٢٠و (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) __________ (١) قال السَّمين : وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه معطوفٌ على « خَلْقِكم » المجرورِ ب « في » والتقديرُ : وفي ما يَبُثُّ . و الثاني : أنه معطوفٌ على الضميرِ المخفوضِ بالخَلْق ، وذلك على مذهبِ مَنْ يرى العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ واستقبحه الزمخشريُّ وإنْ أُكِّد نحو : « مررتُ بك أنت وزيدٍ » يُشير بذلك إلى مذهب الجرميِّ فإنَّه يقول : إن أُكِّد جازَ ، وإلاَّ فلا ، فقولُه مذهبٌ ثالثٌ. آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ و آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ قرأ « آياتٍ » بالكسر في الموضعَيْن الأخوَان ، والباقون برفعهما . ولا خلافَ في كسرِ الأولى لأنها اسمُ « إنَّ » . فأمَّا آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ بالكسر فيجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أنها معطوفةٌ على اسم « إنَّ » ، والخبرُ « وفي خَلْقِكم » . كأنه قيل : وإنَّ في خَلْقِكم وما يَبُثُّ مِنْ دابة آياتٍ . و الثاني : أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ تأكيداً لآيات الأُولى ، ويكونُ « في خَلْقكم » معطوفاً على « في السماوات » كُرِّر معه حرفُ الجَرِّ توكيداً . ونظيرُه أَنْ تقولَ : « إنَّ في بيتك زيداً وفي السوق زيداً » فزيداً الثاني تأكيدٌ للأول ، كأنك قلت : إنَّ زيداً زيداً في بيتك وفي السوق وليس في هذه عطفٌ على معمولَيْ عاملَيْن ألبتَّةََ. وقد وَهِم أبو البقاء فجعلها مِنْ ذلك فقال : آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ يُقرأ بكسر التاءِ ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّ « إنَّ » مضمرةٌ حُذِفَتْ لدلالة « إنَّ » الأُولى عليها ، وليسَتْ « آيات » معطوفةً على « آيات » الأولى لِما فيه من العطفِ على معمولَيْ عامليْن . و الثاني : أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ للتأكيد لأنها مِنْ لفظ « آيات » الأُوْلى ، وإعرابُها كقولِك : « إن بثوبك دماً وبثوبِ زيد دماً » ف « دم » الثاني مكررٌ؛ لأنَّك مُسْتغنٍ عن ذِكْرِه « انتهى. ف » وليسَتْ معطوفةً على آياتِ الأولى لِما فيه من العطفِ على عامِلَيْن « وَهَمٌ؛ أين معمولُ العاملِ الآخر؟ وكأنه توهَّمَ أنَّ » في « ساقطةٌ مِنْ » وفي خَلْقِكم « اختلطَتْ عليه آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بهذه؛ لأنَّ تَيْكَ فيها ما يُوْهِمُ العطفَ على عامِلَيْن وقد ذكره هو أيضاً. وأمَّا الرفعُ فمِنْ وجهَيْن أيضاً ، أحدهما : أَنْ يكونَ » في خَلْقِكم « خبراً مقدَّماً ، و » آياتٌ « مبتدأً مؤخراً ، وهي جملةٌ معطوفةٌ على جملة مؤكدةٍ . ب » إنَّ « . و الثاني : أَنْ تكون معطوفةً على » آيات « الأولى باعتبار المحلِّ عند مَنْ يُجيزُ ذلك ، لا سيما عند مَنْ يقولُ : إنه يجوز ذلك بعد الخبرِ بإجماعٍ. وأمَّا واختلاف الليل والنهار الآية فقد عَرَفْتَ أنَّ الأخَوَيْن يقرآن » آيات « بالكسرِ ، وهي تحتاج إلى إيضاحٍ ، فإن الناسَ قد تكلَّموا فيها كلاماً كثيراً ، وخرَّجوها على أوجهٍ مختلفةٍ ، وبها استدلَّ على جوازِ العطفِ على عاملين. قلت : والعطفُ على عامِلَيْن لا يختصُّ بقراءةِ الأخوَيْن بل يجوز أَنْ يُسْتَدَلَّ عليه أيضاً بقراءة الباقين ، كما ستقف عليه إن شاء اللّه تعالى . فأما قراءةُ الأخوين ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ « اختلافِ الليلِ » مجروراً ب « في » مضمرةً ، وإنما حُذِفَتْ لتقدُّم ذكرِها مَرَّتَيْنِ ، وحرفُ الجرِّ إذا دَلَّ عليه دليلٌ/ جاز حَذْفُه وإبقاءُ عملِه . وأنشَدَ سيبويه : ٤٠٢٣ الآن قَرَّبْتَ تَهْجُونا وتَشْتِمُنا . . . فاذهَبْ فما بك والأيامِ من عَجَبِ تقديرُه : وبالأيام لتقدُّم الباءِ في « بك » ولا يجوزُ عَطْفُه على الكاف لأنه ليس مِنْ مذهبه - كما عَرَفْتَ - العطفُ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ ، فالتقديرُ في هذه الآيةِ : « وفي اختلافِ آيات » ف « آيات » على ما تقدَّم من الوجهين في « آيات » قبلَها : العطفِ التأكيدِ . قالوا : ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عبد اللّه « وفي اختلافِ » تصريحاً ب « في » . فهذان وجهان. الثالث : أَنْ يُعْطَفَ « اختلافِ » على المجرورِ ب « في » وآياتٍ على المنصوبِ ب « إنَّ » . وهذا هو العطفُ على عاملَيْنِ ، وتحقيقُه على معمولَيْ عاملين : وذلك أنَّك عَطَفْتَ « اختلاف » على خَلْق وهو مجرورٌ ب « في » فهو معمولُ عاملٍ ، وعَطَفْتَ « آياتٍ » على اسمِ « إنَّ » وهو معمولُ عاملٍ آخرَ ، فقد عَطَفْتَ بحرفٍ واحدٍ وهو الواوُ معمولين وهما « اختلاف » و « آيات » على معمولَيْن قبلَهما وهما : خَلْق وآيات . وبظاهرِها استدلَّ مَنْ جَوَّز ذلك كالأخفشِ . وفي المسألة أربعةُ مذاهب : المَنْعُ مطلقاً ، وهو مذهبُ سيبويه وجمهورِ البصريين . قالوا : لأنه يُؤَدِّي إلى إقامة حرفِ العطفِ مقامَ عاملين وهو لا يجوزُ؛ لأنه لو جاز في عامِلَيْن لجازَ في ثلاثةٍ ، ولا قائل به ، ولأنَّ حرفَ العطفِ ضعيفٌ فلا يَقْوَى أَنْ ينوبَ عن عاملَيْنِ ولأنَّ القائلَ بجوازِ ذلك يَسْتَضْعِفُه ، والأحسنُ عنده أن لا يجوزَ ، فلا ينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللّه ، ولأنه بمنزلةِ التعديتَيْنِ بمُعَدٍّ واحد ، وهو غيرُ جائزٍ. قال ابن السراج : « العطفُ على عاملَيْن خطأٌ في القياسِ ، غيرُ مَسْموع من العرب » ثم حَمَل ما في هذه الآيةِ على التكرارِ للتأكيد . قال الرمَّاني : « هو كقولِك : » إنَّ في الدارِ زيداً والبيتِ زيداً « فهذا جائزٌ بإجماعٍ فتدبَّرْ هذا الوجهَ الذي ذكره ابنُ السراجِ فإنه حسنٌ جداً ، لا يجوزُ أَنْ يُحْمَلَ كتابُ اللّه إلاَّ عليه . وقد بَيَّنْتُ القراءةَ بالكسرِ ولا عيبَ فيها في القرآن على وجهٍ ، والعطفُ على عاملَيْن عيبٌ عند مَنْ أجازه ومَنْ لم يُجِزْه ، فقد تناهى في العيب ، فلا يجوزُ حَمْلُ هذه الآيةِ إلاَّ على ما ذكره ابنُ السَّراج دون ما ذهبَ إليه غيرُه ». قلت : وهذا الحَصْرُ منه غيرُ مُسَلَّمٍ فإنَّ في الآيةِ تخريجاتٍ أُخَرَ غيرَ ما ذكره ابن السراج يجوزُ الحَمْلُ عليها . وقال الزجاج : « ومثلُه في الشعر : ٤٠٢٤ أكلَّ امرِئٍ تَحْسَبين امْرَأً . . . ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا وأنشد الفارسيُّ للفرزدق : ٤٠٢٥ وباشَرَ راعيها الصَّلا بلَبانِه . . . وجَنْبَيْه حَرَّ النارِ ما يتحرَّق وقول الآخر : ٤٠٢٦ أَوْصَيْتُ مِنْ رُبْدَةَ قَلْباً حُرَّاً . . . بالكلبِ خيراً والحَماةِ شَرا قلت : أمَّا البيتُ الأولُ فظاهرُه أنه عَطَفَ و » نارٍ « على » امرئ « المخفوض ب » كل « و » ناراً « الثانية على » امرَأ « الثاني . والتقدير : وتحسبين كلَّ نارٍ ناراً ، فقد عطف على معمولَيْ عاملَيْن . والبيتُ الثاني عَطَفَ فيه » جَنْبَيْه « على » بلبانه « وعَطَفَ » حَرَّ النارِ « على » الصلا « ، والتقدير : وباشر بجَنْبَيْه حرَّ النار ، والبيتُ الثالث عَطَفَ فيه » الحَماة « على » الكلب « و » شَرًّا « على » خيراً « ، تقديرُه وأَوْصَيْتُ بالحَماة شراً . وسيبويه في جميع ذلك يرى الجرَّ بخافضٍ مقدرٍ لكنه عُورض : بأنَّ إعمال حرفِ الجرِّ مضمراً ضعيفٌ جداً ، ألا ترى أنَّه لا يجوزُ » مررتُ زيدٍ « بخفضِ » زيد « إلاَّ في ضرورةٍ ك ٤٠٢٧ إذا قيلَ أيُّ الناسِ شرُّ قبيلةٍ . . . أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ يريد : إلى كليب ، وقولِ الآخر : ٤٠٢٨- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . حتى تَبَذَّخَ فارتقى الأعلامِ أي إلى الأعلام ، فقد فَرَّ مِنْ شيءٍ فوقَع في أضعفَ منه . وأُجيب عن ذلك : بأنه لَمَّا تَقَدَّم ذِكْرُ الحرف في اللفظِ قَوِيَتِ الدلالةُ عليه ، فكأنَّه ملفوظٌ به بخلافِ ما أَوْرَدْتموه في المثالِ والشعر. والمذهب الثاني : التفصيلُ - وهو مذهب الأخفش - وذلك أنَّه يجوز بشرطَيْنِ ، أحدُهما : أَنْ يكونَ أحدُ العاملَيْن جارًّا . و الثاني : أن يتصلَ المعطوفُ بالعاطفِ يُفْصَلَ بلا ، مثالُ الأولِ الآيةُ الكريمةُ والأبياتُ التي قَدَّمْتُها . ولذلك استصوب المبردُ استشهادَه بالآيةِ . ومثالُ الفَصْل ب لا قولك : » ما في الدارِ زيدٌ ولا الحجرةِ عمروٌ « ، فلو فُقِدَ الشرطانِ نحو : إنَّ/ زيداً شَتَمَ بِشْراً ، وواللّه خالداً هنداً ، فُقِدَ أحدُهما نحو : إنَّ زيداً ضربَ بَكْراً ، وخالداً بشراً . فقد نَقَلَ ابنُ مالكٍ الامتناعَ عند الجميعِ . وفيه نظرٌ لِما سَتَعْرِفُه من الخلافِ. الثالث : أنَّه يجوزُ بشرطِ أَنْ يكونَ أحدُ العامِلَيْنِ جارَّاً ، وأَنْ يكونَ متقدماً ، نحوَ الآيةِ الكريمةِ ، فلو لم يتقدَّمْ نحوَ : » إنَّ زيداً في الدار ، وعمراً السوقِ « لم يَجُزْ ، وكذا لو لم يكنْ حرفَ جرٍّ كما تقدَّمَ تمثيلُه. الرابع : الجوازُ ، ويُعْزَى للفَرَّاء. الوجهُ الرابعِ من أوجهِ تخريجِ القراءةِ المذكورة : أَنْ تنتصِبَ » آيات « على الاختصاصِ. قاله الزمخشريُّ ، وسيأتي فيما أَحْكيه عنه. وأمَّا قراءةُ الرفعِ ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يكونَ الأولُ والثاني ما تقدَّم في آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ . الثالث : أَنْ تكونَ تأكيداً لآيات التي قبلها ، كما كانَتْ كذلك في قراءةِ النصبِ . الرابع : أَنْ تكونَ المسألةُ من بابِ العطفِ على عامِلَيْن؛ وذلك أنَّ « اختلافِ » عطفٌ على « خَلْقِكم » وهو معمولٌ ل « في » و « آيات » معطوفةٌ على « آيات » قبلَها ، وهي معمولةٌ للابتداءِ فقد عَطَفَ على معمولَيْ عامِلَيْنِ في هذه القراءةِ أيضاً . قال الزمخشري : « قُرِئَ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ بالرفع والنصبِ على قولِك : » إنَّ زيداً في الدار وعمراً في السوقِ ، وعمروٌ في السوق « . وأمَّا آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فمن العطفِ على عامِلَيْنِ سواءً نَصَبْتَ أم رَفَعْتَ فالعاملان في النصبِ هما : » إنَّ « ، و » في « أُقيمت الواوُ مُقامَهما فعَمِلَتْ الجرَّ في و واختلاف اليل والنهار والنصبَ في » آياتٍ « . وإذا رَفَعْتَ فالعاملانِ : الابتداءُ ، و » في « عملت الرفع في » آيات « والجرَّ في » اختلاف « » . ثم قال في توجيهِ النصبِ : « والثاني أَنْ ينتصِبَ على الاختصاصِ بعد انقضاءِ المجرور ». الوجهُ الخامسُ أَنْ يرتفعَ « آياتٌ » على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي آياتٌ . وناقَشَه الشيخُ فقال : « ونسبةُ الجرِّ والرفعِ ، والجرِّ والنصبِ للواوِ ليس بصحيحٍ؛ لأنَّ الصحيحَ من المذاهبِ أنَّ حرفَ العطفِ لا يعملُ » قلت : وقد ناقشه الشيخُ شهابُ الدين أبو شامةَ أيضاً فقال : « فمنهم مَنْ يقولُ : هو على هذه القراءةِ أيضاً - يعني قراءةَ الرفعِ - عطفٌ على عاملَيْنِ وهما حرفُ » في « ، والابتداءُ المقتضي للرفعِ . ومنهم مَنْ لا يُطْلِقُ هذه العبارةَ في هذه القراءةِ؛ لأنَّ الابتداءَ ليس بعاملٍ لفظي ». وقُرئ « واختلافُ » بالرفعِ « آيةٌ » بالرفعِ والتوحيدِ على الابتداء والخبر ، وكذلك قُرئ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٌ آيةٌ بالتوحيد . وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى « وتصريف الريح » كذا قال الشيخ . قلت وقد قرأ بهذه القراءةِ حمزةُ والكسائيُّ أيضاً ، وقد تقدَّم ذلك في سورةِ البقرةِ . اهـ (الدُّرُّ المصُون). (هذا) إشارة إلى القرآن ، هذا القرآن بصائر للناس. * * * |
﴿ ٢٠ ﴾