هو حسنة لا اثم فيه-

قلت بل هو أعظم اجرا فانه امر بالمعروف على خلاف طبعه قال اللّه تعالى وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- و ما قال الحسن يؤيده قوله صلى اللّه عليه و سلم حين راى زينب سبحان اللّه مقلب القلوب فانها تدل على انه تعالى قلّب قلب النبي صلى اللّه عليه و سلم الى ان يتزوجها بعد ما كان فى قلبه ان يزوجها زيدا وَ تَخْشَى النَّاسَ عطف على تخفى يعنى تخاف لائمة الناس ان يقولوا امر رجلا ان يطلق امرأته وَ اللّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ الجملة حال من فاعل تخشى قال عمرو ابن مسعود و عائشة رضى اللّه عنهم ما نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اية هى أشد من هذه الاية و روى عن مسروق قال قالت عائشة لو كتم النبي صلى اللّه عليه و سلم شيئا مما اوحى اليه لكتم وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّه مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ-

قال البغوي لم يرد اللّه بهذه الاية انه صلى اللّه عليه و سلم لم يكن يخشى اللّه فانه صلى اللّه عليه و سلم قال انى أخشاكم و أتقاكم-

قلت و قد قال اللّه تعالى فى شأن الأنبياء كلهم يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللّه و لكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر ان اللّه أحق بالخشية فى عموم الأحوال و فى جميع الأشياء قلت فمعنى الاية انك تخشى لائمة الناس و تخشى اللّه أشد خشية من خشية الناس فان اللّه أحق ان تخشاه فمن أجل خشية الناس و الحياء منهم أخفيت ما أضمرت و من أجل خشية اللّه أمرت بالمعروف و لم تترك شيئا مما أمرك اللّه به و لا منافاة بينهما و معنى قوله تعالى لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللّه انهم لا يخشون أحدا فيما يفضى خشيتهم ترك امتثال امر اللّه تعالى و اما خشية الناس حياء فيما عدا ذلك فحسن فان الحياء من الايمان متفق عليه مرفوعا من حديث ابن عمر و فى الصحيحين عن عمران بن حصين قوله صلى اللّه عليه و سلم الحياء خير كله- و عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم ان الحياء و الايمان قرنا جميعا فاذا رفع أحدهما رفع الاخر- و فى رواية ابن عباس فاذا سلب أحدهما تبعه الاخر- رواه البيهقي فى شعب الايمان و روى مالك عن زيد بن طلحة مرسلا و ابن ماجة و البيهقي فى شعب الايمان عن انس و ابن عباس انه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان لكل دين خلقا و خلق الإسلام الحياء و اللّه اعلم-

و اخرج مسلم و احمد و النسائي و ابو يعلى و ابن ابى حاتم و الطبراني و ابن مردوية و ذكره البغوي و هذا لفظ البغوي عن انس انه قال لمّا انقضت عدة زينب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لزيد اذهب فاذكرها علىّ فانطلق زيد حتى أتاها و هى تخمّر عجينها قال زيد فلمّا رايتها عظمت فى صدرى حتى ما أستطيع ان انظر إليها حين علمت ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذكرها فوليتها ظهرى و نكصت على عقبى فقلت يا زينب أرسلني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بذكرك قالت ما انا بصانعة حتى او امر ربى فقامت الى مسجدها و نزل القران فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً الاية و جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و دخل عليها بغير اذن فقال لقد رايتنا ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أطعمنا الخبز و اللحم حتى امتد النهار فخرج الناس و بقي رجلان يتحدثون فى البيت بعد الطعام فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاتبعته فجعل يتبع حجر نسائه يسلم عليهن و يسلمن عليه و يقلن يا رسول اللّه كيف وجدت أهلك فقال ما أدرى انا أخبرت ان القوم قد خرجوا او أخبروني فانطلق حتى دخل البيت قال انس فذهبت ادخل معه فالقى السّتر بينى و بينه و نزل الحجاب- قوله تعالى فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها اى من اهله و هى زينب بنت جحش وطرا اى حاجة بحيث ملّها و لم يبق له فيها حاجة و طلقها و انقضت عدتها قيل قضاء الوطر كناية عن الطلاق زَوَّجْناكَها اى جعلنها زوجتك روى البخاري و احمد و الترمذي و الحاكم و ابن مردوية و عبد بن حميد و البيهقي فى سننه عن انس انه قال كانت زينب تفخر على ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم و تقول زوجكن اهاليكن و زوجنى اللّه من فوق سبع سماوات و فى لفظ ان اللّه تولّى نكاحى و انتنّ زوجكن اولياؤكن

قال البغوي قال الشعبي كانت زينب تقول للنبى صلى اللّه عليه و سلم انى لادل عليك بثلاث ما من نسائك امراة تدل بهن جدى و جدك واحد و انى أنكحنيك اللّه فى السماء و ان السفير لجبرئيل عليه السلام و عن انس قال ما أولم النبي ما أولم بزينب أولم بشاة و عن انس قال أولم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين ابتنى بزينب بنت جحش فاشبع المسلمين خبزا و لحما لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ اى ضيق بالتحريم فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ جمع دعىّ و هو المتبنى يعنى زوجناك زينب امرأة زيد الذي تبنيته ليعلم ان زوجة المتبنى حلال و ان كان قد دخل بها المتبنى بخلاف امراة ابن الصلب فانها لا تحل للاب- و فيه دليل على ان حكم الرسول و حكم الامة واحد ما لم يقم دليل على تخصيص الحكم بالنبي صلى اللّه عليه و سلم إِذا قَضَوْا اى الأدعياء مِنْهُنَّ اى من أزواجهم وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللّه اى قضاؤه مَفْعُولًا (٢٧) مكونا لا محالة كما كان تزويج زينب.

٣٨

ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ متعلق بمضمون من حرج لا من لفظه لان معمول المجرور لا يتقدم على الجار مِنْ حَرَجٍ اى ضيق من زائدة و حرج اسم كان فِيما فَرَضَ اللّه لَهُ اى فيما قسم له و قدر له من عدد النساء من قولهم فرض له فى الديوان و منه فروض العسكر لارزاقهم و قيل معنا فيما أحل له سُنَّةَ اللّه مصدر لفعل محذوف اى سنّ اللّه سنّة او منصوب بنزع الخافض اى كسنّة اللّه او على الإغراء اى التزموا سنة اللّه فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ من الأنبياء الماضين قال الكلبي أراد داؤد عليه السلام حيث جمع بينه و بين المرأة التي هواها فكذلك جمع بين محمد صلى اللّه عليه و سلم و زينب و قيل أشار بالسنّة الى النكاح فانه سنّة الأنبياء و قيل أشار الى كثرة الأزواج مثل داود و سليمان عليه السلام وَ كانَ أَمْرُ اللّه قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) اى قضاء ماضيا لا محالة.

٣٩

الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّه صفة للذين خلوا من قبل او مدح لهم منصوب او مرفوع وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللّه كما أنت تخشى اللّه و لا تخشى غيره فيما أمرك اللّه به و نهاك عنه وَ كَفى بِاللّه حَسِيباً (٣٩) كافيا للمخاوف او محاسبا فينبغى ان لا يخشى الا منه.

اخرج الترمذي عن عائشة انها قالت لما تزوج النبي صلى اللّه عليه و سلم زينب قال الناس تزوج حليلة ابنه فانزل اللّه تعالى.

٤٠

ما كانَ مُحَمَّدٌ صلى اللّه عليه و سلم أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ يعنى ليس محمد صلى اللّه عليه و سلم أبا لزيد ابن حارثة فيحرم عليه نكاح زوجته-

فان قيل كان له أبناء القاسم و الطيب و الطاهر و ابراهيم و كذلك الحسن و الحسين فان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال للحسن ان ابني هذا سيد

قلنا ان أبناء الرسول صلى اللّه عليه و سلم ماتوا صغارا لم يبلغوا مبلغ الرجال و اطلاق الابن على الحسنين عليهما السلام على التجوز وَ لكِنْ رَسُولَ اللّه و كل رسول اب لامته لكن لا من حيث النسب حتى يحرم عليه ما يحرم بالنسب بل من حيث الشفقة و النصيحة وَ خاتَمَ قرأ عاصم بفتح التاء على الاسم بمعنى الاخر و الباقون بكسر التاء على وزن فاعل يعنى الذي ختم النَّبِيِّينَ حتى لا يكون بعده نبى قال ابن عباس يريد اللّه سبحانه انه لو لم يكن اختم به النبيين لجعلت ابنه بعده نبيّا و روى عطاء عن ابن عباس ان اللّه تعالى لما حكم ان لا نبى بعده لم يعطه ولدا ذكرا يعنى رجلا- اخرج ابن ماجة من حديث ابن عباس انه صلى اللّه عليه و سلم قال فى ابراهيم حين توفى لو غاش لكان نبيّا- و لا يقدح فيه نزول عيسى بعده لانه إذا ينزل يكون على شريعته مع ان عيسى عليه السلام صار نبيّا قبل محمد صلى اللّه عليه و سلم و قد ختم اللّه سبحانه الاستنباء بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و بقاء نبى سابق لا ينافى ختم النبوة وَ كانَ اللّه بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (٤٠) فيعلم من يليق به ختم النبوة و كيف ينبغى شأنه عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مثلى و مثل الأنبياء كمثل قصر احسن بنيانه و ترك منه موضع لبنة فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنيانه الا موضع تلك اللبنة فكنت انا سددتّ موضع اللبنة ختم بي البنيان و ختم بي الرسل- و فى رواية فانا اللبنة و انا خاتم النبيين- متفق عليه و عن جبير بن مطعم رضى اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان لى اسماء انا محمد و انا احمد و انا الماحي الذي يمحو اللّه بي الكفر و انا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمى و انا العاقب الذي ليس بعده نبى متفق عليه و عن ابى موسى الأشعري قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يسمى لنا نفسه اسماء فقال انا محمد و احمد و المقفى و الحاشر و نبى التوبة و نبى الرحمة- رواه مسلم-.

٤١

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللّه ذِكْراً كَثِيراً (٤١) قال ابن عباس لم يفرض اللّه على عباده فريضة الا جعل لها حدّا معلوما ثم عذّر أهلها فى حال العذر غير الذكر فانه لم يجعل له حدّا ينتهى اليه و لم يعذر أحدا فى تركه الا مغلوبا على عقله فامر به فى الأحوال كلها فقال فَاذْكُرُوا اللّه قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ و قال اذْكُرُوا اللّه ذِكْراً كَثِيراً بالليل و النهار فى البر و البحر و الصحة و السقم فى السر و العلانية-

و قال مجاهد الذكر الكثير ان لا ينساه ابدا قلت و هذا لا يتصور الا بعد فناء القاب و دوام الحضور.

٤٢

وَ سَبِّحُوهُ اى صلوا له بُكْرَةً يعنى صلوة الصبح وَ أَصِيلًا (٤٢) قال الكلبي يعنى صلوة الظهر و العصر و العشاءين

و قال مجاهد يعنى قولوا سبحان اللّه و الحمد للّه و لا اله الا اللّه و اللّه اكبر و لا حول و لا قوة الا باللّه العلىّ العظيم فعبر بالتسبيح عن أخواته و قيل المراد بالذكر الكثير هذه الكلمات يقولها الطاهر و المحدث و الجنب-

قلت امر اللّه سبحانه اولا بتعميم الذكر ابدا بحيث لا ينساه ثم خصه باوقات مخصوصة فالمراد بالأول هو الذكر الخفي و الحضور الدائم و بالثاني الذكر الجلى و العبادات الراتبة من الفرائض و السنن- و قيل خص اوّل النهار و آخره بالذكر لان ملائكة الليل و النهار يجتمعون فيها- عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل و ملائكة بالنهار و يجتمعون فى صلوة الفجر و صلوة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسئلهم ربهم (و هو اعلم بهم) كيف تركتم عبادى فيقولون تركناهم و هم يصلون و اتيناهم و هم يصلون- متفق عليه و قيل بُكْرَةً وَ أَصِيلًا معمولان للفعلين على سبيل التنازع و الفعلان كلاهما متوجهان إليهما يعنى اذكروه بكرة و أصيلا و سبّحوه بكرة و أصيلا يعنى أدوا الصلوات و سائر العبادات ذاكرا للّه حاضرين غير غافلين عن ابى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يزال اللّه عزّ و جلّ مقبلا على العبد و هو فى صلاته ما لم يلتفت و إذا التفت انصرف عنه رواه احمد و ابو داود و النسائي و الدارمي-

قال البغوي قال انس لما نزلت إِنَّ اللّه وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال ابو بكر ما خصك اللّه بشرف الا و قد أشركنا فيه فانزل اللّه تعالى.

٤٣

هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ

و اخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه

قال البغوي الصلاة من اللّه رحمة و من الملئكة استغفار و قيل الصلاة من اللّه على العبد اشاعة الذكر الجميل له فى العباد و قيل الثناء عليه- و فى القاموس الصلاة الدّعاء و الرحمة و الاستغفار و حسن الثناء من اللّه تعالى على رسوله و عبادة فيها ركوع و سجود- و هذه العبارة تقتضى كونها لفظا مشتركا فمن أجاز استعمال اللفظ المشترك فى الأكثر من معنى واحد أجاز ان يكون معناه ان اللّه يرحم عليكم و ملائكته يستغفرونه لكم- و اما عند الجمهور فلا يجوز عموم المشترك فيقال المراد بالصلوة هاهنا المعنى المجازى المشترك بين المعنيين الحقيقيين و هو العناية لصلاح أمركم و ظهور شرفكم و يسمى عموم المجاز- و قال كثير من اهل اللغة الصلاة هو الدعاء يقال صليت عليه اى دعوت له قال عليه السلام إذا دعى أحدكم الى طعام فليجب و ان كان صائما فليصل اى ليدع لاهله و قال اللّه تعالى صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ و انما سميت الأركان المخصوصة صلوة لاشتمالها على الدعاء و هو قوله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ تسمية الكل باسم الجزء و الصلاة من اللّه تعالى على عباده ان يطلب من نفسه لاجل عباده الرحمة و المغفرة و يناسب الطلب من نفسه الإيجاب من نفسه على نفسه المستفاد من قوله تعالى كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فان الإيجاب و الطلب بمعنى واحد فان الطلب حتما هو الإيجاب و المراد بالإيجاب الالتزام تفضلا و إذا أريد بالصلوة هاهنا الدعاء لا يلزم عموم المشترك-

قال البغوي قال النبي صلى اللّه عليه و سلم قالت بنوا إسرائيل لموسى أ يصلي ربنا فكبر هذا الكلام على موسى فاوحى اللّه اليه ان قل لهم انى أصلي و ان صلاتى رحمتى وسعت كل شى ء لِيُخْرِجَكُمْ يعنى انه برحمته و دعاء الملائكة يديم إخراجكم مِنَ الظُّلُماتِ اى ظلمات الكفر و المعاصي إِلَى النُّورِ اى نور الايمان و الطاعة و يمكن ان يقال ليخرجكم ساعة بعد ساعة ابدا من ظلمات البعد الى نور القرب و من استوى يوماه فهو مغبون وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) حيث اعتنى بصلاح أمرهم و إعلاء قدرهم و استعمل فى دعائهم الملائكة المقربين الجملة معطوفة على الصلة اى الّذى يصلّى عليكم و الذي كان بالمؤمنين رحيما.

٤٤

تَحِيَّتُهُمْ اى تحية المؤمنين منه تعالى أضيف الصدر الى المفعول اى يجبون منه تعالى يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ يعنى يوم لقائهم إياه سبحانه يعنى عند الموت او الخروج من القنبر او دخول الجنة او عند رؤية اللّه سبحانه سَلامٌ اى يسلم اللّه عليهم تحية و يسلمهم اللّه من جميع المكاره

قال البغوي روى عن البراء بن عازب قال تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ يعنى يوم يلقون ملك الموت سلام اى لا يقبض روح مسلم الأسلم عليه- و عن ابن مسعود قال إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال ربك يقرأك السلام و قيل يسلم عليهم الملائكة و يبشرهم حين اخرجوا من قبورهم وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤) يعنى الجنة و رؤية اللّه و رضوانه.

٤٥

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على أمتك اخرج ابن المبارك عن سعيد ابن المسيب قال ليس من يوم الا و يعرض على النبي صلى اللّه عليه و سلم أمته غدوة و عشية فيعرفهم بسيماهم و لذلك يشهد عليهم او شاهدا لامتك مصدقا لهم حين يشهدون للرسل على الأمم بالتبليغ اخرج البخاري و الترمذي و النسائي و ابن ماجة عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلّغت فيقول نعم فيدعى أمته فيقال لهم هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير ما أتانا أحد فيقال من يشهد لك فيقول محمد و أمته الحديث- و فى الباب أحاديث كثيرة فهو حال مقدرة كقولك مررت برجل معه صقر صائدا به غدا وَ مُبَشِّراً بالجنة من أمن بالرسل وَ نَذِيراً (٤٥) بالنار لمن كذب الرسل.

٤٦

وَ داعِياً إِلَى اللّه اى الى توحيده و طاعته او الى جنته او لقائه الغير المتكيفة بِإِذْنِهِ اى بامره و تيسيره قيد به الدعوة إيذانا بانه امر صعب لا يتاتى الا بمعونة من جناب قدسه خصوصا الدعوة الى لقائه فان إيصال العبد اليه تعالى امر لا يمكن الا بفضله قال اللّه تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ... إِلى «١» صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ- عن ربيعة الجرشى قال اتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقيل له لتنم عيناك و لتسمع اذنك و لتعقل قلبك قال فنامت عينى و سمعت إذ ناى و عقل قلبى قال فقيل لى سيد بنى دارا و صنع مأدبة و أرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار و أكل من المأدبة و رضى عنه السيد و من لم يجب الداعي لم يدخل الدار و لم يأكل من المأدبة و سخط عليه السيد قال فاللّه السيد و محمد الداعي و الدار الإسلام و المأدبة الجنة- رواه الدارمي وَ سِراجاً مُنِيراً (٤٦) سماه سراجا لانه يستضاء به و يهتدى به كالسراج يستضاء به و يهتدى به فى ظلمة الليل يعنى انه صلى اللّه عليه و سلم كان بلسانه داعيا الى اللّه و بقلبه و قالبه كان مثل السراج يتلون المؤمنون بألوانه و يتنورون بانواره كالعالم يتنور بنور الشمس و البيت بالسراج- و لاجل ذلك اختصت الصحابة رضى اللّه عنهم بمزيد الفضل على الناس فان علومه التي تلقتها الامة من لسانه لم يتفاوت فيه الناس من الصحابة و غيرهم بل رب مبلغ اوعى من سامع- و اما التنوّر بانواره فانه و ان كان حاصلا للناس بتوسط أصحابه و اصحاب أصحابه الى يوم القيامة لكن ليس النائب فيه كالشاهد بل مثله كمثل بيت تنوّر بنور الساحة

(١) هكذا فى الأصل و فى القران بعد مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ جمع المؤلف قدس سرّه جملتين من مقامين- ابو محمد عفا اللّه عنه.

التي تنوّرت بنور الشمس لاجل مقابلتها و اين هذا من ذلك و اللّه اعلم- عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد اللّه بن عمرو بن العاص قلت أخبرني عن صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى التورية قال أجل و اللّه انه لموصوف فى التورية ببعض صفته فى القران يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً و حرزا للاميين أنت عبدى و رسولى سميتك المتوكل ليس بفظ و لا غليظ و لا سخاب فى الأسواق و لا يدفع بالسيئة السيئة و لكن يعفو و يغفر لن يقبضه اللّه حتى يقيم به الملة العوجاء بان يقولوا لا اله الا اللّه و يفتح به أعينا عمياء و اذنا صماء و قلوبا غلقاء- رواه البخاري و كذا الدارمي عن عطاء بن سلام نحوه و اللّه اعلم- اخرج البيهقي فى دلائل النبوة عن الربيع بن انس انه قال لما نزلت ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ثم نزل بعدها لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ قال رجال من المؤمنين هنيئا لك يا رسول اللّه قد علمنا ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت.

٤٧

وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللّه فَضْلًا كَبِيراً (٤٧) و كذا اخرج ابن جرير عن عكرمة و الحسن و قال انس الفضل الكبير الجنة و الجملة معطوفة على انّا أرسلناك.

٤٨

وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ فيما يخالف شريعتك تحريض له على ما هو عليه من مخالفتهم وَ دَعْ أَذاهُمْ قال ابن عباس و قتادة يعنى اصبر على إيذائهم إياك فالمصدر مضاف الى الفاعل و المعنى اجعل إيذاءهم إياك فى جانب و لا تبال به و لا تخف منه و قال الزجاج يعنى لا تجادلهم و لا تتصد على اذاهم يعنى لا تؤذهم فالمصدر مضاف الى المفعول و على هذا قيل انه منسوخ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّه فانه يكفيك وَ كَفى بِاللّه وَكِيلًا (٤٨) يعنى إذا جعلت اللّه موكولا اليه أمورك فهو يكفيك لا يدع حاجة لك الى غيره

قال البيضاوي وصف اللّه نبيه صلى اللّه عليه و سلم بخمس صفات و قابل كلّا منها بخطاب يناسبه فحذف مقابل الشاهد و هو الأمر بالمراقبة لان ما بعده كالتفصيل له و قابل المبشر بالأمر ببشارة المؤمنين و النذير بالنهى عن مراقبة الكفار و المبالاة بأذاهم و الداعي الى اللّه بتيسيره بالأمر بالتوكل عليه و السراج المنير بالاكتفاء به فانه من إنارة برهانا على جميع خلقه كان حقيقا ان يكتفى به عن غيره.

٤٩

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ خص المؤمنات بالذكر مع ان نكاح المؤمنين بالكتابيات ايض ا جائز و حكمهن فى الطلاق قبل الدخول مثل حكم المؤمنات ايماء الى ان اللائق بالمؤمنين ان ينكح المؤمنة دون الكتابية ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ

قال البغوي فيه دليل على ان الطلاق قبل النكاح غير واقع لان اللّه رتب الطلاق على النكاح حتى لو قال لامراة اجنبية إذا نكحتك فانت طالق او قال كل امرأة انكحها فهى طالق فنكحها لا يقع الطلاق و هو قول على و ابن عباس و معاذ و جابر و عائشة رضى اللّه عنهم و به قال سعيد بن المسيب و سعيد ابن جبير و عروة و القاسم و طاءوس و الحسن و عكرمة و عطاء و سليمان بن يسار و مجاهد و الشعبي و قتادة و اكثر اهل العلم و به قال الشافعي و كذا قولهم فى الاعتاق المعلق بالملك- و روى عن ابن مسعود انه يقع الطلاق و هو قول ابراهيم النخعي و اصحاب الرأى اعنى أبا حنيفة و أصحابه و قال ربيعة و الأوزاعي و مالك ان عين امراة يقع و ان عمم امراة لا يقع و روى عن عكرمة عن ابن عباس انه قال كذبوا على ابن مسعود و ان كان قالها فزلة من عالم و ان قال فى الرجل ان تزوجت فلانة فهى طالق يقول اللّه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ و لم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن- و استدل البغوي بحديث جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لاطلاق قبل النكاح-

قلت أخرجه الحاكم فى المستدرك و صححه و قال انا متعجب من الشيخين كيف اهملاه و هو على شرطهما- و قال احمد ان علق طلاق الاجنبية بالنكاح ينعقد و ان علق العتاق بالملك فعن احمد فيه روايتان- و قال مالك ان خص بلدا او قبيلة او صنفا او امرأة و علق طلاقها بالنكاح ينعقد و ان عمم مطلقا لا ينعقد- و احتج ابن الجوزي لمذهب احمد بستة أحاديث- أحدها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه عليه و سلم ليس على رجل طلاق فيما لا يملك و لاعتاق فيما لا يملك و لا بيع فيما لا يملك- رواه ابن الجوزي من طريق احمد و رواه اصحاب السنن و قال الترمذي هو احسن شى ء روى فى هذا الباب و رواه البزار بلفظ لاطلاق قبل نكاح و لا عتق قبل ملك- قال البيهقي فى الخلافيات قال البخاري هذا أصح شى ء فى الباب- ثانيها حديث عمرو بن شعيب عن طاؤس عن معاذ بن جبل ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لا يجوز طلاق و لا عتاق و لا بيع و لا وفاء نذر فيما لا يملك- رواه الدار قطنى و روى الدار قطنى من طريق اخر عن ابراهيم ابى إسحاق الضرير عن يزيد بن عياض عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن معاذ بن جبل قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا طلاق الا بعد نكاح و ان سميت المرأة بعينها قال الحافظ ابن حجر منقطع و يزيد بن عياض متروك و ذكر الذهبي فى استيعاب اسماء الرجال قال مالك يزيد بن عياض كذاب و قال يحيى بن معين ضعيف ليس بشئ و قال احمد بن صالح كان يضع للناس يعنى الحديث و قال البخاري و مسلم منكر الحديث و قال ابو داود ترك حديثه و قال النسائي متروك و قال فى موضع اخر كذاب- ثالثها ما رواه الدار قطنى قال حدثنا بقية بن الوليد عن ثور بن يزيد عن خالد ابن معدان عن ابى ثعلبة الخشني قال قال لى عم لى اعمل بي عملا حتى أزوجك لبنتى فقلت ان تزوجتها فهى طالق ثلاثا ثم بد الى ان أتزوجها فاتيت النبي صلى اللّه عليه و سلم فسالته فقال لى تزوجها فانه لاطلاق الا بعد نكاح فتزوجتها فولدت لى اسعد و سعيدا- قال الذهبي فى الميزان قال النسائي و غيره بقية بن الوليد إذا قال حدثنا و أخبرنا فهو ثقة قال غير واحد كان مدلسا فاذا قال عن فليس بحجة و ثور بن يزيد ثقة صحيح الحديث مشهور بالقدر و هذا رواية بقية بلفظ عن و طعن ابن همام على هذا و قال فيه على بن قرين كذبه احمد قلت ما رواه ابن الجوزي ليس من طريق الدار قطنى و ليس فيه على بن قرين و اللّه اعلم.

رابعها حديث ابن عمر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انه سئل عن رجل انه قال يوم أتزوج فلانة فهى طالق قال طلق ما لا يملك- رواه الدار قطنى و فيه ابو خالد الواسطي و هو عمرو بن خالد قال الذهبي ضعفه ابو حاتم و قال ابن همام قال احمد و ابن معين كذاب و رواه ابن عدى عن نافع عنه بلفظ لا طلاق الا بعد نكاح قال ابن حجر اسناده ثقات.

خامسها حديث طاؤس عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا نذر الا فيما اطيع اللّه فيه و لا يمين فى قطعة رحم و لا طلاق و لا عتاق فيما لا يملك رواه الدار قطنى و رواه الحاكم من طريق اخر و فيه من لا يعرف كذا قال ابن حجر و روى الحاكم عن ابن عباس ما قالها ابن مسعود و ان كان قالها فزلة من عالم فى الرجل يقول ان تزوجت فلانة فهى طالق و قد قال اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ و لم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن- و قيل لا يصح عن النبي صلى اللّه عليه و سلم لا طلاق قبل نكاح و أصح شى ء فيه حديث المنكدر عن طاؤس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم مرسلا.

سادسها حديث عائشة قالت بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أبا سفيان ابن حرب على نجران اليمن فكان فيما عهد اليه ان لا يطلق الرجل ما لا يتزوج و لا يعتق ما لا يملك- قال ابن حجر قال ابن ابى حاتم فى العلل حديث منكر و رواه الحاكم من طريق الحجاج ابن منهال عن هشام الدستوائى عن عروة عن عائشة مرفوعا قال ابن الجوزي و قد روى نحو هذا من حديث على و جابر و لكنها طرق مجتنبة بمرة-

قلت اما حديث على فرواه ابن ماجة عنه يرفعه لا طلاق قبل النكاح و فيه جويبر و هو ضعيف و اما حديث جابر فقد ذكرنا من قبل و فى الباب حديث المسور بن مخرمة انه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا طلاق قبل النكاح و لا عتق قبل الملك- وجه قول ابى حنيفة ان المعلق بالشرط ليس بطلاق فان التعليق بالشرط مانع من ان يكون السبب سببا دون الحكم فقوله ان دخلت الدار فانت طالق و كذا قوله ان نكحتك فانت طالق يمين مانع من دخول الدار و من النكاح الذين هما شرطان لوجود الطلاق فهو مانع من الطلاق فلا يصلح ان يكون سببا موجبا للطلاق لتمانع الوصفين اعنى كونه مانعا و كونه سببا لكن له عرضة ان يصير طلاقا عند الحنث و هو وجود الشرط و إذا لم يكن طلاقا فلا يجوز الاحتجاج بالآية و الأحاديث الناطقة بنفي الطلاق قبل النكاح و اما حديث ابن عمر و حديث ابى ثعلبة الخشني فلا يصح شى ء منهما و قد ذكرنا وجه القدح فيهما

فان قيل إذا لم يكن المعلق بالشرط طلاقا فما وجه الفرق بين قوله للاجنبية ان دخلت الدار فانت طالق و ان نكحتك فانت طالق حيث ينعقد الثاني دون الاول

قلنا وجه الفرق ان اليمين ما يكون مانعا من الفعل اما بخوف الإثم كما فى اليمين باللّه تعالى و اما بخوف الوقوع فيما لا يريد من الطلاق او العتاق او نحو ذلك و لا شك ان تعليق الطلاق و العتاق بالملك يصلح مانعا من التملك بخلاف تعليق الطلاق و العتاق للاجنبية بدخول الدار حيث لا يصلح ان يكون مانعا لها من دخول الدار فلا يصلح ان يكون يمينا كما لا يصلح ان يكون طلاقا فيلغو- قال ابن همام و مذهبنا مروى عن عمرو ابن مسعود و ابن عمرو اخرج ابن ابى شيبة فى مصنفه عن سالم و القاسم ابن محمد و عمر بن عبد العزيز و الشعبي و النخعي و الزهري و الأسود و ابى بكر بن عبد الرحمان و مكحول الشامي فى رجل قال ان تزوجت فلانة فهى طالق او لو أتزوجها فهى طالق او كل امرأة أتزوجها فهى طالق قالوا هو كما قال و فى لفظ يجوز عليه ذلك و قد نقل مذهبنا ايضا عن سعيد بن المسيب و عطاء و حماد بن ابى سليمان و شريح رحمهم اللّه و قال الشافعي المعلق بالشرط تطليق و التعليق ليس مانعا من سببية السبب بل هو مانع من الحكم كالبيع بشرط الخيار و حديث ابى ثعلبة الخشني نص فيه مفسر و قد ذكره ابن الجوزي بسنده و لم يتعرض بالطعن عليه و هو غير متهم فى اظهار الحق و قوله صلى اللّه عليه و سلم لا طلاق قبل النكاح و ما فى معناه الظاهر انه منع او نفى لتعليق الطلاق بالنكاح و اما تنجيز الطلاق قبل النكاح فلا يتصور من عاقل و بطلانه ظاهر فلا يحمل عليه كلام الحكيم الرسول الكريم صلى اللّه عليه و سلم فانه حينئذ فى قوة قول من يقول لا يجب الصلاة على من لم يولد بعد- مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ اى تجامعوهن فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ ايام يتربصن فيها تَعْتَدُّونَها تستوفون عددها هذا حكم اجمع عليه الامة و فى قوله تعالى فما لكم دلالة على ان العدة حق الرجال لانها لصيانة الماء و عدم وقوع الشك فى النسب و النسب الى الرجال- و من هاهنا قال ابو حنيفة انه إذا طلق ذمى ذمية و كان معتقدهم انه لا عدة فلا عدة عليها و اما إذا كان معتقدهم وجوب العدة يجب عليها العدة و الحربية إذا خرجت إلينا مسلمة فلا عدة عليها و ان تزوجت على الفور جاز نكاحها لان الحربي يلحق بالجمادات حتى كان محلا للتملك فلا حق له الا ان تكون حاملا لان فى بطنها ولد ثابت النسب- و عن ابى حنيفة انه يجوز النكاح و لا يطاها كالحبلى من الزنى و الاول أصح فَمَتِّعُوهُنَّ اى أعطوهن ما يستمتعن به قال ابن عباس هذا إذا لم يسم لها صداقا فلها المتعة فان كان قد فرض لها صداق فلها نصف الصداق و لا متعة لها فالاية على قول ابن عباس مخصوصة و قال قتادة هذه الاية منسوخة بقوله تعالى فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ و مرجع القولين واحد يعنى لا متعة وجوبا و لا استحبابا لمن طلّقت قبل المسيس و قد سمى لها مهرا- و قيل هذا امر ندب فالمتعة لها مستحب مع نصف المهر و روى عن الحسن و سعيد بن جبير ان المتعة لها واجب بهذه الاية و نصف المسمّى بما فى البقرة و قد ذكرنا الخلاف فى وجوب المتعة و استحبابها و مقدارها فى سورة البقرة فلا نعيده وَ سَرِّحُوهُنَّ اى اخرجوهن من بيوتكم و خلوا سبيلهن إذ ليس لكم عليهن من عدة سَراحاً جَمِيلًا (٤٩) من غير ضرار ..

٥٠

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ يعنى مهورهن لان المهر اجر على البضع و تقييد الاحلال له بإعطائها انما هو خرج على حسب الواقع و مخرج عادة النبي صلى اللّه عليه و سلم فانه كان يعطهن مهورهن معجلة او لايثار الأفضل و لا مفهوم له اجماعا وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللّه عَلَيْكَ يعنى رد اللّه عليك من الكفار بان تسبى فتملك مثل صفية و جويرية و هذا القيد ليس للاحتراز ايضا و لا مفهوم لها عند القائلين بالمفهوم لان مارية أم ابراهيم لم تكن مسبية بل كانت مما اهدى اليه مقوقس وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمَّاتِكَ يعنى نساء قريش وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ يعنى نساء بنى زهرة اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ و كلمة مع للموافقة فى نفس الفعل لا بحسب الزمان كما فى قوله تعالى سْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ و المراد المهاجرات مطلقا

قال البغوي فمن لم يهاجر منهن لم يجز نكاحها اخرج الترمذي و حسنه و الحاكم و صححه من طريق السدى عن ابى صالح عن ابن عباس عن أم هانى بنت ابى طالب ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما فتح مكة خطبنى فاعتذرت اليه فعذرنى فانزل اللّه هذه الاية فلم أحل له لانى لم أكن من المهاجرات و كنت من الطلقا «١»

(١) و عن ابى صالح مولى أم هانى قال خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أم هانى بنت ابى طالب فقالت يا رسول اللّه انى مرتمة و بنى صغار فلما أدرك بنوها عرضت نفسها عليه فقال اما الان فلا ان اللّه انزل علىّ يايّها النّبىّ انّا أحللنا لك أزواجك الى قوله الّتى هاجرن معك و لم تكن من المهاجرات- منه رحمه اللّه.

و روى ابن ابى حاتم من طريق إسماعيل بن ابى خالد عن ابى صالح عن أم هانى قالت نزلت فىّ هذه الاية وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمَّاتِكَ وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ أراد النبي صلى اللّه عليه و سلم ان يتزوجنى فنهى عنى إذ لم أهاجر-

قال البغوي ثم نسخ شرط الهجرة فى التحليل و قيل المراد بالهجرة الإسلام اى اسلمن معك قال رسول اللّه المهاجر من هجر ما نهى اللّه عنه- رواه البخاري و بتأويلهم ذلك يدل على انه لم يكن نكاح غير المسلمة من اليهودية و النصرانية حلالا له عليه الصلاة و السلام وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ

قال البغوي فاما غير المؤمنة فلا تحل له إذا وهبت نفسها له و اختلفوا فى انه هل كان حلالا له نكاح اليهودية و النصرانية بالمهر فذهب جماعة الى انه لا يحلّ له ذلك لقوله تعالى وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً و قد ذكرنا تأويل بعضهم قوله تعالى اللَّاتِي هاجَرْنَ معك بالإسلام شرط مستغن عن الجزاء بما مضى و قوله و امرأة منصوب بفعل فسره ما قبله يعنى و نحل لك امراة مؤمنة او عطف على ما سبق و لا يدفعه التقييد بان التي للاستقبال فان معنى الاحلال الاعلام بالحل اى أعلمناك حل امرأة مؤمنة تهب نفسها لك و لا تطلب مهرا ان اتفق و لذلك نكرها إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها شرط للشرط الاول معنى تقديره ان أراد النّبىّ ان يستنكح الواهبة نفسها أحللنا له ان وهبت نفسها فان هبتها نفسها شطر للنكاح فانها بمنزلة الإيجاب منها لا توجب له حلها ما لم يرد النبي نكاحها فانها جارية مجرى القبول بها يتم النكاح فالحل موقوف على كلا الشرطين و هما شطرا العلة اى النكاح و العدول من الخطاب الى الغيبة بلفظ النبي مكررا ثم الرجوع اليه بقوله خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ حيث يجب عليهم المهر بالوطى او الموت و ان لم يذكر إيذان بانه مما خص به لشرف نبوته و تقرير لاستحقاق الكرامة لاجله و خالصة مصدر مؤكد على وزن عافية اى خلص إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلوصا لك و هذا التأويل انما يتصور إذا كانت القيود احترازية و الظاهر انه حال من الضمير فى وهبت و المعنى انه وهبت حال كونها خالصة لك بلا مهر او صفة لمصدر محذوف اى هبة خالصة- اخرج ابن سعد عن عكرمة فى قوله تعالى وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً الاية قال نزلت فى أم شريك الدوسية

و اخرج ابن سعد عن منير بن عبد اللّه الدوسي ان أم شريك عزية بنت جابر بن حكيم الدوسي عرضت نفسها على النبي صلى اللّه عليه و سلم و كانت جميلة فقبلها فقالت عائشة ما فى امراة حين تهب نفسها لرجل خير قالت أم شريك فانا تلك فسماها اللّه مؤمنة فقال وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ فلمّا نزلت هذه الاية قالت عائشة ان اللّه يسرع لك فى هواك.

اخرج ابن سعد عن ابى رزين قال همّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان يطلق من نسائه فلمّا راين ذلك جعلنه فى حل من انفسهن يؤثر من يشاء على من يشاء منهن فانزل اللّه تعالى إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الى قوله تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الاية و قوله تعالى خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يدل على انه كان من خصائص النبي صلى اللّه عليه و سلم ان ينعقد النكاح فى حقه بغير مهر و ذلك هو المراد بقوله تعالى إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ يعنى ان زوجت نفسها بغير مهر كما ان الزيادة على اربع من النساء كان من خصائصه صلى اللّه عليه و سلم و قيل هذه الاية تدل على ان انعقاد النكاح بلفظ الهبة كان من خصائص النبي صلى اللّه عليه و سلم و لا يجوز ذلك لغيره

قال البغوي و هو قول سعيد بن المسيب و الزهري و مجاهد و عطاء و به قال ربيعة و مالك و الشافعي قالوا لا ينعقد النكاح لغير النبي صلى اللّه عليه و سلم الا بلفظ النكاح و التزويج-

قلت و به قال احمد و ذكر فى ترجمة الاية فى اختلاف الائمة قول احمد انه ينعقد النكاح بلفظ الهبة مع ذكر المهر- و قال ابو حنيفة رح انعقاد النكاح بلفظ الهبة ليس من خصائص النبي صلى اللّه عليه و سلم بل يجوز نكاح كل أحد بلفظ الهبة و البيع و الصدقة و التمليك و كل لفظ وضع لتمليك العين مؤبدا و لا يجوز بلفظ الاجارة و الاعارة و قال الكرخي يجوز بلفظ الاجارة و الاعارة ايضا لان الثابت بهما تمليك المنفعة و ذلك فى النكاح ايضا و قد اطلق اللّه سبحانه لفظ الاجرة على المهر حيث قال أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ

قلنا الاجارة و الاعارة ليسا سببين لملك المتعة فلا طريق للاستعارة هناك و لا بلفظ الوصية لانها توجب الملك مضافا الى ما بعد الموت و عن الطحاوي انه ينعقد به النكاح لانه يثبت به ملك الرقبة فى الجملة و عن الكرخي انه قيد الوصية بالحال فان قال أوصيت لك بنتي هذه الان ينعقد لانه صاربه مجازا عن التمليك

قلنا الاضافة ماخوذ فى مفهوم الوصية و عدمه فى النكاح فيتضادان- و قال قوم لا ينعقد النكاح الا بلفظ النكاح او التزويج فى حق النبي صلى اللّه عليه و سلم ايضا كما لا يصح فى حق الامة لقوله تعالى إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها و انما اطلق لفظ الهبة فى الاية على النكاح مجازا.

قال البيضاوي محتجا بهذه الاية على مذهب الشافعي ان اللفظ تابع للمعنى و قد خص النبي صلى اللّه عليه و سلم بالمعنى اجماعا و هذا القول غير سديد فان جواز اطلاق لفظ الهبة فى النكاح انما هو بطريق المجاز و لا وجه لتخصيص التكلم بالمجاز بحضرة الرسالة صلى اللّه عليه و سلم و النكاح يصلح ان يكون معنى مجازيا للفظ الهبة و لا اختصاص بالنبي صلى اللّه عليه و سلم لمعناه المجازى-

فان قيل معناه الحقيقي غير مراد فى الاية البتة لان المعنى الحقيقي للّهبة تمليك العين و هو غير مراد بل المراد تمليك البضع بغير عوض فاذا اختص به معناه المجازى و اللفظ تابع للمعنى فلا يجوز لغيره صلى اللّه عليه و سلم النكاح بلفظ الهبة مجازا-

قلنا المعنى المجازى للّهبة غير منحصر فى تمليك البضع بغير عوض بل يجوز ان يطلق لفظ الهبة و أريد به تمليك البضع مطلقا سواء كان بعوض او بغير عوض و قال ابن همام انما الكلام فى تحقق طريق المجاز فنفاه الشافعي بناء على انتفاء ما يجوز به التجوز اما اجمالا فلانه لو وجد لصح ان يتجوز بلفظ كل منهما عن الاخر بان يقال نكحتك هذا الثوب مرادا به وهبتك او ملكتك و ليس فليس و اما تفصيلا فلان التزويج هو التلفيق وضعا و النكاح الضم و لا ضم و لا ازدواج فى المالك و المملوك و لذا يفسد النكاح عند ورود ملك أحد الزوجين على الاخر و لو كان لم ينافه تأكد به- و لنا على الشافعي اولا النقض الإجمالي و هو انه لو لا العلاقة المصححة للمجاز بين الهبة و النكاح لما جاز نكاح النبي صلى اللّه عليه و سلم بلفظ الهبة و ذلك جائز و لمّا ثبت العلاقة المصححة للمجاز بينهما و بين النكاح بلا عوض ثبت بينها و بين مطلق النكاح ايضا لوجود الأعم فى ضمن الأخص و ثانيا ان معنى الحقيقي للّهبة تمليك العين و تمليك العين سبب لملك المتعة فى محلها بواسطة ملك الرقبة و ملك المتعة فى محلها هو الثابت بالنكاح و السببية طريق المجاز- و اما عدم جواز استعارة النكاح لتمليك العين فلما ذكر فى الأصول انه لا يجوز استعارة اسم المسبب للسبب عندنا الا إذا كان المقصود من السبب شرعيته كالبيع لملك الرقبة و ليس ملك المتعة الذي هو موجب النكاح هو المقصود من التمليك بل ملك الرقبة- و قوله لا ضم و لا ازدواج بين المالك و المملوك ممنوع و اللّه اعلم.

قال البغوي اختلفوا فى انه هل كانت عند النبي صلى اللّه عليه و سلم امرأة وهبت نفسها له قال ابن عباس و مجاهد لم تكن عنده امراة الا بعقد نكاح او ملك يمين و قوله ان وهبت نفسها للنّبىّ على طريق الشرط و الجزاء و قال آخرون كانت عنده منهن قال الشعبي هى زينب بنت خزيمة الانصارية يقال لها أم المساكين و قال قتادة ميمونة بنت الحارث و قال على بن الحسين عليهما السّلام و الضحاك و مقاتل هى أم شريك بنت جابر من بنى اسد اخرج ابن سعد و ابن ابى شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و الطبراني عن على بن الحسين و ابن سعد عن عكرمة انها أم شريك بنت جابر و قال عروة بن الزبير هى خولة بنت حكيم من بنى سليم.

قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا اى ما أوجبنا عَلَيْهِمْ اى على المؤمنين فِي أَزْواجِهِمْ من شرائط النكاح و وجوب القسم و المهر بالوطى حيث لم يسم و ان لا يتزوجوا اكثر من اربع وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ بالشراء و غيره بان يكون الامة ممن تحل لمالكها كالكتابية بخلاف المجوسية و الوثنية و ان يستبرا قبل الوطي و ما وسع اللّه الأمر فيهن فى العدد و عدم وجوب القسم و الجملة معترضة لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ متعلقة بقوله خالصة وَ كانَ اللّه غَفُوراً لما يعسّر التحرز عنه رَحِيماً (٥٠) بالتوسعة فى مضانّ الحرج.

اخرج الشيخان فى الصحيحين عن عائشة انها كانت تقول اما تستحيى المرأة ان تهب نفسها فانزل اللّه.

٥١

تُرْجِي مَنْ تَشاءُ الاية فقالت عائشة ارى ربك ليسارع لك فى هواك و فى لفظ قالت عائشة كنت أعار على اللاتي وهبن انفسهن لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أقول أ تهب المرأة نفسها فلما انزل اللّه تعالى تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الاية قلت ما ارى ربك الا يسارع فى هواك- قرا نافع و حمزة و الكسائي و حفص ترجى بإسكان الياء بغير همز و الباقون بهمزة مضمومة اى تؤخر من تشاء مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ منهن

قال البغوي اختلف المفسرون فى معنى الاية فاشهر الأقاويل انها فى القسم بينهن و ذلك ان التسوية فى القسم بينهن كان واجبا عليه فلمّا نزلت هذه الاية سقط عنه فصار الاختيار اليه فيهن قال ابو زيد و ابن زيد نزلت هذه الاية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي صلى اللّه عليه و سلم و طلب بعضهن زيادة النفقة فهجرهن النبي صلى اللّه عليه و سلم شهرا حتى نزلت اية التخيير فامره اللّه عزّ و جلّ ان يخيرهن بين الدنيا و الاخرة و ان يخلى سبيل من اختارت الدنيا و يمسك من اختارت اللّه و رسوله على انهن أمهات المؤمنين فلا ينكحن ابدا و على انه يؤوى اليه من يشاء منهن و يرجى من يشآء منهن فيرضين به قسم لهنّ او لم يقسم او قسم لبعض دون بعض او فضّل بعضهن فى النفقة و القسم فيكون الأمر فى ذلك اليه يفعل كيف يشاء و كان ذلك من خصائصه صلى اللّه عليه و سلم فرضين بذلك و اخترنه على هذا الشرط-

قلت و ليس هذا من خصائص النبي صلى اللّه عليه و سلم بل الحكم كذلك فى الامة ايضا فمن كان تحته نساء و قال لهن من شاء منكن حقوق النكاح من النفقة و التسوية فى القسم فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا و من رضى منكنّ ان تبقى فى نكاحى بلا مطالبة فى النفقة على ان أؤاوي الىّ من أشاء منكن و أرجى منكن من أشاء سواء اقسم لكن او لم اقسم او اقسم لبعض دون بعض او أفضل بعضكن على بعض فى النفقة و الكسوة و القسم فقلن له نحن نختارك و تركنا حقنا فى النفقة و القسم يكون الأمر فى ذلك اليه يفعل كيف يشآء و اللّه اعلم

قال البغوي و اختلفوا فى انه هل اخرج أحدا منهن عن القسم فقال بعضهم لم يخرج أحدا بل كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مع ما جعل اللّه له من ذلك يسوى بينهن فى القسمة الاسودة فانها رضيت بترك حقها من القسم و جعل يومها لعائشة- و قيل اخرج بعضهن روى ابن جرير عن منصور عن ابى رزين قال لما نزل التخيير أشفقن ان يطلقهن فقلن يا رسول اللّه اجعل لنا من مالك و نفسك ما شئت و دعنا على حالنا فنزلت هذه الاية تُرْجِي مَنْ تَشاءُ منهن فارجى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعضهن و أوى اليه بعضهن و كان ممن أوى اليه عائشة و حفصة و زينب و أم سلمة فكان يقسم بينهن سواء و أرجى منهن خمسا أم حبيبة و سودة و صفية و ميمونة و جويرية و كان يقسم لهن ما يشاء روى البخاري عن معاذة عن عائشة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يستأذن فى يوم المرأة منّا بعد ان أنزلت هذه الاية تُرْجِي مَنْ تَشاءُ الاية فقلت لها ما كنت تقولين قالت كنت أقول له ان كان ذاك الىّ فانى لا أريد يا رسول اللّه ان اوثر عليك أحدا-

و قال مجاهد معناه ترجى من تشاء منهن يعنى تعزل منهن من تشاء بغير طلاق و تردّ إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد- و قيل معناه تطلّق منهن من تشاء و تمسك منهن من تشاء و قال الحسن معناه تترك نكاح من شئت و تنكح من تشاء من نساء أمتك و قال كان النبي صلى اللّه عليه و سلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره ان يخطبها حتى يتركها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قيل معناه تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي وهبن انفسهن لك فتؤويها إليك و تترك من تشاء فلا تقبل روى البغوي عن هشام عن أبيه قال كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن انفسهن للنبى صلى اللّه عليه و سلم فقالت عائشة اما تستحيى امراة ان تهب نفسها للرجل فلمّا نزلت هذه الاية تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ فقلت يا رسول اللّه ما ارى ربك الا يسارع فى هواك- وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ اى طلبت و أردت ان تؤوي إليك امراة ممن عزلتهن عن انفسهن فَلا جُناحَ اى لا اثم عَلَيْكَ فى شى ء من ذلك ذلِكَ التفويض الى مشيتك أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ اى اقرب الى قرة أعينهن و عدم حزنهن و رضائهن جميعهن لان حكم كلهن فيه سواء ثم من أويت منهن إليك وجدت ذلك تفضلا و من عزلت منهن علمت انه بحكم اللّه و علمت منك تفضلا ايضا حيث أبقيت فى نكاحك من غير حاجة منك إليها وَ اللّه يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ فاجتهدوا فى إحسانه و فيه وعيد لمن لم ترض منهن بمشية رسوله صلى اللّه عليه و سلم- و قيل معناه اللّه يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من امر النساء و الميل الى بعضهن و انما خيرناك فيهن تيسيرا لك وَ كانَ اللّه عَلِيماً بذات الصدور حَلِيماً (٥١) لا يعاجل بالعقوبة فهو حقيق بان يتقى اخرج ابن سعد عن عكرمة قال لما خيّر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أزواجه و اخترن اللّه و رسوله انزل اللّه تعالى.

٥٢

لا يَحِلُّ قرأ ابو عمرو و يعقوب بالتاء الفوقانية و الباقون بالياء التحتانية لان تأنيث الجمع غير حقيقى لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ اى بعد هذا اليوم حتى لو ماتت واحدة منهن لم يحل له نكاح اخرى وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ أصله تتبدل حذفت احدى التاءين من مضارع التفعل بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ من مزيدة لتأكيد النفي يعنى لا يجوز لك ان تطلق منهن واحدة و تنكح مكانها اخرى

قال البغوي و ذلك ان النبي صلى اللّه عليه و سلم لما خيرهن و اخترن اللّه و رسوله شكرهن اللّه و حرم على نبيه من النساء سواهن و نهاه عن تطليقهن و الاستبدال بهن و هذا قول ابن عباس و قتادة- و اختلفوا فى انه هل أبيح له من بعد اخرج عبد الرزاق و سعيد بن منصور و ابن سعد و احمد و عبد بن حميد و ابو داؤد فى ناسخه و الترمذي و صححه و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه و ابن مردوية و البيهقي من طريق عطاء عن عائشة قالت لم يمت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى أحل اللّه ان يتزوج من النساء ما شاء الا ذات محرم بقوله تعالى تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ فان تلك الاية و ان تقدمها قراءة مسبوق بها نزولا-

و اخرج ابن ابى حاتم عن أم سلمة مثله

و اخرج ابن سعد عن ابن عباس مثله و ذكر البغوي قول انس مات رسول اللّه على التحريم- و

قال البغوي قال عكرمة و الضحاك معنى الاية لا يحل لك النساء بعد اللاتي أحللنا لك بالصفة التي تقدم ذكرها و قيل لابى بن كعب لو مات نساء النبي صلى اللّه عليه و سلم كان له ان يتزوج قال و ما يمنعه من ذلك قيل قوله تعالى لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قال انما أحل اللّه له ضربا من النساء فقال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الاية ثم قال لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ- قال ابو صالح أمران لا يتزوج اعرابية و لا عربية و يتزوج من نساء قومه من بنات العمّ و بنات العمّة و بنات الخال و بنات الخالة ان شاء ثلاث مائة

و قال مجاهد لا يحل لك اليهوديات و لا النصرانيات بعد المسلمات و لا ان تبدل بالمسلمات غيرهن يقول لا يكون أم المؤمنين يهودية و لا نصرانية الا ما ملكت يمينك أحل له ما ملكت يمينه من الكتابيات ان يتسرى بهن- و روى عن الضحاك معنى ان تبدّل بهن اى و لا ان تبدل بازواجك اللاتي فى حبالتك أزواجا غيرهن بان تطلقهن و تنكح غيرهن فحرم عليه طلاق النساء اللاتي كن عنده إذ جعلهن أمهات المؤمنين و حرمهن على غيره حين اخترنه فاما نكاح غيرهن فلم يمنع عنه و قال ابن زيد فى قوله وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ انهم كانوا يتبادلون فى الجاهلية بأزواجهم يقول الرجل للرجل بادلني بامرأتك و أبادلك بامرأتى بان تنزل لى عن امرأتك و انزل لك عن امراتى فانزل اللّه تعالى وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ يعنى لا تبادل بازواجك غيرك بان تعطيه زوجتك و تأخذ زوجته الا ما ملكت يمينك فلا بأس بان تبدل بجاريتك ما شئت و اما الحلائل فلا- عن ابى هريرة قال دخل عيينة بن حصين على النبي صلى اللّه عليه و سلم بغير اذن و عائشة رضى اللّه عنها عنده فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاين الاستيذان قال يا رسول اللّه ما استأذنت على رجل من مصر منذ أدركت ثم قال من هذه الحميرى الى جنبك قال هذه عائشة أم المؤمنين قال عيينة أ فلا انزل لك عن احسن الخلق فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه تعالى قد حرّم ذلك فلمّا خرج قالت عائشة من هذا يا رسول اللّه قال هذا أحمق مطاع و انه على ما ترين لسيد قومه وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ اى حسن الأزواج المستبدلة و هو حال من فاعل تبدل دون مفعوله و هو قوله من ازواج لتوغله فى التنكير و تقديره مفروضا إعجابك بهن

قال البغوي يعنى ليس لك ان تطلق أحدا من نسائك و تنكح بدلها اخرى و لو أعجبك جمالها قال ابن عباس انها بنت عميس الخثعمية امراة جعفر بن ابى طالب رضى اللّه عنه فلمّا استشهد جعفر أراد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان يخطبها فنهى عن ذلك إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ محل ما الرفع استثناء من النساء لانه يتناول الأزواج و الإماء و قيل الاستثناء منقطع قال ابن عباس ملك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعد ذلك مارية يعنى أم ابراهيم وَ كانَ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً (٥٢) فتحفظوا أمركم و لا تتجاوزوا عمّا حد لكم.

(مسئلة)

قال البغوي فى الاية دليل على جواز النظر الى من يريد نكاحها من النساء عن جابر رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا خاطب أحدكم امرأة فان استطاع ان ينظر الى ما يدعوا الى نكاحها فليفعل رواه ابو داود و عن المغيرة بن شعبة قال خطبت امراة فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم هل نظرت إليها قلت لا قال فانظر إليها فانه أحرى ان يؤدم بينكما- رواه احمد و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و الدارمي و عن ابى هريرة ان رجلا أراد ان يتزوج امرأة من الأنصار فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم انظر إليها فان فى أعين نساء الأنصار شى ء- رواه مسلم قال الحميدي فان فى أعينهن صفرة و اللّه اعلم.

اخرج الشيخان فى الصحيحين عن انس قال لمّا تزوج النبي صلى اللّه عليه و سلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون فاذا كانه يتهيؤا للقيام فلم يقوموا فلمّا راى ذلك قام فلمّا قام قام من قام و قعد ثلاثة نفر فجاء النبي صلى اللّه عليه و سلم ليدخل فاذا القوم جلوس ثم انهم قاموا فانطلقت فجئت فاخبرت النبي صلى اللّه عليه و سلم انهم انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت ادخل فالقى الحجاب بينى و بينه فانزل اللّه تعالى.

٥٣

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الاية و ذكر البغوي حديث ابن شهاب عن انس انه كان ابن عشر سنين مقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المدينة قال أمهاتي يواطينى على خدمة النبي صلى اللّه عليه و سلم فخدمته عشر سنين و توفى النبي صلى اللّه عليه و سلم و انا ابن عشرين سنة و كنت اعلم الناس بشأن الحجاب حين نزل كان أول ما نزل فى مبنى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بزينب بنت جحش أصبح النبي صلى اللّه عليه و سلم بها عروسا فدعى القوم فاصابوا من الطعام الحديث- فذكر مثل رواية البخاري و فى رواية للبخارى قال انس كنت اعلم الناس بهذه الاية اية الحجاب لما أهديت زينب الى النبي صلى اللّه عليه و سلم كانت معه فى البيت صنع طعاما و دعا القوم فقعدوا يتحدثون فجعل النبي صلى اللّه عليه و سلم يخرج ثم يرجع و هم قعود يتحدثون فانزل اللّه تعالى تلك الاية و ضرب الحجاب و قام القوم- و فى رواية له قال انس او لم حين بنى النبي صلى اللّه عليه و سلم بزينب بنت جحش بخبز و لحم فارسلت على الطعام داعيا فيجئ القوم فياكلون و يخرجون ثم يجئ قوم فيأكلون و يخرجون فدعوت حتى ما أجد أحدا ادعوه فقلت يا نبى اللّه ما أجد أحدا ادعوه فقال ارفعوا طعامكم و بقي ثلاثة رهط يتحدثون فى البيت فخرج النبي صلى اللّه عليه و سلم فانطلق الى حجرة عائشة فقال السلام عليكم اهل البيت و رحمة اللّه فقالت و عليك السّلام و رحمة اللّه كيف وجدت أهلك بارك اللّه لك فذهب الى حجر نسائه كلّهن يقول لهن كما قال لعائشة و يقلن له كما قالت ثم رجع النبي صلى اللّه عليه و سلم فاذا ثلثة رهط فى البيت يتحدثون و كان النبي صلى اللّه عليه و سلم شديد الحياء فخرج منعطفا نحو حجرة عائشة فما أدرى أخبرته او اخبر ان القوم خرجوا فرجع حتى إذا وضع رجله فى أسكفة الباب داخلة و الاخرى خارجة ارخى الستر بينى و بينه و نزلت اية الحجاب- و فى رواية للبخارى قال انس او لم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين بنى بزينب فاشبع الناس خبزا و لحما ثم خرج الى حجرات أمهات المؤمنين كما كان يصنع صبيحة بنائه فيسلم عليهن و يدعو لهن و يسلمن عليه و يدعون له فلمّا رجع هو الى بيته راى رجلين جرى بينهما الحديث فلمّا راهما رجع عن بيته فلمّا راى الرجلان نبى اللّه صلى اللّه عليه و سلم قاموا فرجع حتى دخل البيت و ارخى الستر بينى و بينه.

و اخرج الترمذي و حسنه عن انس قال كنت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاتى باب امراة عرس بها فاذا عندها قوم فانطلق ثم رجع و قد خرجوا فدخل و ارخى بينى و بينه سترا فذكرته لابى طلحة فقال لان كان كما تقول لينزلن فى هذا شى ء فنزلت اية الحجاب.

و اخرج الطبراني بسند صحيح عن عائشة قالت كنت أكل مع النبي صلى اللّه عليه و سلم فى قعب فمرّ عمر فدعاه فاكل فاصابت إصبعه إصبعي فقال اوّه لو أطاع فيكن ما راتكن عين فنزلت اية الحجاب- و كذا اخرج البخاري فى الأدب المفرد و النسائي

و اخرج ابن مردوية عن ابن عباس قال دخل رجل على النبي صلى اللّه عليه و سلم فاطال الجلوس فخرج النبي صلى اللّه عليه و سلم ثلاث مرات ليخرج فلم يفعل فدخل عمر فراى الكراهية فى وجهه فقال للرجل و لعلّك آذيت النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم لقد قمت ثلاثا لكى يتبعنى فلم يفعل فقال له عمر يا رسول اللّه لو اتخذت حجابا فان نساءك لسن كسائر النساء و ذلك اطهر لقلوبهم فنزلت اية الحجاب- و قد مرّ فى سورة البقرة ما رواه البخاري و غيره عن عمر قال و أفقت «١» ربى فى ثلاث فقلت لو اتخذت من مقام ابراهيم مصلى فنزلت وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى و قلت يا رسول اللّه ان نسائك يدخل عليهن البر و الفاجر فلو امرتهن ان يحتجبن فنزلت اية الحجاب و اجتمع على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نساؤه من الغيرة فقلت لهن عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ فنزلت كذلك- و كذا اخرج النسائي من رواية انس و ذكر البغوي نحوه عن ابن عباس و

قال البغوي و قد صح فى سبب نزول اية الحجاب ان ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن الى المصانع و هو صعيد افيح و كان عمر يقول للنبى صلى اللّه عليه و سلم احجب نساءك فلم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يفعل فخرجت سودة بنت زمعة ذات ليلة من الليالى عشاء و كانت امرأة طويلة فناداها عمر ان قد عرفناك حرصا على ان ينزل الحجاب فانزل اللّه تعالى الحجاب- قال الحافظ ابن حجر يمكن الجمع بان ذلك وقع قبيل قصة زينب فلقربه منها اطلق نزول الاية بهذا السبب و لا مانع من تعدد السبب- إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ استثناء مفرغ منصوب على الظرف او على المصدر او على الحال يعنى لا تدخلوا فى وقت الا وقت ان يؤذن لكم او لا تدخلوا دخولا الا دخولا مأذونا لكم او لا تدخلوا فى حال الا حال ان يؤذن لكم إِلى طَعامٍ متعلق بيؤذن لتضمنه معنى يدعى و فيه اشعار بانه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة و ان اذن كما هو اشعار فى قوله تعالى غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ اى غير منتظرين وقت نضجه حال من فاعل لا تدخلوا او المجرور فى لكم داخل فى الاستثناء اى لا تدخلوا الا بإذن و الا غير ناظرين و هذا الاستثناء مختص بمن أراد الدخول لاجل

(١) عن ابن مسعود قال فضل على الناس عمر بن الخطاب بأربع بذكره الأسارى يوم بدر امر بقتلهم فانزل اللّه لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللّه سَبَقَ الاية و بذكره الحجاب امر نساء النبي صلى اللّه عليه و سلم ان يحتجبن فقالت له زينب انك لتغار علينا يا ابن الخطاب و الوحى ينزل فى بيوتنا فانزل اللّه تعالى وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ و بدعوة النبي صلى اللّه عليه و سلم اللّهم أيد الإسلام بعمر و برأيه فى ابى بكر كان أول الناس من بايعه- منه رح.

الطعام لا مطلقا- امال حمزة «و هشام و خلف و قللّه و رش من طريق الأزرق- ابو محمد» و الكسائي اناه فهو حينئذ مصدر انى الطعام إذا أدرك يقال انى الحميم إذا انتهى حره و انى ان يفعل كذا اى حان و

قال البغوي انى بكسر الهمزة مقصورة فاذ فتحتها مددتّ و قلت الإناء و فيه لغتان انى يأنى مثل رمى يرمى و ان يئين مثل باع يبيع و فى القاموس انى الشي ء يأنى أينا و اناء و انا بالكسر فهو انى كغنى حان و أدرك و انى الحميم انتهى حره فهو ان و بلغ هذا اناه يعنى بالفتح و بكسر يعنى بلغ غايته او نضجه او إدراكه وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ يعنى أكلتم الطعام فَانْتَشِرُوا يعنى تفرقوا و اخرجوا من منزله و لا تمكثوا بعد الاكل وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ مجرور معطوف على ناظرين او منصوب اى لا تدخلوها مستأنسين و قيل تقديره و لا تمكثوا مستأنسين فهو عطف جملة على جملة نهوا ان يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لاجل حديث يحدثه به إِنَّ ذلِكُمْ اللبث كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ لتضيق المنزل عليه و على اهله و اشتغاله بما لا يعنيه تعليل لما سبق فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ و لا يخرجكم عطف على الجملة الاسمية السابقة وَ اللّه لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ عطف او حال او معترضة اى لا يترك اللّه تأديبكم حياء فان التأديب حق و

قال البيضاوي يعنى إخراجكم حق فينبغى ان لا يترك حياء كما لا يترك اللّه الحق فيأمركم بالخروج وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ اى نساء النبي صلى اللّه عليه و سلم لدلالة بيوت النبي عليهن لان فيها نساؤه مَتاعاً اى شيئا ينتفع به استعارة او استيهابا او ردّا للعارية فَسْئَلُوهُنَّ المتاع مِنْ وَراءِ حِجابٍ اى الستر الجملة الشرطية معطوفة على قوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ

قال البغوي فبعد اية الحجاب لم يكن لاحد ان ينظر الى امرأة من نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم منتقبة كانت او غير منتقبة

ذلِكُمْ اى السؤال من وراء الحجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ من الخواطر الشيطانية الجملة تعليل لما سبق.

اخرج ابن ابى حاتم عن ابن زيد قال بلغ النبي صلى اللّه عليه و سلم ان رجلا يقول لو توفى النبي صلى اللّه عليه و سلم تزوجت فلانة من بعده فنزلت وَ ما كانَ اى ما صح لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّه اى تفعلوا ما يكرهه وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد وفاته او فراقه أَبَداً

و اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال نزلت فى رجل همّ ان يتزوج بعض نساء النبي صلى اللّه عليه و سلم بعده- قال سفيان ذكر انها عائشة

و اخرج عن السدىّ قال بلغنا ان طلحة بن عبيد اللّه قال أ يحجبنا محمد عن بنات عمنا و يتزوج نساءنا من بعدنا لان حدث حدث لنتزوجن نساءه من بعده فانزلت هذه الاية-

و اخرج ابن سعد عن ابى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال نزلت فى طلحة بن عبيد اللّه لانه قال إذا توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تزوجت عائشة-

و اخرج جويبر عن ابن عباس ان رجلا اتى بعض ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم فكلمها و هو ابن عمها فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا فقال يا رسول اللّه انها ابنة عمى و اللّه ما قلت لها منكرا و لا قالت لى قال النبي صلى اللّه عليه و سلم قد عرفت ذلك انّه ليس أحدا غير من اللّه و انّه ليس أحدا غير منى فمضى فقال يمنعنى من كلام ابنة عمى لا تزوجها من بعده فانزل اللّه تعالى هذه الاية- قال ابن عباس فاعتق ذلك الرجل رقبة و حمل عشرة ابعرة فى سبيل اللّه و حج ماشيا توبة من كلمته-

قال البغوي روى معمر عن الزهري ان العالية بنت ظبيان التي طلقها النبي صلى اللّه عليه و سلم تزوجت رجلا و ولدت له و ذلك قبل تحريم ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم على الناس

قال البيضاوي خصت التي لم يدخل بها النبي صلى اللّه عليه و سلم- روى ان الأشعث بن قيس تزوج المستعيذة فى ايام عمر رضى اللّه عنه فهم عمر برجمها فاخبر انه صلى اللّه عليه و سلم فارقها قبل ان يمسها فتركه من غير نكير إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللّه عَظِيماً (٥٣) اى ذنبا عظيما قلت و جاز ان يكون ذلك لاجل ان النبي صلى اللّه عليه و سلم حىّ فى قبره و لذلك لم يورث و لم يتئم أزواجه عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من صلى علىّ عند قبرى سمعته و من صلّى علىّ نائيا أبلغته رواه البيهقي فى شعب الايمان.

٥٤

إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً من أذى النبي صلى اللّه عليه و سلم او من نكاحهن أَوْ تُخْفُوهُ فى أنفسكم

قال البغوي نزلت فيمن أضمر نكاح عائشة رضى اللّه عنها بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فَإِنَّ اللّه كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (٥٤) تعليل لجزاء محذوف أقيم مقامه تقديره يعلمه اللّه فَإِنَّ اللّه كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً فيجازيكم عليه و فى هذا التعميم و البرهان على المقصود بعد التصريح بالنهى عن نكاحهن مزيد تهويل و مبالغة فى الوعيد و لذلك أعتق ذلك الرجل الذي هم بنكاح بعض ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم رقبة و حمل عشر ابعرة فى سبيل اللّه و حج ماشيا توبة من كلمته كما مر فى حديث ابن عباس

قال البغوي و لما نزلت اية الحجاب قال الآباء و الأبناء و الأقارب و نحن ايضا نكلمهن من وراء حجاب فانزل اللّه تعالى.

٥٥

لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ اى فى ترك الاحتجاب من ابائهن وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ و انما لم يذكر العم و الخال لانه لما ذكر أبناء اخوانهن و أبناء أخواتهن يظهر بدلالة النص حكم الأعمام و الأخوال لانهن عمات بالنسبة الى أبناء الاخوة و خالات بالنسبة الى أبناء الأخوات و العم و العمة من جنس واحد كالخال و الخالة روى البخاري عن عروة بن الزبير ان عائشة قالت استأذن أفلح أخ ابى القعيس بعد ما انزل الحجاب فقلت لا اذن حتى استأذن فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فان أخاه أبا القعيس ليس هو ارضعنى و لكن أرضعتني امرأة ابى القعيس فدخل علىّ النبي صلى اللّه عليه و سلم فقلت يا رسول اللّه ان أفلح أخا ابى القعيس استأذن فابيت ان اذن له حتى استأذنك فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم تأذنين عمك قلت يا رسول اللّه ان الرجل ليس هو ارضعنى و لكن أرضعتني امرأة ابى القعيس فقال ائذني له فانه عمك تربت يمينك- قال عروة فلذلك كانت عائشة تقول حرموا من الرضاع ما تحرموا من النسب وَ لا نِسائِهِنَّ يعنى مؤمنات حرائر وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من العبيد و الإماء و قيل من الإماء خاصة كما ذكرنا فى سورة النور وَ اتَّقِينَ اللّه هذه الجملة معطوفة على مضمون لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ يعنى وَ اتَّقِينَ اللّه فى البروز للاجانب و فى كل ما امرتن به و فيه التفات من الغيبة الى الخطاب لمزيد التأكيد إِنَّ اللّه كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من افعال العباد شَهِيداً (٥٥) فيجازى عليه.

٥٦

إِنَّ اللّه وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال ابن عباس ان اللّه يرحم النبي صلى اللّه عليه و سلم و الملائكة يدعون له- و عن ابن عباس ايضا يصلون اى يبركون و قيل الصلاة من اللّه الرحمة و من الملائكة الاستغفار قال ابو العالية صلوة اللّه عليه ثناؤه عند الملائكة و صلوة الملائكة الدعاء و قد ذكرنا الكلام فى الصلاة فى قوله تعالى هو الذي يصلّى عليكم و ملئكته يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ ادعوا له و اسئلوا اللّه تعالى ان يرحمه وَ سَلِّمُوا عليه تَسْلِيماً يعنى حيوة بتحية السّلام و قولوا السّلام عليك ايها النبي و رحمة اللّه و بركاته و الاية تدل على وجوب الصلاة و السّلام فى الجملة و لو فى العمر مرة و به قال ابو حنيفة و مالك رحمهما اللّه و اختاره الطحاوي قال ابن همام موجب الأمر القاطع الافتراض فى العمر مرة لانه لا يقتضى التكرار و

قلنا به- و قيل يجب فى كل صلوة بعد التشهد فى القعدة الاخيرة و به قال الشافعي و احمد قال فى رحمة الامة فى اختلاف الائمة الصلاة على النبي صلى اللّه عليه و سلم فى التشهد الأخير عند ابى حنيفة و مالك سنة و فرض عند الشافعي و قال احمد فى أشهر روايتيه يبطل صلاته بتركها و قال ابن الجوزي فرض عند احمد و عنه انها سنة- و قيل يجب الصّلوة كلما جرى ذكره صلى اللّه عليه و سلم و به قال الكرخي استدل من يقول بوجوبها فى الصلاة بحديث سهل بن سعد ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لا صلوة لمن لم يصل على النبي صلى اللّه عليه و سلم- رواه ابن الجوزي من طريق الدار قطنى و فيه عبد المهيمن ابن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده قال الدار قطنى عبد المهيمن ليس بالقوى و قال ابن حبان لا يحتج به و رواه ابن الجوزي بلفظ لا صلوة لمن لا وضوء له و لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه و لا صلوة لمن لم يصل على النبي صلى اللّه عليه و سلم و لا صلوة لمن لم يحب الأنصار- و فيه عبد المهيمن ضعيف لا يحتج به

و اخرج الطبراني عن أبيّ بن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده مرفوعا نحوه قالوا حديث عبد المهيمن أشبه بالصواب مع ان جماعة قد تكلموا فى أبيّ بن عباس و بحديث ابى مسعود الأنصاري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من صلّى صلوة لم يصل فيها علىّ و لا على اهل بيتي لم يقبل منه- رواه ابن الجوزي من طريق الدار قطنى قال ابن الجوزي و فيه جابر الجعفي ضعيف و قد اختلف فيه فوقفه على ابن مسعود تارة و رفعه اخرى و ذكره ابن همام عن ابن مسعود قال قال ابن الجوزي فيه جابر ضعيف و قد اختلف فيه فوقفه تارة و رفعه اخرى و روى الحاكم و البيهقي عن يحيى بن السباق عن رجل من بنى الحارث عن ابن مسعود عنه عليه الصّلوة و السّلام إذا تشهد أحدكم فليقل اللّهم صل على محمد و على ال محمد و بارك على محمد و على ال محمد و ارحم محمدا و ال محمد كما صليت و باركت و ترحمت على ابراهيم و على ال ابراهيم انك حميد مجيد- قال الحافظ ابن حجر رجاله ثقات الا هذا الرجل الحارثي فينظر فيه قال ابن همام حديث لا صلوة لمن لم يصل علىّ ضعفه اهل الحديث كلهم و لو صح فمعناه كاملة او لمن لم يصل علىّ فى العمر مرة.

و قال الحافظ ابن حجر أقوى من هذا الحديث حديث فضالة بن عبيد انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رجلا يدعو فى صلاته فلم يصل على النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال عجّل هذا ثم دعاه ثم قال له و لغيره إذا صلّى أحدكم فليبدا بحمد اللّه و الثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى اللّه عليه و سلم ثم ليدع بما شاء رواه ابو داود و النسائي و الترمذي و ابن خزيمة و ابن حبان و الحاكم قال و لفظ الترمذي بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قاعد إذ دخل رجل فصلى فقال اللّهم اغفر لى و ارحمني فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عجّلت ايها المصلى إذا صليت فقعدتّ فاحمد اللّه بما هو اهله و صل علىّ ثم ادعه قال ثم صلّى رجل اخر بعد ذلك فحمد اللّه و صلى على النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال له النبي صلى اللّه عليه و سلم ايها المصلى ادع تجب- رواه الترمذي و روى ابو داؤد و النسائي نحوه قلت و يمكن الاستدلال على وجوب الصلاة على النبي صلى اللّه عليه فى الصلاة بعد التشهد بان المراد بالأمر فى هذه الاية ان يصلى عليه صلى اللّه عليه و سلم فى الصلاة كما ان المراد بقوله تعالى وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ تكبير التحريمة و بقوله تعالى قُومُوا للّه قانِتِينَ و قوله تعالى و اركعوا و اسجدوا القيام و الركوع و السجود فى الصلاة و بقوله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ القراءة فى الصلاة يدل على هذا ما رواه البخاري عن كعب بن عجرة و كذا فى حديث ابى سعيد الخدري قيل يا رسول اللّه اما السّلام عليك فقد عرفنا فكيف الصلاة قال قولوا اللّهم صل على محمد الى آخره يعنى قد عرفنا السّلام فى التشهد و هو قوله السّلام عليك ايها النبي و رحمة اللّه و بركاته فكيف نصلى حينئذ فعلّم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بقوله اللّهم صل على محمد الى آخره و قد تلقته الامة بالقبول و اجمعوا على جعلها بعد التشهد و ان اختلفوا فى كونها فريضة فعلم بهذا الحديث ان مراد اللّه سبحانه بالأمر فى هذه الاية جعلها بعد التشهد و اللّه اعلم.

و استدل من يقول بوجوب الصلاة كلّما جرى ذكره صلى اللّه عليه و سلم بحديث ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رغم انف رجل ذكرت عنده فلم يصل علىّ و رغم انف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل ان يغفر له و رغم انف رجل أدرك عنده أبواه الكبر او أحدهما فلم يدخلاه الجنة- رواه الترمذي و ابن حبان فى صحيحه و حديث جابر بن سمرة عنه صلى اللّه عليه و سلم من ذكرت عنده فلم يصلّ علىّ فدخل النار فابعده اللّه عزّ و جلّ و حديث ابن عباس مرفوعا بلفظ أتاني جبرئيل من ذكرت عنده فلم يصل عليك فدخل النار فابعده اللّه عز و جل روى الحديثين الطبراني و روى ابن السنى عن جابر مرفوعا بلفظ من ذكرت عنده فلم يصل على فقد شقى- و عن علىّ قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علىّ- رواه الترمذي و رواه احمد عن الحسين ابن على رضى اللّه عنهما و قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب و روى الطبراني بسند حسن عن الحسين بن على رضى اللّه عنهما مرفوعا من ذكرت عنده فخطى الصلاة علىّ خطى طريق الجنة- و روى النسائي بسند صحيح عن انس من ذكرت عنده فليصل علىّ فانه من صلى علىّ صل ى اللّه عليه و سلم عشرا.

(فصل) فى فضل الصلاة و السّلام على النبي صلى اللّه عليه و سلم و كيفيتها عن عبد الرحمن بن ابى ليلى قال لقينى كعب بن عجرة فقال الا اهدى لك هدية سمعتها من النبي صلى اللّه عليه و سلم فقلت بلى فاهدها لى فقال سالنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقلنا يا رسول اللّه كيف الصلاة عليكم اهل البيت فان اللّه قد علّمنا كيف نسلم عليك قال قولوا اللّهم صلّ على محمّد و على ال محمد كما صليت على ابراهيم و على ال ابراهيم انك حميد مجيد اللّهم بارك على محمد و على ال محمد كما باركت على ابراهيم و على ال ابراهيم انك حميد مجيد- متفق عليه الا ان مسلما لم يذكر على ابراهيم فى الموضعين و عن ابى حميد الساعدي قال قالوا يا رسول اللّه كيف نصلى عليك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قولوا اللّهم صل على محمد و أزواجه و ذريته كما صلّيت على ال ابراهيم و بارك على محمّد و أزواجه و ذريته كما باركت على ال ابراهيم انك حميد مجيد- متفق عليه و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من صلّى علىّ واحدة صلى اللّه عليه عشرا رواه مسلم و عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من صلّى علىّ صلوة واحدة صلى اللّه عليه عشر صلوات و حطت عنه عشر خطيئات و رفعت له عشر درجات- رواه احمد و البخاري فى الأدب و النسائي و الحاكم و صححه و عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم صلوة- رواه الترمذي و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان للّه ملائكة سياحين فى الأرض يبلغونى من أمتي السّلام- رواه النسائي و الدارمي و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من أحد يسلم علىّ الا ردّ اللّه علىّ روحى حتى أرد - رواه ابو داود و البيهقي فى الدعوات الكبير و عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول لا تجعلوا بيوتكم قبورا و لا تجعلوا قبرى عيدا و صلوا علىّ فان صلاتكم يبلغنى حيث كنتم- و عن ابى طلحة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم جاء ذات يوم و البشر فى وجهه فقال انه جاءنى جبرئيل فقال ان ربك يقول اما يرضيك يا محمد ان لا يصلى عليك أحد من أمتك الا صليت عليه عشرا و لا يسلم عليك أحد من أمتك الا سلمت عليه عشرا- رواه النسائي و الدارمي.

و عن أبيّ بن كعب قال قلت يا رسول اللّه انى اكثر الصلاة عليك فكم اجعل لك من صلاتى قال ما شئت قال الربع قال ما شئت و ان زدتّ فهو خير لك قلت النصف قال ما شئت و ان زدتّ فهو خير لك قلت فالثلثين قال ما شئت فان زدتّ فهو خير لك قلت اجعل لك صلاتى كلها قال إذا تكفى همك و يكفر لك ذنبك- رواه الترمذي و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من سرّه ان يكتال بالمكيال الا و فى إذا صلّى علينا اهل البيت فليقل اللّهم صل على محمد النبي الأمي و أزواجه أمهات المؤمنين و ذريته و اهل بيته كما صليت على ابراهيم انك حميد مجيد- رواه ابو داؤد عن عبد اللّه بن عمرو قال من صلّى على النبي صلى اللّه عليه و سلم واحدة صلى اللّه عليه و ملائكته سبعين صلوة- رواه احمد و عن رويفع ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من صلّى على محمّد و قال اللّهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتى- رواه احمد و عن عبد الرحمن ابن عوف قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى دخل نخلا فسجد فاطال السجود حتى خشيت ان يكون اللّه توفاه قال فجئت انظر فرفع رأسه فقال مالك فذكرت ذلك له قال فقال ان جبرئيل عليه السلام قال لى الا أبشرك ان اللّه عزّ و جلّ يقول لك من صلّى عليك صليت عليه و من سلّم عليك سلمت عليه- رواه احمد و عن عمر بن الخطاب قال ان الدعاء موقوف بين السماء و الأرض لا يصعد منه شى ء حتى تصلى على نبيك- رواه الترمذي و عن عبد اللّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه انه سمع النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول من صلّى علىّ صلوة صلت عليه الملائكة ما صلى علىّ فليقلل العبد من ذلك او ليكثر- رواه البغوي و عن علىّ قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من صلّى علىّ صلوة كتب له قيراط و القيراط مثل أحد رواه عبد الرزاق فى الجامع بسند حسن و عن ابى الدرداء قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من صلّى علىّ حين يصبح عشرا و حين يمسى عشرا أدركته شفاعتى يوم القيامة «١»- رواه الطبراني فى الكبير بسند حسن.

(١) و عن ابى بكر الصديق قال كنت عند النبي صلى اللّه عليه و سلم فجاءه رجل فسلم فردّ النبي صلى اللّه عليه و سلم و اطلق وجهه و أجلسه الى جنبه فلمّا قضى الرجل حاجته نهض فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم يا أبا بكر هذا الرجل يرفع له كل يوم كعمل اهل الأرض قلت و لم ذاك قال انه كلما أصبح صلى علىّ عشرة مرات كصلوة الخلق اجمع قلت و ما ذاك قال يقول اللّهم صلّ على محمد النبي عدد من صلّى من خلقك و صل على محمد النبي كما ينبغى لنا ان نصلى عليه و صل على محمد النبي كما امرتنا ان نصلى عليه و عن ابى بكر الصديق قال الصلاة على النبي صلى اللّه عليه و سلم امحق للخطايا من الماء للنار و السلام على النبي صلى اللّه عليه و سلم أفضل من عتق الرقاب وحب الرسول صلى اللّه عليه و سلم أفضل من مهج الأنفس او قال من ضرب السيف فى سبيل اللّه- منه نور اللّه مرقده.

(مسئلة) هل يجوز الصلاة و السّلام على غير الأنبياء و الصحيح انه يجوز تبعا و يكره استقلالا كما يكره ان يقال محمد عزّ و جلّ مع كونه عزيزا جليلا لاختصاصه بالأنبياء عرفا كاختصاص ذلك باللّه تعالى و قد ذكرنا هذه المسألة مبسوطا فى سورة التوبة فى تفسير قوله تعالى وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ..

٥٧

إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه

قال البغوي قال ابن عباس هم اليهود و النصارى و المشركون فاما اليهود فقالوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه و يَدُ اللّه مَغْلُولَةٌ- و قالُوا إِنَّ اللّه فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ- و اما النصارى فقالوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللّه- و ثالِثُ ثَلاثَةٍ- و اما المشركون فقالوا الملائكة بنات اللّه و الأصنام شركاؤه عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللّه تعالى كذبنى ابن آدم و لم يكن له ذلك و شتمنى و لم يكن له اما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدنى كما بدانى و ليس أول الخلق باهون علىّ من إعادته و اما شتمه إياي فقوله اتخذ اللّه ولدا و انا الأحد الصمد الذي لم الد و لم اولد و لم يكن لى كفوا أحد- و فى رواية ابن عباس و اما شتمه إياي فقوله لى ولد فسبحانى ان اتخذ صاحبة او ولدا- رواه البخاري و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللّه تعالى يؤذينى ابن آدم يسب الدهر و انا الدهر بيدي الأمر اقلب الليل و النهار متفق عليه و قيل معنى يوذينى يلحدون فى أسمائه و صفاته و قال عكرمة هم اصحاب التصاوير عن ابى زرعة انه سمع أبا هريرة رضى اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول قال اللّه تعالى و من اظلم ممن ذهب يخلق كخلقى فليخلقوا ذرة و ليخلقوا حبة او شعيرة- متفق عليه و روى البخاري عن ابن عباس من صور صورة فان اللّه معذبه حتى ينفخ فيه الروح فليس بنافخ فيها ابدا- و قيل معنى الأذى مخالفة امر اللّه و ارتكاب معاصيه و انما ذكر على ما يتعارف الناس بينهم و اللّه منزه من ان يلحقه أذى من أحد و يؤذون رَسُولَهُ قال ابن عباس هو انه شج وجهه و كسرت رباعيته و قيل ساحر شاعر معلم مجنون- و هذا الذي ذكرنا انما يستقيم على قول من جوز اطلاق اللفظ الواحد على معنيين و عند الجمهور معناه ان الذين يرتكبون ما يكرهه اللّه و رسوله و جاز ان يكون معنى الاية الذين يؤذون رسول اللّه و ذكر اللّه لتعظيم الرسول كانّ من أذى الرسول فقد أذى اللّه اخرج ابن ابى حاتم من طريق العوفى عن ابن عباس ان الاية نزلت فى الذين طعنوا على النبي صلى اللّه عليه و سلم حين اتخذ صفية بنت حيى- و قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس انها نزلت فى عبد اللّه ابن أبيّ و ناس معه قذفوا عائشة الصديقة الطيبة فخطب النبي صلى اللّه عليه و سلم و قال من يعذرنى من رجل يؤذينى و يجمع فى بيته من يؤذينى فنزلت- عن انس و ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال قال اللّه تعالى من أهان و يووى من عادى وليّا فقد بارزني بالمحاربة و ما رددتّ فى شى ء انا فاعله ما رددت فى قبض نفس عبدى المؤمن يكره الموت و انا اكره مساية و لا بد له منه و ما تقرب بي عبدى المؤمن بمثل الزهد فى الدنيا و لا يعبدنى بمثل ما افترضته عليه- رواه البخاري و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه تعالى يقول يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى قال يا ربّ كيف أعودك و أنت رب العالمين قال اما علمت ان عبدى فلانا مرض فلم تعده اما علمت انك لوعدتّه لوجدتنى عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى الحديث نحوه- رواه مسلم قلت و لا شك ان معاداة الأولياء لمّا كان معاداة و محاربة مع اللّه تعالى و أسند اللّه سبحانه مرض أوليائه الى نفسه تعالى عن ذلك علوا كبيرا لاجل وصل غير متكيف فاسناد إيذاء الرسول صلى اللّه عليه و سلم الى اللّه تعالى اولى و قيل نظرا الى ما ذكرنا من الأحاديث معنى الاية الَّذِينَ يُؤْذُونَ اولياء اللّه على حذف المضاف كقوله تعالى وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ يعنى اهل القرية و هذا القول عندى غير سديد لان ذلك يفضى الى تقديم ذكر الأولياء على ذكر الرسول صلى اللّه عليه و سلم

فان قيل هو تخصيص بعد تعميم فان الرسول داخل فى اولياء اللّه

قلنا لو كان كذلك لزم التكرار فى قوله تعالى وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ... لَعَنَهُمُ اللّه فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) جملة إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه وَ رَسُولَهُ مستأنفة كانه فى جواب من سال انا أمرنا بالصّلوة و السّلام على النبي صلى اللّه عليه و سلم فما شان من أذاه فقال اللّه تعالى لَعَنَهُمُ اللّه إلخ.

(مسئلة) من أذى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بطعن فى شخصه او دينه او نسبه او صفة من صفاته او بوجه من وجوه الشين فيه صراحة او كناية او تعريضا او اشارة كفر و لعنه اللّه فى الدنيا و الاخرة و اعدّ له عذاب جهنم و هل يقبل توبته قال ابن همام كل من ابغض رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بقلبه كان مرتدّا فالسباب بالطريق الاولى و يقتل عندنا حدّا فلا تقبل توبته فى إسقاط القتل قالوا هذا مذهب اهل الكوفة و مالك و نقل عن ابى بكر الصديق رضى اللّه عنه و لا فرق بين ان يجئ تائبا بنفسه او شهدوا عليه بذلك بخلاف غيره من موجبات الكفر فان الإنكار فيها توبة و لا تعمل الشهادة معه حتى قالوا بقتل ان سبّ سكران و لا يعفى عنه و لا بد من تقييده بما إذا كان سكره بسبب محظور باشره باختياره بلا اكراه و الا فهو كالمجنون و قال الخطابي لا اعلم أحدا خالف فى وجوب قتله و اما قتله فى حق من حقوق اللّه تعالى فتعمل توبته فى إسقاط قتله و لا يحكم بارتداد من اتى بكلمة الكفر سكران فى غير سباب النبي صلى اللّه عليه و سلم و ان كان السكر بسبب محظور باشره باختياره بلا اكراه ..

٥٨

وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا اى من غير ان يعملوا ما يوجب إذا هم و قال يقعون فيهم و يرمون بغير جرم فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (٥٨) تنكير البهتان و الإثم للتفخيم قال مقاتل نزلت فى على بن ابى طالب رضى اللّه عنه و قيل نزلت فى شأن عائشة رضى اللّه عنها قلت اللفظ عام فى كل من يؤذى «١» مؤمنا او مؤمنة باىّ وجه كان و ان كان المورد خاصّا عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده و المؤمن من امنه الناس على دمائهم و أموالهم- رواه الترمذي و النسائي و سب عائشة هو سب النبي صلى اللّه عليه و سلم عرفا و عقلا و نقلا لما ذكرنا فى قول جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قوله صلى اللّه عليه و سلم من يعذرنى من رجل يؤذينى و يجمع فى بيته من يؤذينى يعنى عبد اللّه ابن أبيّ حين قذف عائشة فقول من قال هاهنا انها نزلت فى شأن عائشة معناه ان قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه وَ رَسُولَهُ الى قوله إِثْماً مُبِيناً نزلت فى شأن عائشة لا الجملة الاخيرة وحدها و كذا من سبّ عليّا فقد أذى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنت منى و انا منك رواه الشيخان فى الصحيحين عن البراء بن عازب بل سب الصحابة عامتهم يفضى الى إيذاء النبي صلى اللّه عليه و سلم عن عبد اللّه بن مغفل رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اللّه اللّه فى أصحابي اللّه اللّه فى أصحابي لا تتخذوهم غرضا من بعدي فمن أحبهم فبحبى أحبهم و من ابغضهم فببغضى ابغضهم و من اذاهم فقد آذاني و من آذاني فقد أذى اللّه و من أذى اللّه فيوشك ان يأخذه رواه الترمذي و قال هذا حديث غريب و اللّه اعلم.

و قال الضحاك و الكلبي نزلت الاية فى شأن الزناة الذين يمشون فى طرق المدينة و هم المنافقون يتبعون النساء إذا برزن فى الليل لقضاء حوائجهن فيغمزون المرأة فان سكتت اتبعوها و ان زجرتهم انتهوا عنها- و لم يكونوا يطلبون الا الإماء و لكن كانوا لا يعرفون الحرة من الامة لان زى الكل كان واحدا يخرجن فى درع و خمار الحرة و الامة فشكون ذلك الى أزواجهن فذكروها لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنزلت هذه الاية ثم نهين الحرائر ان يتشبهن بالإماء فى الاية اللاحقة و اللّه اعلم اخرج ابن سعد فى الطبقات عن ابى مالك

و اخرج نحوه عن الحسن و محمد بن كعب القرظي قال كان نساء النبي صلى اللّه عليه و سلم يخرجن بالليل لحاجتهن و كان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذين فشكون ذلك فقيل ذلك للمنافقين فقالوا انما نفعله بالإماء فنزلت.

(١) عن قتادة فى الاية قال إياكم و أذى المؤمنين فان اللّه يحوطه و يغضب له- منه رح.

٥٩

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ امر بتقدير اللام اى ليدنين عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ جمع جلباب و هى الملحفة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع و الخمار روى البخاري عن عائشة قالت خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها و كانت امراة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فراها عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه فقال يا سودة اما و اللّه ما تخفين علينا فانظرى كيف تخرجين قالت فانكفات «مالت و رجعت الى بيتها- منه رح» راجعة و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- فى بيتي و انه ليتعشى و فى يده عرق فدخلت فقالت يا رسول اللّه انى خرجت لبعض حاجتى فقال عمر كذا و كذا قالت فاوحى اللّه تعالى اليه ثم رفع عنه و ان العرق «١» فى يده ما وضعه فقال

(١) العرق بالسكون العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم يقال عرقت العظم و اعترقته و تعرقته إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك ١٢ نهاية منه رح.

انه قد اذن لكن ان تخرجن لحاجتكن-

قلت يعنى اذن لكن ان تخرجن متجلببات قال ابن عباس و ابو عبيدة امر نساء المؤمنين ان يغطين رؤسهن و وجوههن بالجلابيب الا عينا واحدا ليعلم انهن الحرائر و من للتبعيض لان المرأة ترخى بعض جلبابها ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ بإضمار الى متعلق بأدنى اى اقرب الى ان يعرفن او بتقدير المضاف اى ادنى اسباب معرفتهن انهن حرائر فَلا يُؤْذَيْنَ عطف على يعرفن اى فلا يتعرضهن اهل النفاق و الفسق وَ كانَ اللّه غَفُوراً لما سلف رَحِيماً (٥٩) بعباده حيث يراعى مصالحهم حتى الجزئيات منها- قال انس مرّت بعمر بن الخطاب رضى اللّه عنه جارية متقنعة فعلاها بالدرة و قال يا لكاع «١» أ تشبهين بالحرائر القى القناع.

(١) اللكع عند العرب العبد ثم استعمل فى الحمق و الذم يقال للرجل لكع و للمرءة لكاع و اكثر ما يقع فى النداء و هو اللئيم و قيل الوسخ قد يطلق على الصغير ١٢ نهايه جزرى منه رح.

٦٠

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عن نفاقهم و عما يتعرضون للنساء وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ اى ضعف ايمان و قلة ثبات عليه او فجور عن تزلزلهم فى الدين او فجورهم وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ الذين يوقعون فى المدينة الرجفة و هو الزلزلة و الاضطراب الشديد و ذلك ان أناسا من المنافقين كانوا إذا خرجت سرايا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوقعون.

فى الناس الاخبار الكاذبة يقولون انهم قتلوا و انهزموا و يقولون قد أتاكم العدو و نحوها و قال الكلبي يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا و يفشون الاخبار يعنى الكاذبة لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ جواب لقسم محذوف لفظا و للقسم و الشرط معا معنى اى لنأمرنك بقتالهم و اجلائهم او ما يضطرهم الى طلب الجلاء او لنسلطنك عليهم ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ عطف على لنغرينّك لانه يجوز ان يجاب به القسم لصحة قولك لان لم ينتهوا لا يجاورونك و لمّا كان الجلاء عن الوطن من أعظم المصائب عطف بثم لبعد حاله عن حال المعطوف عليه اى لا يساكنونك فِيها اى فى المدينة إِلَّا قَلِيلًا (٦٠) اى زمانا قليلا او جوارا قليلا حتى يخرجوا منها او يقتلوا.

٦١

مَلْعُونِينَ منصوب على الذم و الشتم او الحال و الاستثناء شامل له ايضا اى لا يجاورنك الا ملعونين و لا يجوز ان ينتصب بقوله تعالى أَيْنَما ثُقِفُوا اى وجدوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا (٦١) لان ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبله و التشديد فى قتّلوا يدل على التكثير.

٦٢

سُنَّةَ اللّه فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ مصدر مؤكد اى سنّ اللّه ذلك فى الأمم الماضية و هو ان يقتل الذين نافقوا بالأنبياء وسعوا فى وهنهم بالارجاف و نحوه اين ما ثقفوا او منصوب بنزع الخافض ا ى كسنة اللّه وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّه تَبْدِيلًا (٦٢) لان اللّه تعالى لا يبدل سنته و غيره لا يقدر على ان يبدلها.

٦٣

يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ اى عن وقت قيامها استهزاء او تعنتا او امتحانا فالمشركون كانوا يستهزءون و يسئلون عن الساعة إنكارا و استهزاء و اليهود كانوا يسئلون اما تعنتا و اما امتحانا لان اللّه عمى وقتها فى التورية و فى سائر الكتب قُلْ يا محمد إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللّه لم يطلع اللّه عليه أحدا من الأنبياء و الملائكة وَ ما يُدْرِيكَ و اى شى ء يعلمك وقت قيامها إذا لم يطلع اللّه عليه أحدا من خلقه لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) اى شيئا قريبا او يكون الساعة عن قريب او انتصابه على الظرف و يجوز ان يكون تذكير قريب لان الساعة فى معنى اليوم- و كونه قريبا مبنى على ان كل ما هو ات قريب و لعل لوجوب الوقوع و فيه تهديد للمستعجلين و إسكات للمتعنتين.

٦٤

إِنَّ اللّه لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) نارا شديدا لا يقاد.

٦٥

خالِدِينَ حال من الضمير فى لهم اى مقدرين خلودهم فِيها اى فى السعير أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يحفظهم وَ لا نَصِيراً (٦٥) يدفع العذاب عنهم.

٦٦

يَوْمَ تُقَلَّبُ ظرف لقوله لا يجدون او منصوب باذكر اى يوم تصرف وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ من جهة الى جهة كاللحم يشوى بالنار او من حال الى حال خصت الوجوه بالذكر لانها أكرم مواضع من الجسد او الوجه عبارة عن الجملة يَقُولُونَ حال من الضمير المجرور فى وجوههم و المضاف جزء من المضاف اليه و هو مسند اليه فيصح وقوع الحال عنه يا لَيْتَنا اى يا قومنا ليتنا و قيل يا للتنبيه أَطَعْنَا اللّه فى الدنيا وَ أَطَعْنَا فى الدنيا الرَّسُولَا (٦٦) فلم نبتل بهذا العذاب فى الاخرة زيدت الالف فى الرَّسُولَا و السَّبِيلَا لرعاية الفواصل و الدلالة على انقطاع الكلام و استيناف ما بعده.

٦٧

وَ قالُوا رَبَّنا يا ربنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا يعنون قادتهم الذين سنوا لهم الكفر قرا ابن عامر و يعقوب سادتنا بكسر التاء و الف قبلها على جمع الجمع للدلالة على الكثرة و الباقون بفتح التاء بلا الف قبلها فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (٦٧) بما زيّنوه لنا.

٦٨

رَبَّنا اى يا ربنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ اى مثلى ما أتيتنا منه لانهم ضلوا و أضلونا وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) قرا عاصم بالباء الموحدة اى أشد اللعن و أعظمه و الباقون بالثاء المثلثة اى كثير العدد-.

٦٩

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى يعنى قالوا فيه ما يشينه فَبَرَّأَهُ اللّه مِمَّا قالُوا فاظهر براءته قيل ذلك ما روى عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان موسى كان رجلا حييا كريما ستيرا لا يرى من جلده شى ء استحياء منه فاذاه من أذاه من بنى إسرائيل فقال ما يستر هذا الستر الا من عيب بجلده اما برص و اما ادرة و اما آفة فاراد اللّه ان يبرئه مما قالوا فخلا وحده و خلع ثيابه و وضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلمّا فرغ اقبل على ثيابه ليأخذها فاذا الحجر عدا بثوبه فاخذ موسى عصاه و طلب الحجر فجعل يقول ثوبى يا حجر ثوبى يا حجر حتى انتهى الى ملأ من بنى إسرائيل فرأوه عريانا احسن ما خلق اللّه فابراه مما يقولون و قام الحجر فاخذ موسى ثوبه و لبسه و طفق بالحجر ضربا بعصاه فو اللّه ان بالحجر لبقيا من اثر ضربه ثلاثا او أربعا او خمسا فذلك قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللّه مِمَّا قالُوا- رواه البخاري و الترمذي و احمد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابن مردوية و عبد الرزاق و عبد بن حميد و قال ابو العالية هو ان قارون استأجر امرأة لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمه اللّه فبرأ موسى من ذلك و أهلك قارون و قد مر القصة فى سورة القصص- و قال قوم إذا هم موسى انه لما مات هارون فى التيه ادّعوا على موسى انه قتله فامر اللّه الملائكة حتى مروا به على بنى إسرائيل فعرفوا انه لم يقتله فبراه اللّه مما قالوا- أخرجه ابن منيع و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردوية عن ابن عباس عن على بن ابى طالب رضى اللّه عنهم و اللّه اعلم روى البخاري عن عبد اللّه رضى اللّه عنه قال قسّم النبي صلى اللّه عليه و سلم قسما فقال رجل ان هذه القسمة ما أريد بها وجه اللّه فاتيت النبي صلى اللّه عليه و سلم فاخبرته فغضب حتى رايت الغضب فى وجهه فقال يرحم اللّه موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر وَ كانَ موسى عِنْدَ اللّه وَجِيهاً (٦٩) اى كريما ذا جاه يقال وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه إذا كان ذو جاه و قدر قال ابن عباس كان عند اللّه بحيث لا يسئل شيئا الا أعطاه و كذا قال الحسن و قيل كان مجيبا مقبولا.

٧٠

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه فى ارتكاب ما يكرهه فضلا عما يؤذى رسوله وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (٧٠) قال ابن عباس صوابا و قال قتادة عدلا و قال الحسن صدقا و قيل مستقيما و قيل قاصدا الى الحق و المال واحد يعنى صدقا غير كذب و لا مجازفة فان الكذب يمحق و الصدق يبقى قيل المراد منه نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد و عدل و ما خاضوا فيه من حديث افك عائشة قال عكرمة هو قول لا اله الا اللّه.

٧١

يُصْلِحْ مجزوم فى جواب الأمر و كذا ما عطف عليه لَكُمْ أَعْمالَكُمْ قال ابن عباس يقبل حسناتكم و قال مقاتل يزكى أعمالكم يعنى يصلحها للقبول و الاثابة عليها و قيل معناه يوفقكم للاعمال الصالحة وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ اى يجعلها مكفرة باستقامتكم على القول و العمل وَ مَنْ يُطِعِ اللّه وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) اى ظفر بالخير كله يعيش فى الدنيا حميدا و يبعث فى الاخرة سعيدا.

٧٢

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ و هاهنا ابحاث الاول فى ان الامانة ما هى الثاني فى ان المراد بالسماوات و الأرض و الجبال ما هى أعيانها او أهلها كما فى قوله تعالى وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ يعنى أهلها و الثالث ان المراد بالعرض الخطاب اللفظي او الحالي و الرابع فى معنى الحمل و الإباء عنه- قال ابن عباس الامانة الطاعة و الفرائض التي فرض اللّه تعالى على عباده عرضها اللّه تعالى على السماوات و الأرض و الجبال يعنى على أعيانها بالخطاب اللفظي على ان أدتها اثابهن و ان ضيعتها عذبهن- و قال ابن مسعود الامانة أداء الصلاة و إيتاء الزكوة و صوم رمضان و حج البيت و صدق الحديث و العدل فى الكيل و الوزن و أشد من هذا كله الودائع-

و قال مجاهد الامانة أداء الفرائض و حفظ الدين و قال ابو العالية ما أمروا به و نهوا عنه و قال زيد بن اسلم هى الصوم و الغسل من الجنابة و ما يخفى من الشرائع يعنى ما لا مدخل للرياء فيه و قال عبد اللّه بن عمرو بن العاص أول ما خلق اللّه من الإنسان فرجه و قال هذه امانة استودعكها فالفرج امانة و الاذن امانة و العين امانة و الرجل امانة و لا ايمان لمن لا امانة له- و قال بعضهم هى أمانات الناس و الوفاء بالعهود فحق على كل مؤمن ان لا يغش مؤمنا و لا معاهدا فى شى ء قليل و لا كثير و هى رواية الضحاك عن ابن عباس- و مرجع هذه الأقوال ان الامانة هى التكليفات الشرعية و المراد بالسماوات و الأرض أعيانها

قال البغوي هذا قول ابن عباس و جماعة و اكثر السلف و العرض بالخطاب اللفظي

قال البغوي قال اللّه تعالى لهن أ تحملن هذه الامانة بما فيها قلن و ما فيها قال ان احسنتن جوزيتن و ان عصيتن عوقبتن فقلن لا يا رب نحن مسخرات لامرك لا نريد ثوابا و لا عقابا- قلن ذلك خوفا و خشية و تعظيما لدين اللّه ان لا يتادى منهن حقه لا معصية و مخالفة و كان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما و لو الزمهن لم يمتنعن من حملها- و قيل المراد بالعرض الخطاب اللفظي و بالسماوات و الأرض و الجبال أهلها كما فى قوله تعالى وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ اى أهلها دون أعيانها- و قيل المراد بالسماوات و الأرض و الجبال أعيانها و بالعرض اعتبارها بالاضافة الى استعدادهن و بآبائهن الآباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة و الاستعداد و بحمل الإنسان قابليته و استعداده لها و كونه ظلوما جهولا ما غلب عليه من القوة الغضبية و الشهوية و على هذا يحسن ان يكون هذان الصفتان باعثتين للحمل عليه

قال البيضاوي لعل المراد بالامانة العقل او التكليف و من فوائد العقل ان يكون مهيمنا على القوتين حافظا لهما عن التعدّى و مجاوزة الحدود الشرعية و معظم مقصود التكليف تعديلها و كسر شوكتها و ايضا

قال البيضاوي هذه الاية تقرير للوعد السابق بتعظيم الطاعة و سماها امانة من حيث انها واجبة الأداء و المعنى انها لعظم شأنها بحيث لو عرضت على الاجرام العظام و كانت ذات شعور و ادراك لابت ان تحملها و أشفقت منها و حملها الإنسان مع ضعف بنيته و رخاوة قوته لا جرم فاز الراعي بها و القائم بحقوقها بخير الدارين قلت و نظيره قوله تعالى لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللّه وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فهذه الاية على هذا التأويل كانه مثل ضرب و هذان القولان يعنى قول من ارتكب التجوز فى لفظ السماوات و نحوها و قول من ارتكب التجوز فى العرض و الخطاب مبنيان على استبعاد الخطاب مع الجمادات فقال بعضهم فى دفع هذا الاستبعاد انه تعالى لما خلق هذه الاجرام خلق فيها فهما و قال انى فرضت فريضة و خلقت جنة لمن أطاعني و نارا لمن عصانى فقلن نحن مسخرات على ما خلقنا لا نحتمل فريضة و لا نبغى ثوابا- و لما خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فتحمله و كان ظلوما لنفسه بتحمله ما يشق عليه جهولا لو خامة عاقبته- اخرج ابن ابى حاتم عن مجاهد نحوه و فيه فكان بين ان تحملها الى ان اخرج من الجنة قدر ما بين الظهر و العصر.

و قيل فى دفع الاستبعاد ان الجمادات كلها و ان كانت غير عاقلة بالنسبة إلينا لكنها بالنسبة الى اللّه تعالى عاقلة خاضعة مطيعة ساجدة له قال اللّه تعالى للسماوات و الأرض ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ و قال اللّه تعالى وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ ...

وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه و قال اللّه تعالى أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ قيل المراد بالإنسان فى قوله تعالى وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ آدم عليه السلام قال اللّه تعالى لادم انى عرضت الامانة على السماوات و الأرض و الجبال فلم يطقنها قال و أنت أخذ بما فيها قال يا رب و ما فيها قال ان أحسنت جوزيت و ان اسأت عوقبت فحملها آدم فقال بين اذنى و عاتقى فقال اللّه تعالى إذا قبلت فساعينك و اجعل لبصرك حجابا فاذا خشيت ان تنظر الى ما لا يحل فضع عليه حجابه و اجعل للسانك لحيين و غالقا فاذا خشيت فاغلق و اجعل لفرجك لباسا فلا تكشف على ما حرمت عليك- قال مجاهد فما كان بين ان حملها و بين ما خرج من الجنة الا مقدار ما بين الظهر و العصر قلت لعل الحكمة فى إخراجه من الجنة بعد حمل الامانة ان الجنة ليست محلا لاداء الامانة بل هى محل للثواب على أدائها فاخرج الى الدنيا التي هى مزرعة الاخرة لاداء الامانة-

قال البغوي حكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود انه مثّلت الامانة كصخرة ملقاة و دعيت السماوات و الأرض و الجبال إليها فلم يقربن منها و قلن لا نطيق حملها و جاء آدم من غير ان دعى و حرك الصخر و قال لو أمرت بحملها لحملتها فقال له احملها فحملها الى ركبتيه ثم وضعها و قال و اللّه ان أردت ان ازداد لزدتّ فقلن له احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه فاراد ان يضعها فقال اللّه تعالى مكانك فانما هى فى عنقك و عنق ذريتك الى يوم القيامة و ذكر الزجاج و غيره من اهل المعاني المراد بالامانة الطاعة التي يعم الطبيعية و الاختيارية و بعرضها استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من الاختيار و ارادة صدوره من غيره و بحملها الخيانة فيها و الامتناع عن أدائها و منه قولهم حامل لامانة و محتملها لمن لا يؤديها فيبرأ ذمته فيكون الإباء عنه إتيانها بما يمكن ان يتأتى و الظلم و الجهالة للخيانة و التقصير قال اللّه تعالى لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ و حكى عن الحسن على هذا التأويل انه قال وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ يعنى الكافر و المنافق حملا الامانة اى خانا

قال البغوي قول السلف هو الاول قلت و لمّا كان مقتضى سياق الاية اختصاص الإنسان بحمل الامانة دون غيره من المخلوقات فالقول بان الامانة هى التكليفات الشرعية غير مناسب لاشتراك الجن و الملائكة فيها و يلزم منه فضل الملائكة على الإنسان لادائهم الامانة بكمالها لعصمتهم يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ بخلاف الإنسان لانّ منهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّه- و من ثم قالت الصوفية العلية المراد بالامانة نور العقل و نار العشق فنور العقل يحصل به معرفة اللّه سبحانه بالاستدلال و نار العشق يحصل بها معرفة اللّه سبحانه بحرق الحجب و الملائكة و ان كانوا عباد اللّه المقربين لكنهم مخلوقين فى مقام معلوم من القرب و العرفان قال اللّه تعالى حكاية عنهم وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ فالترقى الى المراتب الغير المتناهية بنار العشق انما هو من خصائص الإنسان- و عندى على ما استفدت من كلام المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه ان الامانة ما أودع اللّه سبحانه فى ماهية الإنسان من الاستعداد للتجليات الذاتية الدائمة فان الجن و ان كان بعد الايمان و الإتيان بالأعمال الصالحة يلحق بالملائكة و تستعد للتجليات الصفاتية لكن التجلي الذاتي لا يتحملها من لا مزاج له من الأرض و هذا الاستعداد هو المستوجب للخلافة و هذا العلم هو المعنى بقوله تعالى للملائكة فى حق آدم عليه السلام إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يعنى اعلموا ان التجلي الذاتي لا يتحملها من لا مزاج له من الأرض و اليه الاشارة بقوله تعالى إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً يعنى مركبا للقوى السبعية الداعية الى التفوق و التعلى المقتضية للترقيات الى أعلى الشواهق جَهُولًا (٧٢) مركبا للقوى البهيمية التي يطيق بها صاحبها تحمل رياضات و مشاق لا بد منها للعاشق فى طلب وصل المحبوب فهو تعليل و منقبة له- و تلك القوتين جميعا ناشيتان من الأرض فان مادة الأرض لكمال كثافته يتحمل التجلي الذاتي كما ان الاجرام الارضية لكثافتها تتنور بنور الشمس دون الاجرام اللطيفة و الملائكة المقربون منحصرون فى مقاماتهم و ولاياتهم و ان كانت ولايتهم فوق ولاية الأنبياء لكونها مستفادة من الصفات من حيث البطون اعنى من حيث قيامها بذات اللّه سبحانه و ولاية الأنبياء من الصفات من حيث الظهور اعنى من حيث هى هى لا من حيث قيامها بالذات- و من هذه الاعتبار هى مباد لمبادى تعينات العالم لكن لاحظ للملائكة من التجلي الذاتي الذي هى كمالات النبوة و لاجل ذلك اختص النبوة بنوع البشر دون غيرهم و صار خواص البشر اى الأنبياء أفضل من خواص الملائكة و صارت الجنة للبشر و الملائكة تدخلون عليهم من كل باب و من قال ان المراد بالامانة التكليفات الشرعية و بتحملها قبولها بالاختيار فمعنى هذه الجملة عندهم انه كان ظلوما لنفسه بتحمله ما يشق عليه جهولا بوخامة عاقبته و ما يلحقه العذاب بترك ادائه و ليس فيه مذمة للانسان بل هى بيان للواقع و

قال البيضاوي حين قال هذه الاية تقرير للوعد السابق ما معنا ان الامانة مع عظم شأنها بحيث لا يطيق حملها الاجرام العظام لو فرضت ذات شعور و حملها الإنسان مع ضعف بنيته فاز الراعي لها بخير الدارين ان قوله إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً حيث لم يف بها و لم يراع حقها جهولا بكنه عاقبتها وصف للجنس باعتبار الأعم الأغلب و قال صاحب بحر المواج معناه ان الإنسان كان ظلوما حيث زعم نفسه قادرا على أداء ما أشفقت عنه السماوات و أمثالها ثم لم يؤدّها جهولا لعجزه عن أدائها- و هذا التأويل ليس عندى بمرضى لان تحمل الامانة كان من آدم عليه السلام و هو المراد بالإنسان و هو كان نبيّا معصوما قد ادى ما حمل عليه و ضمير انّه راجع الى من حمل و قالت الصوفية معنى الاية انه اى الإنسان باعتبار اكثر افراده كان ظلوما على نفسه حيث ضيع استعداده للمعرفة و التجليات الالهية الذي هو فِطْرَتَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها جهولا يحسن ما فات عنه و قبح ما اكتسبه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابواه يهوّدانه او ينصّرانه او يمجّسانه الحديث متفق عليه من حديث ابى هريرة قلت لما سمعت ان الظلم كناية عن القوة السبعية و الجهل عن القوة البهيمية و حسن القوتين و قبحهما ليس الا بحسب متعلقهما و مصرفهما الا ترى ان القوة السبعية ان صرفت لدفع اعداء الدين من الشيطان و أمثاله و كسب التفوق و التعلى الى مدارج القرب كانت حسنة إِنَّ اللّه يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ و ان اللّه يحب معالى الهمم- و ان صرفت فى قهر المعصومين و التكبر و التعلى فى مقابله رب العالمين كانت قبيحة أَلا لَعْنَةُ اللّه عَلَى الظَّالِمِينَ و إِنَّ اللّه لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ- و كذا القوة البهيمية ان صرفت فى كسب السعادة كانت حسنة و ان صرفت فى كسب اللذات كانت قبيحة لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ و لا شك ان حسن تعلقهما موقوف على تزكية النفس و القلب و العناصر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان فى جسد بنى آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله الا و هى القلب رواه البخاري- قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها- و امتثال التكليفات الشرعية سبب لتزكيتها فان كان المراد بالامانة التكليفات الشرعية فقوله إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا اشارة الى علة تحميل الإنسان و تحمله تلك الامانة فالمعنى إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا و لاجل ذلك عرضنا عليه الامانة و تحمله آدم عليه السلام حتى يتزكى بها عن امر زائل و يستعد للفضائل و يكون محمودا فى الدارين و ان كان المراد بالامانة التجليات الذاتية فهو اشارة الى انه كان أهلا لتلك الامانة دون غيره لان تلك الامانة لا يتصور حملها الا من كان جامعا لتلك الصفتين كما ذكرنا و غيرهما من الحواس و القوى.

و على كلا التقديرين لمّا كانت الصفتان المذكورتان على تقدير عدم التزكية و الخذلان من اللّه تعالى و كونهما مصروفتين فى الباطل موجبتين للعذاب و على تقدير التزكية و التأييد من ال لّه و كونهما مصروفتين فى الحق موجبتين للرحمة و الثواب حسن تعليل حمل الامانة و عرضها الذي هو مقتضى تلك الصفتين المركبتين فى الطبيعة الانسانية بقوله تعالى.

٧٣

لِيُعَذِّبَ اللّه اللام للعاقبة كما فى قوله لدوا للموت و ابنوا للخراب الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ المضيعين للامانة و المنهمكين فى الظلم و اللذات وَ يَتُوبَ اللّه اى يرجع بالرحمة و المغفرة و الجدب و الاجتباء و إعطاء مراتب القرب عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ المؤدين للامانات المستغرقين فى التجليات- قال ابن قتيبة اى عرضنا الامانة يعنى التكليفات الشرعية او الاستعداد المودع ليظهر نفاق المنافق و شرك المشرك فيعذبهم اللّه و يظهر ايمان المؤمن (قلت و عرفان العارف) فيتوب عليه بالرحمة و المغفرة ان حصل منه تقصير فى بعض الطاعات قلت و بالتجليات الذاتية الدائمة و الوصل بلا كيف من غير حجاب و ذكر التوبة فى الوعد اشعار بان كونهم ظلوما جهولا فى جبلتهم فلا يخلوا عن فرطات وَ كانَ اللّه غَفُوراً للمؤمنين حيث تاب على فرطا بقم رَحِيماً (٧٣) بهم حيث أثابهم على طاعاتهم تفضلا و أفاض عليهم تجلياته و بركاته.

﴿ ٠