١٣

وقوله : قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا ... (١٣)

يعنى النبىّ صلى اللّه عليه وآله وأصحابه وسلم ، والمشركين يوم بدر.

فِئَةٌ تُقاتِلُ قرئت بالرفع وهو وجه الكلام على معنى : إحداهما تقاتل فى سبيل اللّه وَأُخْرى كافِرَةٌ على الاستئناف كما قال الشاعر «٣» :

فكنت كذى رجلين رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزّمان فشلّت

و لو خفضت لكان جيدا : تردّه على الخفض الأوّل كأنك قلت : كذى رجلين : كذى رجل صحيحة ورجل سقيمة. وكذلك يجوز خفض الفئة والأخرى على أوّل الكلام.

ولو قلت : «فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ» كان صوابا على قولك «٤» : التقتا مختلفتين. وقال الشاعر فى مثل ذلك مما يستأنف :

إذا متّ كان الناس نصفين شامت وآخر مثن بالذي كنت أفعل «٥»

 (٣) هو كثير عزة.

والبيت من قصيدته التي مطلعها :

خليلىّ هذا ربع عزة فاعقلا قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت

(٤) يريد أن انتصابهما على الحالية.

(٥) يروى النحويون هذا البيت بتغيير فى قافيته ، فهى عندهم : «أصنع» بدل «أفعل» ويروون :

«صنفان» فى مكان «نصفين» وينسب إلى العجير السلولي من شعراء الدولة الأموية. ورواية النحويين بقافية العين هى الصواب. ومطّلع القصيدة :

ألما على دار لزينب قد أتى لها باللوى ذى المرخ صيف ومربع

و قولا لها قد طالما لم تكلمى وراعك بالغيث الفؤاد المروع

و انظر سيبويه ١/ ٣٦

ابتدأ الكلام بعد النصفين ففسّره. وأراد : بعض شامت وبعض غير شامت.

والنصب فيهما جائز ، يردّهما على النصفين. وقال الآخر :

حتى إذا ما استقلّ النجم فى غلس وغودر البقل ملوىّ ومحصود «١»

ففسر بعض البقل كذا ، وبعضه كذا. والنصب جائز.

وكل فعل أوقعته على أسماء لها أفاعيل ينصب على الحال الذي «٢» ليس بشرط ففيه الرفع على الابتداء ، والنصب على الاتصال بما قبله من ذلك : رأيت القوم قائما وقاعدا ، وقائم وقاعد لأنك نويت بالنصب القطع ، والاستئناف فى القطع «٣» حسن.

وهو أيضا فيما ينصب بالفعل جائز فتقول : أظنّ القوم قياما وقعودا ، وقيام وقعود ، وكان «٤» القوم بتلك المنزلة. وكذلك رأيت القوم فى الدار قياما وقعودا ، وقيام وقعود ، وقائما وقاعدا ، وقائم وقاعد فتفسّره بالواحد والجمع قال الشاعر :

و كتيبة شعواء ذات أشلّة فيها الفوارس حاسر ومقنّع «٥»

فإذا نصبت على الحال لم يجز أن تفسّر الجمع بالاثنين ، ولكن تجمع فتقول : فيها القوم قياما وقعودا.

(١) استقل النجم : ارتفع وقد غلب النجم فى الثريا. والغلس : ظلام آخر الليل. والملوي :

اليابس الذابل وإن كان الوارد ألوى ، والوصف ملو.

(٢) سيذكر ما خرج بهذا ، وهو الحال الذي هو شرط فيجب فيه النصب ، نحو أكرم الجيش ظافرا وقاهرا لأعدائه ، لأن المعنى على الشرط أي أكرمه إن ظفر وقهر الأعداء ، فإذا قلت : رأيت الجيش راكبين وراجلين جاز الرفع والنصب لأن الحال ليس بشرط.

(٣) يريد بالقطع أن الوصف ليس شرطا وقيدا فى الفعل قبله. [.....]

(٤) كذا. وقد يكون الأصل : «أي كان».

(٥) «شعواء» : كثيرة متفرقة ، من قولهم : شجرة شعواء : منتشرة الأغصان. و«أشلة» جمع شليل وهو الغلالة تلبس فوق الدرع ، أو هو الدرع القصيرة تكون تحت الكبيرة. والحاسر : من لا مغفر له ولا درع. والمقنع هو المغطى بالسلاح.

و أمّا الذي على الشرط مما لا يجوز رفعه فقوله : اضرب أخاك ظالما أو مسيئا ، تريد : اضربه فى ظلمه وفى إساءته. ولا يجوز هاهنا الرفع فى حاليه لأنهما متعلقتان بالشرط. وكذلك الجمع تقول : ضربت القوم مجرّدين أو لابسين ، ولا يجوز : مجردون ولا لابسون إلا أن تستأنف فتخبر ، وليس بشرط للفعل ألا ترى أنك لو أمرت بضربهم فى هاتين الحالين لم يكن فعلهم إلا نصبا فتقول :

اضرب القوم مجرّدين أو لابسين لأن الشرط فى الأمر لازم. وفيما قد مضى يجوز أن تجعله خبرا وشرطا. فلذلك جاز الوجهان فى الماضي.

وقوله : يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ زعم بعض من روى عن ابن عبّاس أنه قال :

رأى المسلمون المشركين فى الحزر ستمائة وكان المشركون تسعمائة وخمسين ، فهذا وجه. وروى قول آخر كأنه أشبه بالصواب : أن المسلمين رأوا المشركين على تسعمائة وخمسين والمسلمون قليل ثلاثمائة وأربعة عشر ، فلذلك قال : «قَدْ كانَ لَكُمْ» يعنى اليهود «آيَةٌ» فى قلّة المسلمين وكثرة المشركين.

فإن قلت : فكيف جاز أن يقال «مِثْلَيْهِمْ» يريد ثلاثة أمثالهم

 قلت :

كما تقول وعندك عبد : أحتاج إلى مثله «١» ، فأنت محتاج إليه وإلى مثله ، وتقول :

أحتاج إلى مثلى عبدى ، فأنت إلى ثلاثة محتاج. ويقول الرجل : معى ألف وأحتاج إلى مثليه ، فهو يحتاج إلى ثلاثة. فلمّا نوى أن يكون الألف داخلا فى معنى المثل صار المثل اثنين والمثلان ثلاثة. ومثله فى الكلام أن تقول :

أراكم مثلكم ، كأنك قلت : أراكم ضعفكم ، وأراكم مثليكم يريد ضعفيكم ، فهذا على معنى الثلاثة.

(١) فى القرطبي ٤/ ٦ بعد إيراد قول الفرّاء : «و هو بعيد غير معروف فى اللغة. قال الزجاج :

و هذا باب الغلط ، فيه غلط فى جميع المقاييس لأنا إنما نعقل مثل الشيء مساويا له ، ونعقل مثليه ما يساويه مرتين».

فإن قلت : فقد قال فى سورة الأنفال : وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ «١» فكيف كان هذا هاهنا تقليلا ، وفى الآية الأولى تكثيرا؟

قلت : هذه آية المسلمين أخبرهم بها ، وتلك الآية لأهل الكفر. مع أنك تقول فى الكلام : إنى لأرى كثيركم قليلا ، أي قد هوّن علىّ ، لا أنى أرى الثلاثة اثنين.

ومن قرأ (ترونهم) ذهب إلى اليهود لأنه خاطبهم ، ومن قال (يرونهم) فعلى ذلك كما قال : حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ «٢» وإن شئت جعلت (يرونهم) للمسلمين دون اليهود.

(١) آية ٤٤

(٢) آية ٢٢ سورة يونس. وتضرب الآية مثلا لما يسمونه الالتفات وهو الانتقال من الخطاب إلى الغيبة ، وما جرى هذا المجرى. وهو من تلوين الخطاب.

﴿ ١٣