٢١٤

وقوله : أَمْ حَسِبْتُمْ ... (٢١٤)

استفهم بأم فى ابتداء ليس قبله ألف «١» فيكون أم ردّا عليه ، فهذا مما أعلمتك «٢» أنه يجوز إذا كان قبله كلام يتّصل به. ولو كان ابتداء ليس قبله كلام كقولك للرجل : أعندك خير؟ لم يجز هاهنا أن تقول : أم عندك خير.

ولو قلت : أنت رجل لا تنصف أم لك سلطان تدلّ به ، لجاز ذلك إذ تقدّمه كلام فاتّصل به.

وقوله : أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [معناه «٣» :

أ ظننتم أن تدخلوا الجنة ولم يصبكم مثل ما أصاب الذين قبلكم ] فتختبروا. ومثله :

«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» «٤» وكذلك فى التوبة «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» «٥».

(١) يريد همزة الاستفهام. [.....]

(٢) انظر ص ٧٢ من هذا الجزء.

(٣) زيادة فى أ.

(٤) آية ١٤٢ سورة آل عمران.

(٥) آية ١٦ من السورة.

وقوله : وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ ... (٢١٤)

قرأها القرّاء بالنصب إلا مجاهدا وبعض «٦» أهل المدينة فإنهما رفعاها.

ولها وجهان فى العربية : نصب ، ورفع. فأما النصب فلأن الفعل الذي قبلها مما يتطاول «٧» كالترداد. فإذا كان الفعل على ذلك المعنى نصب بعده بحتّى وهو

 (٦) هو نافع.

(٧) قوله «يتطاول كالترداد» يعنى ما فيه امتداد الفعل قال ابن عادل فى تفسيره عن الزجاج :

«أصل الزلزلة فى اللغة من زلّ الشيء عن مكانه. فإذا قلت : زلزلته فتأويله أنك كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه كمضاعفة معناه لأن ما فيه تكرير تكرر فيه الفعل نحو صرّ وصر صر وصل وصلصل وكف وكفكف». قال الطبري : الزلزلة فى هذا الموضع الخوف لا زلزلة الأرض ، فلذلك كانت متطاولة ، وكان النصب فى يقول أهم.

فى المعنى ماض. فإذا كان الفعل الذي قبل حتى لا يتطاول وهو ماض رفع الفعل بعد حتّى إذا كان ماضيا.

فأما الفعل الذي يتطاول وهو ماض فقولك : جعل فلان يديم النظر حتى يعرفك ألا ترى أن إدامة النظر تطول. فإذا طال ما قبل حتّى ذهب بما بعدها إلى النصب إن كان ماضيا بتطاوله. قال : وأنشدنى [بعض العرب وهو] «١» المفضّل :

مطوت بهم حتّى تكلّ غزاتهم وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان «٢»

فنصب (تكلّ) والفعل الذي أدّاه قبل حتّى ماض لأنّ المطو بالإبل يتطاول حتى تكلّ عنه. ويدلّك على أنه ماض أنك تقول : مطوت بهم حتى كلّت غزاتهم.

فبحسن «٣» فعل مكان يفعل تعرف الماضي من المستقبل. ولا يحسن مكان المستقبل فعل ألا ترى أنك لا تقول : أضرب زيدا حتى أقرّ ، لأنك تريد : حتى يكون ذلك منه.

وإنما رفع مجاهد لأنّ فعل يحسن فى مثله من الكلام كقولك : زلزلوا حتى قال الرسول. وقد كان الكسائىّ قرأ بالرفع دهرا ثم رجع إلى النصب. وهى فى قراءة عبد اللّه : «و زلزلوا ثم زلزلوا ويقول الرسول» وهو دليل على معنى النصب.

(١) زيادة فى أ.

(٢) البيت لامرئ القيس : المطو : الجدّ والنجاء فى السير. والغزاة جمع غاز ، والذي فى ديوانه :

حتى تكل مطيهم ، والذي فى اللسان فى (مطا) : «غريهم» بالراء وهو تحريف صوابه : «غزيهم» بالزاي كما فى اللسان (غزا) والغزىّ : الغزاة. وأراد بقوله : ما يقدن إلخ أن الجياد بلغ بها الإعياء أشدّه فعجزت عن السير.

(٣) فى الأصول : «فيحسن» وهو تحريف.

و لحتى ثلاثة معان فى يفعل ، وثلاثة معان فى الأسماء.

فإذا رأيت قبلها فعل ماضيا وبعدها يفعل فى معنى مضىّ وليس ما قبل (حتّى يفعل) يطول «١» فارفع يفعل بعدها كقولك جئت حتى أكون معك قريبا ، وكان أكثر النحويين ينصبون الفعل بعد حتّى وإن كان ماضيا إذا كان لغير الأوّل ، فيقولون : سرت حتى يدخلها زيد فزعم الكسائىّ أنه سمع العرب تقول : سرنا حتى تطلع لنا الشمس بزبالة «٢» ، فرفع والفعل للشمس ، وسمع : إنا لجلوس فما نشعر حتى يسقط حجر بيننا ، رفعا. قال : وأنشدنى «٣» الكسائي :

و قد خضن الهجير وعمن حتى يفرّج ذاك عنهنّ المساء

و أنشد (قول الآخر) «٤» :

و ننكر يوم الروع ألوان خيلنا من الطعن حتى نحسب الجون أشقرا «٥»

فنصب هاهنا لأنّ الإنكار يتطاول. وهو الوجه الثاني من باب حتى.

وذلك أن يكون ما قبل حتى وما بعدها ماضيين ، وهما ممّا يتطاول ، فيكون يفعل فيه وهو ماض فى المعنى أحسن من فعل ، فنصب وهو ماض لحسن يفعل فيه. قال الكسائىّ : سمعت العرب تقول : إنّ البعير ليهرم حتى يجعل إذا شرب الماء مجّه. وهو أمر قد مضى ، و(يجعل) فيه أحسن من (جعل). وإنّما حسنت

(١) هذا خبر ليس.

(٢) زبالة كثمالة منزلة من مناهل طريق مكة.

(٣) فى أ: «أنشدنا».

(٤) سقط ما بين القوسين فى ش.

(٥) من قصيدة للنابغة الجعدىّ فى مدح الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومطلعها :

خليلى عوجا ساعة وتهجرا ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا

و قبل بيت الشاهد :

و إنا لقوم ما نعوّد خيلنا إذا ما التقينا أن تحبد وتنفرا

[.....]

لأنها صفة تكون فى الواحد على معنى الجميع ، معناه : إنّ هذا ليكون كثيرا فى الإبل.

ومثله : إنّ الرجل ليتعظّم حتى يمرّ فلا «١» يسلم على الناس. فتنصب (يمرّ) لحسن يفعل فيه وهو ماض وأنشدنى أبو ثروان :

أحبّ لحبّها السودان حتى أحبّ لحبّها سود الكلاب «٢»

و لو رفع لمضيه فى المعنى لكان صوابا. وقد أنشدنيه بعض بنى أسد رفعا. فإذا أدخلت فيه «لا» اعتدل «٣» فيه الرفع والنصب كقولك : إنّ الرجل ليصادقك حتى لا يكتمك سرّا ، ترفع لدخول «لا» إذا كان المعنى ماضيا. والنصب مع دخول لا جائز.

ومثله ما يرفع وينصب إذ دخلت «لا» فى قول اللّه تبارك وتعالى :

«وَ حَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ» «٤» رفعا ونصبا. ومثله : «أَ فَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً» «٥» ينصبان ويرفعان ، وإذا ألقيت منه «لا» لم يقولوه إلّا نصبا وذلك أنّ «ليس» تصلح مكان «لا» فيمن رفع بحتّى وفيمن رفع ب (أن) ألا ترى أنك تقول : إنه ليؤاخيك حتى ليس يكتمك شيئا ، وتقول فى «أن» : حسبت أن لست تذهب فتخلّفت. وكلّ موضع حسنت فيه «ليس» مكان «لا» فافعل به هذا : الرفع مرّة ، والنصب مرّة. ولو رفع الفعل

(١) فى أ: «فما».

(٢) ورد فى عيون الأخبار ٤/ ٤٣ غير معزوّ.

(٣) أي جاز على اعتدال واستواء.

(٤) آية ١٧ سورة المائدة ، قرأ بالرفع أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب ، على أن أن المخففة من الثقيلة. وقرأ الباقون بالنصب ، فتكون أن هى الثنائية الناصبة للمضارع.

(٥) آية ٨٩ سورة طه. والرفع هو قراءة الجمهور. وهو الوجه. وورد النصب فى قراءة أبى حيوة وغيره. وهى قراءة شاذة. والرؤية عليه بصرية. وانظر البحر ٦/ ٢٦٩

فى «أن» بغير «لا» لكان صوابا كقولك حسبت أن تقول ذاك لأنّ الهاء تحسن فى «أن» فتقول حسبت أنه يقول ذاك وأنشدنى القاسم «١» بن معن :

إنى زعيم يا نوي قة إن نجوت من الزواح «٢»

و سلمت من عرض الحتو ف من الغدوّ إلى الرواح «٣»

أن تهبطين بلاد قو م يرتعون من الطلاح «٤»

فرفع (أن تهبطين) ولم يقل : أن تهبطى.

فإذا كانت «لا» لا تصلح مكانها «ليس» فى «حتى» ولا فى «أن» فليس إلا النصب ، مثل قولك : لا أبرح حتى لا أحكم أمرك. ومثله فى «أن» : أردت أن لا تقول ذاك. لا يجوز هاهنا الرفع.

والوجه الثالث فى يفعل من «حتى» أن يكون ما بعد «حتى» مستقبلا ، - ولا تبال كيف كان الذي قبلها - فتنصب كقول اللّه جل وعز «لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى » «٥» ، و«فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي» «٦» وهو كثير فى القرآن.

وأما الأوجه الثلاثة فى الأسماء فأن ترى بعد حتى اسما وليس قبلها شىء يشاكله يصلح عطف ما بعد حتّى عليه ، أو أن ترى بعدها اسما وليس قبلها شىء.

(١) هو قاضى الكوفة ، من ذرية عبد اللّه بن مسعود رضى اللّه عنه. توفى سنة ١٧٥ ، وانظر شذرات الذهب.

(٢) فى ش : الزراح. وهو شدة الضعف فى الإبل حتى تلصق بالأرض فلم يكن بها تهوض ، والزواح هو الذهاب ، وأزاحه عن موضعه : نحاه. وكتب على هامش أ، جأى الموت وهو تفسير للزواح.

(٣) «من الغدو» فى أ، ش : «مع الغدوّ». والعرض : ما يحدث من أحداث الدهر. والحتوف جمع الحنف وهو الموت.

(٤) الطلاح وأحدها طلحة وهى شجرة طويلة لها طل يستظل بها الإنسان والإبل.

(٥) آية ٩١ سورة طه.

(٦) آية ٨٠ من سورة يوسف.

فالحرف بعد حتّى مخفوض فى الوجهين من ذلك قول اللّه تبارك وتعالى «تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ» «١» و«سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» «٢» لا يكونان إلا خفضا لأنه ليس قبلهما اسم يعطف عليه ما بعد حتى ، فذهب بحتى إلى معنى «إلى». والعرب تقول : أضمنه حتى الأربعاء أو الخميس ، خفضا لا غير ، وأضمن القوم حتى الأربعاء.

والمعنى : أن أضمن القوم فى الأربعاء لأنّ الأربعاء يوم من الأيام ، وليس بمشاكل للقوم فيعطف عليهم.

والوجه الثاني أن يكون ما قبل حتى من الأسماء عددا يكثر ثم يأتى بعد ذلك الاسم الواحد أو القليل من الأسماء. فإذا كان كذلك فانظر إلى ما بعد حتى فإن كانت الأسماء التي بعدها قد وقع عليها من الخفض والرفع والنصب ما قد وقع على ما قبل حتى ففيها وجهان : الخفض والإتباع لما قبل حتى من ذلك : قد ضرب القوم حتى كبيرهم ، وحتى كبيرهم ، وهو مفعول به ، فى الوجهين قد أصابه الضرب.

وذلك أنّ إلى قد تحسن فيما قد أصابه الفعل ، وفيما لم يصبه من ذلك أن تقول :

أعتق عبيدك حتى أكرمهم عليك. تريد : وأعتق أكرمهم عليك ، فهذا مما يحسن فيه إلى ، وقد أصابه الفعل. وتقول فيما لا يحسن فيه أن يصيب الفعل ما بعد حتى :

الأيام تصام كلها حتى يوم الفطر وأيام التشريق. معناه يمسك عن هذه الأيام فلا تصام. وقد حسنت فيها إلى.

والوجه الثالث أن يكون ما بعد حتى لم يصبه شىء مما أصاب ما قبل حتّى فذلك خفض لا يجوز غيره كقولك : هو يصوم النهار حتى الليل ، لا «٣» يكون الليل إلا خفضا ، وأكلت السمكة حتى رأسها ، إذا لم يؤكل الرأس لم يكن إلا خفضا.

(١) آية ٤٣ سورة الذاريات.

(٢) آية ٥ سورة القدر.

(٣) فى ش ، ج : «و لا». [.....]

و أمّا قول الشاعر :

فيا عجبا حتى كليب تسبّنى كأنّ أباها نهشل أو مجاشع «١»

فإنّ الرفع فيه جيّد وإن لم يكن قبله اسم لأنّ الأسماء التي تصلح بعد حتى منفردة إنما تأتى من المواقيت كقولك : أقم حتى الليل. ولا تقول أضرب حتى زيد لأنه ليس بوقت فلذلك لم يحسن إفراد زيد وأشباهه ، فرفع بفعله ، فكأنه قال :

يا عجبا أتسبّنى اللئام حتى يسبنى كليبىّ «٢». فكأنه عطفه على نيّة أسماء قبله. والذين خفضوا توهموا فى كليب ما توهموا فى المواقيت ، وجعلوا الفعل كأنه مستأنف بعد كليب كأنه قال : قد انتهى بي «٣» الأمر إلى كليب ، فسكت ، ثم قال : تسبنى.

(١) من قصيدة للفرزدق هجا بها جريرا. وكليب رهط جرير. ونهشل ومجاشع ابنا دارم بن مالك ابن حنظلة. ومجاشع قبيلة الفرزدق ، وانظر الخزانة ٣/ ١٦٩

(٢) كذا فى ش ، ج. والأنسب :

«كليب».

(٣) فى ش ، ج : «فى».

﴿ ٢١٤