١٦و (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (١٦) تقرأ أمَرْنَا مخففَةً على تقدير فعلنا (١) ، وتقرأ آمرنا مترفيها على تقدير أفعلنا. ويقرأ أمَّرْنا - بتشديد الميم - ، فأما من قرأ بالتخفيف فهو من الأمر ، أمرناهم بالطاعة ففسقوا. فإن قال قائل : ألست تقول : أمرت زيداً فضرب عمراً ، فالمعنى أنك أمرته أن يضرب عمرا فضربه ، فهذا اللفظ لا يدل على __________ (١) قال السَّمين : قوله تعالى : أَمَرْنَا : قرأ العامَّةُ بالقصرِ والتخفيفِ وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه من الأمرِ الذي هو ضِدُّ النهيِ . ثم اختلف القائلون بذلك في متعلَّق هذا الأمرِ : فعن ابن عباس في آخرين : أنه أَمَرْناهم بالطاعةِ فَفَسَقُوا ، وقد ردَّ هذا الزمخشريُّ رداً شديداً وأنكره إنكاراً بليغاً في كلامٍ طويلٍ ، حاصلُه : أنه حَذْفُ ما لا دليلَ عليه ، وقدَّر هو متعلِّق الأمرِ : الفسق ، أي : أَمَرْناهم بالفسق قال : « أي : أَمَرْناهم بالفِسْق ، فعملوا ، والأمرُ مجازٌ؛ لأنَّ حقيقةَ أمرِهم بالفسقِ أَنْ يقول لهم : افْسُقوا ، وهذا لا يكونُ ، فبقي أن يكونَ مجازاً . ووجهُ المجازِ : أنه صَبَّ عليهم النعمة صَبَّاً ، فجعلوها ذريعةً إلى المعاصي واتِّباع الشهوات ، فكأنهم مَأمورون بذلك لِتَسَبُّبِ إيلاءِ النِّعْمَةِ فيه ، وإنما خَوَّلهم فيها ليشكروا ». ثم قال : « فإنْ قلت : فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ معناه : أَمَرْناهم بالطاعةِ ففسَقُوا . قلت : لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ ، فكيف حَذْفُ ما الدليلُ قائمٌ على نَقِيضِه؟ وذلك أنَّ المأمورَ به إنما حُذِفَ لأنَّ » فَفَسَقُوا « يدلُّ عليه ، وهو كلامٌ مستفيضٌ يقال : » أَمَرْتُه فَقام « ، و » أَمَرْتُه فَقَرأ « ، لا يُفهم منه إلا أنَّ المأمورَ به قيامُ قراءةُ ، ولو ذَهَبْتَ تُقَدِّر غيرَه رُمْتَ مِنْ مخاطَبِك عِلْمَ الغيبِ ، ولا يَلْزَمُ [ على ] هذا قولُهم : و » أَمَرْتُه فعصاني « » فلم يمتثلْ « لأنَّ ذلك منافٍ للأمرِ مناقِضٌ له ، ولا يكونُ ما يناقض الأمرَ مأموراً به ، فكان محالاً أن يُقْصَدَ أصلاً حتى يُجْعَلَ دالاًّ على المأمورِ به ، فكان المأمورُ به في هذا الكلامِ غيرَ مَنْوِيٍّ ولا مُرادٍ؛ لأن مَنْ يتكلمُ بهذا الكلامِ لا يَنْوي لآمرهِ مأموراً به ، فكأنه يقول : كان مني أَمْرٌ فكان منه طاعةٌ ، كما أنَّ مَنْ يقول : [ » فلان ] يبأمرُ ويَنْهى ويعطي ويمنع « لا يَقْصِدُ مفعولاً . فإن قلت : هلاَّ كان ثبوتُ العلمِ بأنَّ اللّه لا يأمرُ بالفحشاء دليلاً على أنَّ المراد : أَمَرْناهم بالخيرِ ، قلت : لأنَّ قوله » فَفَسَقوا « يدافعه ، فكأنَّك أظهَرْتَ شيئاً وأنت تُضْمِرُ خلافَه ، ونظيرُ » أمر « : » شاء « في أنَّ مفعولَه استفاضَ حَذْفُ مفعولِه لدلالةِ ما بعدَه عليه . تقول : لو شاءَ لأحسنَ إليك ، ولو شاءَ لأساءَ إليك ، تريد : لو شاء الإِحسانَ ، ولو شاء الإِساءةَ ، ولو ذَهَبْتَ تُضْمِرُ خلافَ ما أظهرْتَ ، وقلت : قد دَلَّتْ حالُ مَنْ أُسْنِدَتْ إليه المشيئةُ أنه من أهلِ الإِحسان من أهلِ الإِساءةِ فاتركِ الظاهرَ المنطوقَ وأَضْمِرْ ما دَلَّتْ عليه حالُ المسندِ إليه المشيئةُ ، لم تكنْ على سَدادٍ ». وتَتَبَّعه الشيخُ في هذا فقال : « أمَّا ما ارتكبه من المجاز فبعيدٌ جداً ، وأمَّا » لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ « فتعليلٌ لا يَصِحُّ فيما نحن بسبيلِه ، بل ثَمَّ ما يَدُلُّ على حَذْفِه. و « فكيف يُحْذَفُ ما الدليلُ على نقيضِه قائمٌ » إلى « عِلْم/ الغيب » فنقول : حَذْفُ الشيءِ تارةً يكونُ لدلالةِ موافِقِه عليه ، ومنه ما مَثَّل به في قولِه « أَمَرْتُه فقامَ » ، وتارة يكونُ لدلالةِ خِلافِه ضدِّه نقيضِه كقولِه تعالى : وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اليل والنهار [ الأنعام : ١٣ ] ، أي : ما سَكَنَ وتحرَّك ، و سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر [ النحل : ٨١ ] ، أي : والبردَ ، وقول الشاعر : ٣٠٤١- وما أَدْرِيْ إذا يَمَّمْتُ أرْضاً . . . أريدُ الخيرَ ايُّهما يَلِينْي أالخيرُ الذي أنا أَبْتَغِيْهِ . . . أم الشرُّ الذي هو يَبْتَغيني أي : وأَجْتَنِبُ الشرَّ ، وتقول : « أَمَرْتُه فلم يُحْسِنْ » فليس : أمرتُه بعدم الإِحسانِ ، بل : أَمَرْتُه بالإِحسانِ فلم يُحْسِنْ ، والآيةُ من هذا القبيل ، يُستدلُّ على حذف النقيض بنقيضه كما يُسْتَدَلُ على حَذْفِ النظير بنظيره ، وكذلك « أَمَرْتُه فأساء إليَّ » ليس : أَمَرْتُه بالإِساءة بل أَمَرْتُه بالإِحسان . و « ولا يَلْزم هذا قولَهم : » أَمَرْتُه فعصاني « . نقول : بل يَلْزَمُ . و » لأنَّ ذلك منافٍ « ، أي : لأنَّ العِصْيانَ منافٍ . وهو كلامٌ صحيح . و » فكان المأمورُ به غيرَ مدلولٍ عليه ولا مَنْويٌّ « لا يُسَلَّم بل مَدْلُولٌ عليه ومنوِيٌّ لا دلالةُ الموافقِ بل دلالةُ المناقِض ، كما بَيَّنَّا . و » لا يَنْوِي مأموراً به « لا يُسَلَّم . و » لأنَّ فَفَسَقُوا يدافعُه ، إلى آخره « قلنا : نعم نَوَى شيئاً ويُظهِرُ خلافَه ، » لأنَّ نقيضَه يَدُلُّ عليه . و « ونظيرُ » أمر « » شاء « ليس نظيرَه؛ لأنَّ مفعولَ » أمر « كَثُر التصريحُ به . قال اللّه [ تعالى ] : إِنَّ اللّه لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء [ الأعراف : ٢٨ ] أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ [ يوسف : ٤٠ ] يَأْمُرُ بالعدل [ النحل : ٦٧ ] أَمَرَ رَبِّي بالقسط [ الأعراف : ٢٩ ] أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ [ الطور : ٣٢ ] وقال الشاعر : ٣٠٤٢- أَمَرْتُك الخيرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ به . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قلت : والشيخُ رَدَّ عليه رَدَّ مُسْتَريحٍ من النظرِ ، ولولا خَوفُ السآمةِ على الناظرِ لكان للنظرِ في كلامهما مجالٌ. والوجه الثاني : أنَّ » أَمَرْنا « بمعنى كَثَّرْنا ، ولم يَرْتَضِ الزمخشريُّ في ظاهرِ عبارتِه فإنَّه قال : » وفسَّرَ بعضُهم « أَمَرْنا » ب « كَثَّرْنا » ، وجَعَلَه من بابِ : فَعَّلْتُه فَفَعَلَ ، كَثَبَّرْتُه فَثَبَر . وفي الحديثِ : « خَيْرُ المالِ سِكَّةٌ مأْبُوْرة ومُهْرَةٌ مَأْمورة » ، أي : كثيرةُ النِّتاج « . قلت : وقد حكى أبو حاتم هذه اللغةَ ، يقال : أَمِر القومُ ، وأَمَرهم اللّه ، ونقله الواحديُّ أيضاً عن أهل اللغة ، وقال أبو علي : » الجيِّد في « أَمَرْنا » أن يكونَ بمعنى كَثَّرْنا «. واستدل أبو عبيدة بما جاء في الحديثِ فذكره . يقال : أَمَرَ اللّه المُهْرَة ، أي : كَثَّر ولدَها . قال » ومَن أنكر « أمرَ اللّه القومَ » أي : كَثَّرهم لم يُلتفَتْ إليه لثبوتِ ذلك لغةً «. ويكون ممَّا لَزِمَ وتعدَّى بالحركةِ المختلفةِ؛ إذ يُقال : أَمِر القومُ كَثُروا ، وأَمَرَهم اللّه كثَّرهم ، وهو من بابِ المطاوعة : أَمَرهم اللّه فَأْتَمَروا كقولِك : شَتَرَ اللّه عَيْنَه فَشَتِرَتْ ، وجَدَعَ اَنْفَه فَجَدِع ، وثَلَمَ سِنَّه فَثَلِمَتْ. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمةُ : « أَمِرْنا » بكسر الميم بمعنى « أَمَرْنا » بالفتح . حكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه يُقال : « أَمَرَ اللّه مالَه ، وأَمِرَه » بفتح الميم وكسرِها ، وقد رَدَّ الفراء هذه القراءةَ ، ولا يُلْتَفَتُ لِرَدِّه لثبوتِها لغةً بنَقْلِ العُدولِ ، وقد نَقَلها قراءةً عن ابن عباس أبو جعفر وأبو الفضل الرازي في « لوامِحه » فكيف تُرَدُّ؟ وقرأ عليُّ بن أبي طالب وابنُ أبي إسحاق وأبو رجاء في آخرين « آمَرْنا » بالمَدِّ ، ورُوِيَتْ هذه قراءةً عن ابنِ كثير وأبي عمرو وعاصم ونافعٍ ، واختارها يعقوبُ ، والهمزةُ فيه للتعديةِ؟ وقرأ عليٌّ أيضاً وابنُ عباس وأبو عثمان النهدي : « أمَّرْنا » بالتشديد . وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّ التضعيفَ للتعديةِ ، عدَّاه تارةً بالهمزة وأخرى بتضعيفِ العين ، كأَخْرَجْته وخَرَّجته . و الثاني : أنه بمعنى جعلناهم أُمَراءَ ، واللازمُ من ذلك « أُمِّر » . قال الفارسيُّ ، « لا وجهَ لكون » أَمَّرْنا « / من الإِمارة؛ لأنَّ رئاستَهم لا تكونُ إلاَّ لواحدٍ بَعْدَ واحدٍ ، والإِهلاكُ إنما يكون في مُدَّة واحدة » . وقد رُدَّ على الفارسي : بأنَّا لا نُسَلِّم أن الأميرَ هوالمَلِك حتى يَلْزَمَ ما قلتُ ، لأنَّ الأميرُ عند العرب مَنْ يَأْمُرُ ويُؤْتَمَرُ به . ولَئِنْ سُلِّم ذلك لا يلزم ما قال؛ لأنَّ المُتْرَفَ إذا مَلَكَ فَفَسَق ثم آخرَ بعده فَفَسَق ، ثم كذلك كَثُر الفسادُ ، ونزل بهم على الآخِر مِنْ ملوكهم . اهـ (الدر المصون). غير الضرب ، ومثل أمَرْنا مُتْرفيها ففسقوا فيها . من الكلام : أمرتك فعَصَيتني. فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر ، وكذلك الفَسْقُ مُخَالَفَة أمْرِ اللّه جل ثناؤه. وقد قيل : إنَّما معنى أمرنا مترفيها كَثَّرْنَا مترفيها ، والدليل علي هذا قول النبي - صلى اللّه عليه وسلم - " خير المال سِكَّةُ مأبورة ومُهْرة مَأمُورَة ". أي مُكَثرَة ، والعرب تقول قَدْ أمِرَ بنو فلان إذَا كَثرُوا. قال الشاعر : إن يُغْبَطُو يَهْبطوا وَإن أمِروا . . . يوماً يصيروا للّهلك والنَّفَد ويروى بالنقد - بالقاف - ومن قرأ آمرنا فتأويله أكْثَرنا ، والكثرة ههنا يصلح أن يكون شيئين ، أحدهما أن يكثر عدد المترفين ، والآخر أن تكثر جِدَتُهم ويسَارُهُمْ. ومن قرأ أمَّرنا بالتشدِيد ، فمعناه سَلَّطنَا مترفيها أي جعلنا لَهُمْ إمْرةً وسلطانا . |
﴿ ١٦ ﴾