٣٥

باب الدعاء

قوله {يا آدمُ اسْكُنْ} و{يآءادمُ أنب ئْهُمْ} [٣٣] و {ياف رْعوْنُ إ نّ ي رسُولٌ} فكل هذا انما ارتفع لانه اسم مفرد، والاسم المفرد مضموم في الدعاء وهو في موضع نصب، ولكنه جعل كالأسماء التي ليست بمتمكنة. فاذا كان مضافا انتصب لانه الاصل. وانما يريد "أعني فلانا" و "أدعو" وذلك مثل قوله {ياأبانا ما لك لا تأْمنّا} و {ربّنا ظلمْنآ أنفُسنا} انما يريد: "يا ربّ نا ظلمْنا أنْفُسنا"

وقوله "ربّنا تقبّ لْ م نّا".

هذا باب الفاء

قوله {ولا تقْربا هاذ ه الشّجرة فتكُونا م ن الْظّال م ين} فهذا الذي يسميه النحويون "جواب الفاء". وهو ما كان جوابا للامر والنهي والاستفهام والتمني والنفي والجحود. ونصب ذلك كله على ضمير "أنْ"، وكذلك الواو. وان لم يكن معناها مثل معنى الفاء. وانما نصب هذا لان الفاء والواو من حروف العطف فنوى المتكلم ان يكون ما مضى من كلامه اسما حتى كأنه قال "لا يكُنْ منكما قربُ الشجرة" ثم أراد أن يعطف الفعل على الاسم [٢٨ب] فأضمر مع الفعل "أنْ" لأنّ "أنْ" مع الفعل تكون اسما فيعطف اسما على اسم. وهذا تفسير جميع ما انتصب من الواو والفاء. ومثل ذلك قوله {لا تفْترُواْ على اللّه كذ باً فيُسْح تكُم ب عذابٍ} هذا جواب النهي و {لا يُقْضى عليْه مْ فيمُوتُواْ} جواب النفي. والتفسير ما ذكرت لك.

وقد يجوز اذا حسن ان تجري الآخر على الأول ان تجعله مثله نحو قوله {ودُّواْ لوْ تُدْه نُ فيُدْه نُون} أي: "ودُّوا لوْ يُدْه نُون". ونحو قوله {ودّ الّذ ين كفرُواْ لوْ تغْفُلُون عنْ أسْل حت كُمْ وأمْت عت كُمْ فيم يلُون} جعل الأول فعلا ولم ينْو به الاسم فعطف الفعل على الفعل وهو التمني كأنه قال "ودُّوا لو تغْفلون ولوْ يم يلُون"

وقال {لا يُؤْذنُ لهُمْ فيعْتذ رُون} أي "لا يؤذن لهُمْ ولا يعْتذ رُون". وما كان بعد هذا جواب المجازاة بالفاء والواو فان شئت ايضاً نصبته على ضمير "أن" اذا نويت بالأول ان تجعله اسما كما قال {إ ن يشأْ يُسْك ن الرّ يح فيظْللْن رواك د على ظهْر ه } {أوْ يُوب قْهُنّ [ب ما كسبُوا]* ويعْفُ عن كث يرٍ} {ويعْلم الّذ ين} فنصب، ولو جزمه على العطف كان جائزا، ولو رفعه على الابتداء جاز ايضاً.

وقال {وإ ن تُبْدُواْ ما ف ي أنْفُس كُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاس بْكُمْ ب ه اللّه فيغْف رُ ل من يشآءُ} فتجزم {فيغف ر} اذا أردت [٢٩ء] العطف، وتنصب اذا أضمرت "إنْ" ونويت أن يكون الأول اسما، وترفع على الابتداء وكل ذلك من كلام العرب.

وقال {قات لُوهُمْ يُعذّ بْهُمُ اللّه ب أيْد يكُمْ ويُخْز ه مْ وينْصُرْكُمْ عليْه مْ} ثم قال {ويتُوبُ اللّه على من يشآءُ} فرفع {ويتُوبُ} لأنه كلام مستأنف ليس على معنى الأول. ولا يريد "قاتلوهم: "يتبْ اللّه عليهم" ولو كان هذا لجاز فيه الجزم لما ذكرت. و

قال الشاعر [من الوافر وهو الشاهد الخامس والثلاثون]:

فإ نْ يهل كْ أبو قابوس يهل كْ * ربيعُ الناس والشهْرُ الحرامُ

ونُمْس ك بعده بذ ناب عيشٍ * أجبّ الظهر ليس له سنامُ

فنصب "ونمسك" على ضمير "أنْ" ونرى أنْ يجعل الأول اسما ويكون فيه الجزْم ايضاً على العطف والرفعُ على الابتداء.

قال الشاعر: [من الطويل وهو الشاهد السادس والثلاثون]:

ومنْ يغتربْ عن قوم ه لا يزلْ يرى * مصارع مظلومٍ مجرّا ومسْحُبا

ومنْ يغتربْ عن قوم ه لا يج دْ لهُ * على منْ لهُ رهْطٌ حواليه مغْضبا

وتُدْفنُ منه المحسنات وان يُس ىءْ * يكُنْ ما أساء النار في رأس كبْكبا

فـ"تُدفنُ" يجوز فيه الوجوه كلها.

قال الشاعر: [من الطويل وهو الشاهد السابع والثلاثون]:

فإن يرْجع النعمان نفْرحْ ونبْته جْ * ويأت معدّاً مُلْكُها وربيعُها

وإ نْ يهْل ك النعمانُ تُعْر مط يّةٌ * وتُخْبأُ في جوف العياب قُطُوعها

[٢٩ب]

وقال تبارك وتعالى {ومنْ عاد فينْتق مُ اللّه م نْهُ} فهذا لا يكون الا رفعا لانه الجواب الذي لا يستغنى عنه. والفاء اذا كانت جواب المجازاة كان ما بعدها أبدا مبتدأ وتلك فاء الابتداء لا فاء العطف. الا ترى أنك تقول "ان تأت ني فأمُرك عندي على ما تحبُّ". فلو كانت هذه فاء العطف لم يجز السكوت حتى تجيء لما بعد "إنْ" بجواب. ومثلها {ومن كفر فأُمتّ عُهُ قل يلاً}

وقال بعضهم {فأُمتّ عُهُ ثُمّ أضْطرُّهُ} فـ{أضْطرُّهُ} اذا وصل الالف جعله أمْرا. وهذا الوجه اذا أراد به الامر يجوز فيه الضم والفتح. غير ان الالف ألف وصل وانما قطعتها "ثُمّ" في الوجه الآخر، لانه كل ما يكون معناه "أفْعلُ" فانه مقطوع، من الوصل كان أو من القطع. قال {أناْ آت يك ب ه } وهو من "أتى" "يأتي"

وقال {أتّخ ذُ م ن دُون ه آل هةً} فترك الالف التي بعد ألف الاستفهام لانها الف "أفعل" وقال اللّه تبارك* وتعالى فيما يحكى عن الكفار {لوْلا أخّرْتن ي إ لى أجلٍ قر يبٍ فأصّدّق وأكُن مّ ن الصّال ح ين} فقوله {فأصّدّق} جواب للاستفهام، لأنّ {لوْلا} ها هنا بمنزلة "هلا" وعطف {وأكُن} على موضع {فأصّدّق} لأنّ جواب الاستفهام اذا لم يكن فيه فاء جزم. وقد قرأ بعضهم {فأصّدّق وأكُون}[٣٠ء] عطفها على ما بعد الفاء وذلك خلاف الكتاب. وقد قرىء {من يُضْل ل اللّه فلا هاد ي لهُ ويذرُهُمْ} جزم. فجزم {يذرْهُم} على انه عطف على موضع الفاء لان موضعها يجزم اذا كانت جواب المجازاة، ومن رفعها على أنْ يعطفها على ما بعد الفاء فهو أجود وهي قراءة.

وقال {وإ ن تُخْفُوها وتُؤْتُوها الْفُقرآء فهُو خيْرٌ لّكُمْ ويُكفّ رُ عنكُم} جزم ورفع على ما فسرت. وقد يجوز في هذا وفي الحرف الذي قبله النصب لأنه قد جاء بعد جواب المجازاة مثل

{ويعْلم الّذ ين يُجاد لُون ف ي آيات نا} [و] {ولمّا يعْلم اللّه الّذ ين جاهدُواْ م نكُمْ ويعْلم الصّاب ر ين} فانتصب الآخر لأن الأوّل نوى ان يكون بمنزلة الاسم وفي الثاني الواو. وان شئت جزمت على العطف كأنك قلت "ولمّا يعلم الصابرين". فان قال قائل: "ولما يعْلم اللّه الصابرين" {ولمّا يعْلم اللّه الّذ ين جاهدُواْ م نكُمْ} فهو لم يعلمهم؟ قلت بل قد عل م، ولكنّ هذا فيما يذكر أهل التأويل ليبين للناس، كأنه قال "ليعْلمه الناسُ" كما قال {ل نعْلم أيُّ الح زْبيْن أحْصى ل ما لب ثُواْ أمداً} وهو قد علم ولكن ليبين ذلك . وقد قرأ أقوام أشباه هذا في القرآن {ل يُعْلم أيُّ الحزبين} ولا أراهم قرأوه إلاّ لجهلهم بالوجه الآخر.

ومما جاء بالواو* {ولا تلْب سُواْ [٣٠ب] الْحقّ ب الْباط ل وتكْتُمُواْ الْحقّ} إنْ شئت جعلت {وتكْتُمُواْ الْحقّ} نصباً اذ نويت ان تجعل الأول اسما فتضمر مع {تكْتُمُوا} "أنْ" حتى تكون اسما. وان شئت عطفتها فجعلتها جزما على الفعل الذي قبلها. قال {ألمْ أنْهكُما عن ت لْكُما الشّجرة وأقُل لّكُمآ} فعطف القول على الفعل المجزوم فجزمه. وزعموا انه في قراءة ابن مسعود {وأقُولُ لّكُمآ} على ضمير "أن" ونوى أنْ يجعل الأوّل اسما, و

قال الشاعر: [من الطويل وهو الشاهد الثامن والثلاثون]:

لقد كان في حوْلٍ ثواءٍ ثويته * تقضّ ي لُباناتٍ ويسْأم سائ مُ

- ثواءٌ وثواءً او ثواءٍ رفع ونصب وخفض - فنصب على ضمير "أنْ" لأن التقضي اسم، ومن قال "فتُقْضى" رفع: "ويسأمُ" لأنه قد عطف على فعل وهذا واجبٌ، و

قال الشاعر: [من الطويل وهو الشاهد التاسع والثلاثون]:

فإ نْ لم أصدّ قْ ظنّكُمْ بتيقُّنٍ * فلا سقت الأوْصال م نّي الرّواع دُ

ويعلم أكفائي من الناس أنّني * أنا الفارسُ الحامي الذمار المذاودُ

و

قال الشاعر: [من الوافر وهو الشاهد الأربعون]:

فإن يقد رْ عليك أبو قُبيْسٍ * نمُطّ ب ك المن يّة في هوان

وتُخْضب ل حيةٌ غدرتْ وخانتْ * ب أحْمر من نج يع الجوْف آن

[٣١ء] فنصب هذا كله لأنه نوى أن يكون الأوّل اسما فأضمر بعد الواو "أنْ" حتى يكون اسما مثل الأول فتعطفه عليه. وأما قوله {لوْ أنّ لنا كرّةً فنتبرّأ م نْهُمْ } و {فلوْ أنّ لنا كرّةً فنكُون م ن الْمُؤْم ن ين} فهذا على جواب التمني، لأنّ معناه "ليْت لنّا كرّةً". و

قال الشاعر: [من الوافر وهو الشاهد الحادي والأربعون]:

فلستُ بمدركٍ ما فات مني * بـ"لهف" ولا بـ"ليت" ولا "لواني"

فأنزل "لواني" بمنزلة "ليْت" لان الرجل اذا قال: "لو أنّي كنتُ فعلتُ كذا وكذا "فانما تريد "ود دتُ لو كنتُ فعلْتُ". وإنّما جاز ضمير "أنْ" في غير الواجب لأن غير الواجب يجيء ما بعده على خلاف ما قبله ناقضا له.

فلما حدث فيه خلاف لأوله جاز هذا الضمير. والواجب يكون آخره على أوله نحو قول اللّه عز وجل {ألمْ تر أنّ اللّه أنزل م ن السّمآء مآءً فتُصْب حُ الأرْضُ مُخْضرّةً} فالمعنى: "إسمعوا أنزل اللّه من السماء ماءً" فهذا خبر واجب و {ألمْ تر} تنبيه. وقد تنصب الواجب في الشعر.

قال الشاعر: [من الوافر وهو الشاهد الثاني والأربعون]:

سأترُكُ منزلي ل بني تميمٍ * وألْحقُ بالحجاز فأستريحا

وهذا لا يكاد يعرف. وهو في الشعر جائز. وقال طرفة [من الطويل وهو الشاهد الثالث والأربعون]:

[٣١ب] لها هضْبةٌ لا يدْخُلُ الذُلُّ وسْطها * ويأوى اليها المستجيرُ فيُعْصما

واعلم ان اظهار ضمير "أن" في كل موضع أضمر فيه من الفاء لا يجوز الا ترى انك اذا قلت: "لا تأت ه فيضر بك" لم يجز أن تقول: "لا تأْت ه فأنْ يضر بك" وانما نصبته على "أنْ" فلا يسحن اظهاره كما لا يجوز في قولك "عسى أنْ تفعل": "عسى الفعل" ولا في قولك: "ما كان ليفعل": "ما كان لان يفعل" ولا إظهار الاسم الذي في قولك "نعم رجلاً" فرب ضمير لا يظهر لأن الكلام إنما وضع على أن يضمر فاذا ظهر كان ذلك على غير ما وضع في اللفظ فيدخله اللبس.

﴿ ٣٥