٥

و (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)

__________

(١) قال السَّمين :

  والذين يَرْمُونَ المحصنات  : ك  الزانية والزاني فاجلدوا  [ النور : ٢ ] ، فيعودُ فيه ما تقدَّم بحاله . و  المحصنات  فيه وجهان أحدُهما : أنَّ المرادَ به النساءُ فقط ، وإنَّما خَصَّهُنَّ بالذِّكْر؛ لأنَّ قَذْفَهُنَّ أشنعُ . و

الثاني : أنَّ المرادَ بهنَّ النساءُ والرجال ، وعلى هذا فيقالُ : كيف غَلَّبَ المؤنَّثَ على المذكر؟ والجوابُ : أنه صفةٌ لشيء محذوفٍ يَعُمُّ الرجالَ والنساءَ ، أي : الأنفسَ المحصناتِ وهو بعيدٌ .  تقولُ : ثَمَّ معطوفٌ محذوفٌ لفهمِ  ، والإِجماعُ على أنَّ حكمَهم حكمُهن أي : والمُحْصَنين.

  بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ  العامَّة على إضافة اسمِ العددِ للمعدود . وقرأ أبو زرعة وعبد اللّه بن مسلم بالتنوينِ في العدد ، واستفصحَ الناسُ هذه القراءةَ حتى جاوزَ بعضُهم الحدَّ ، كابنِ جني ، ففضَّلها على قراءة العامَّةِ قال : « لأنَّ المعدودَ متى كان صفةً فالأجودُ الإِتباعُ دونَ الإِضافةِ . تقول : عندي ثلاثةُ ضاربون ، ويَضْعُفُ ثلاثةُ ضاربين » وهذا غلطٌ ، لأن الصفةَ التي جَرَتْ مجرى الأسماءِ تُعْطى حكمَها فيُضاف إليها العددُ ، و « شهداء » مِنْ ذلك؛ فإنه كَثُرَ حَذْفُ موصوفِه . قال تعالى :  مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ   واستشهدوا شَهِيدَيْنِ  [ البقرة : ٢٨٢ ] وتقول : عندي ثلاثةُ أَعْبُدٍ ، وكلُّ ذلك صفةٌ في الأصل.

ونَقَل ابنُ عطية عن سيبويهِ أنه لا يُجيزَ تنوينَ العددِ إلاَّ في شعرٍ ، وليس كما نقله عنه ، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماءِ نحو : ثلاثةُ رجالٍ ، وأمَّا الصفاتُ ففيها التفصيلُ المتقدمُ.

وفي  شُهَدَآءَ  على هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجهٍ . أحدُها : أنه تمييزٌ . وهذا فاسد؛ لأنَّ مِنْ ثلاثة إلى عشرة يُضافُ لمميِّزه ليس إلاَّ ، وغيرُ ذلك ضرورةٌ .

الثاني : أنه حالٌ وهو ضعيفٌ أيضاً لمجيئها من النكرةِ من غيرِ مخصِّص . الثالث : أنها مجرورةٌ نعتاً لأربعة ، ولم ينصَرِفْ لألف التأنيث . اهـ (الدُّرُّ المصُون)

اختلف الناس في قبول شهادة القاذف ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إذَا تَابَ مِنْ قَذْفِهِ

قُبِلَتْ شهادَتُه.

ويروى أَنَ عُمَر بنَ الخَطَابِ قَبلَ شهادة قاذفيْن ، وقال لأبي بكرة

إنْ تُبْتَ قَبِلتُ شَهَادَتَك.

وتوبتُه أَن يرْجَع عن القذف.

وهذا مذهب أكثر الفقهاء ، وأما أَهْلُ العِرَاقِ فيقولون شهادَتُه غير مقبولة لِقَوْلِ اللّه تَعَالَى : (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) ، قالوا ، و (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ).

قالوا : هذا الاستثناء من  (وأولئك هم الفاسقون) ، فاسْتُثْنِيَ التائبُونَ

مِنَ الفَاسِقين.

وقال من زعم أن شهادته مَقْبُولَةٌ أن الاستثناء من

(وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبداً . إِلا الَّذِينَ تَابُوا ) قالوا و

(وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) صِفَةٌ لَهُمْ.

وَأَجْمَعُوا أن من قذف وهوكافر ثم أسلم وتَابَ ، وكان بَعْدَ إسْلاَمِه

عَدْلاً قبلت شَهادَتُه وإن كان قاذفاً ، والقياس قبول شهادة القاذف إن تاب

واللّه - عزَّ وجلَّ - يقول في الشهادات : (مِمنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشهَدَاءِ)

فليس القاذف بِأَشد جُرْماً مِنَ الكافِر ، فحقه أنه إذا تاب وأصلح قُبِلَتْ شهادَتُه ، كما أن الكافِرَ إذا أسلم وأصلح قبلت شَهادَتُه.

فإن قال قائل : فما الفائدة في قوله (أَبَدًا) ؟

قيل الفَائِدَةُ أن الأبدَ لكل إنسان مقدار مُدتِهِ في حياته ، ومقدار مدَّتِه فيما يتصل بقصَّتِهِ . فتقول : الكافر لا يُقْبَلُ منه شَيْء أَبَداً فمعناه ، ما دام كافراً فلا يقْبَلُ منه شيء.

وكذلك إذَا قُلْتَ : القَاذِفُ لا تُقْبَل منه شَهادَة أبداً ، فمعناه ما دَامَ قَاذِفاً ، فإذا زال عنه الكفر فقد زال أَبَدُه ، وكذلك القاذفُ إذا زال عنه القذفُ فقد زال عنه أَبَدُه ، ولا فرقَ بين هَذا وذَلكَ . -

وتقرأ (ثم لم يأتوا بِأربَعَةٍ شهدَاءَ) - بالتنوين - (فَاجْلِدُوهًمْ) ، فأرْبَعة

مخفُوضَة مُنَؤَنةٌ ، وَ (شَهداء) صفة للأربعة ، في موضع جَرٍّ.

ويَجَوْزُ أنْ يَكونَ فِي موضع نَصْبٍ مِنْ جهتين :

إحداهما على معنى ثم لم يُحْضِرُوا أرْبَعةً شهداءَ ، وعلى

نصب الحال مع النكِرةِ ثم لم يأتوا حال الشهادة.

فأمَّا (إلا الَّذِينَ تَابُوا) فيجوز أَنْ يَكُونَ في مَوْضِع جَر على البَدَلِ من

الهاء والميم ، على معنى ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً إلا الذين تابوا.

ويجوز أن يكون في موضع نَصْبٍ على الاستثناء على

(وأولئك هم الفَاسِقُونَ - إلا الَّذِينَ تَابُوا) ، وإذا استُئنُوا من الفَاسِقينَ أيضاً.

فقد وجب قبول شَهَادَتِهم لأنهم قد زال عنهم اسم الفِسْقِ (١).

* * *

﴿ ٥