٢٣

و (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللّه عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّه أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٣)

وقد رويت آلِهَةً هَوَاهُ ، ولها وجه في التفسير وروي أن قريشاً كانت تعبد

العُزى وهي حجر أبيض فإذا رأت حجراً أشد بياضاً منه وأحسن اتخذت ذلك

الأحسن واطَّرَحت الأولَ ، فهذا يدل على آلهته ، وكذلك أيضاً إلهه.

وقوله (وَأَضَلَّهُ اللّه عَلَى عِلْمٍ).

أي على ما سبق في علمه قبل أن يخلقه أنه ضال.

__________

(١) قال السَّمين :

  أَمْ حَسِبَ  : « أم » منقطعةٌ ، فَتُقَدَّر ب بل والهمزةِ ،  ب بل وحدها ،  بالهمزة وحدَها . وتقدم تحقيق هذا.

  كالذين آمَنُواْ  : هو المفعولُ الثاني للجَعْل أي : أَنْ نجعلَهم كائنين كالذين آمنوا أي : لا يَحْسَبُوْن ذلك ، وقد تَقَدَّمَ في سورة الحج : أنَّ الأخَوَيْن وحفصاً قرؤُوا هنا « سواءً » بالنصب ، والباقون بالرفع ، ووَعَدْتُ بالكلام عليه هنا ، فأقول وباللّه التوفيق : أمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ تَنْتَصِبَ على الحالِ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ والمجرورِ وهما : « كالذين آمنوا » ، ويكونُ المفعولُ الثاني للجَعْل « كالذين آمنوا » أي : أحَسِبوا أَنْ نَجْعَلَهم مثلَهم في حالِ استواءِ مَحْياهم ومماتِهم ليس الأمرُ كذلك .

الثاني : أَنْ يكونَ « سواءً » هو المفعولَ الثاني للجَعْل ، و « كالذين » في محلِّ نصبٍ على الحال أي : لن نجعلَهم حالَ كونِهم مثلَهم سواءً ، وليس معناه بذاك . الثالث : أَنْ يكونَ « سواءً » مفعولاً ثانياً ل « حَسِب ».

وهذا الوجهُ نحا إليه أبو البقاء ، وأظنُّه غَلَطاً لِما سَيَظْهَرُ لك فإنَّه قال : « ويُقْرأ بالنصب . وفيه وجهان ، أحدهما : هو حالٌ من الضميرِ في الكافِ أي : نجعلَهم مثلَ المؤمنين في هذه الحالِ . و

الثاني : أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً ل » حَسِب « والكافُ حالٌ ، وقد دَخَلَ استواءُ مَحْياهم وممَاتُهم في الحُسْبان ، وعلى هذا الوجهِ مَحْياهم ومماتُهم مرفوعان ب » سَواء «؛ لأنَّه قد قَوِيَ باعتمادِه » انتهى . فقد صَرَّح بأنه مفعولٌ ثانٍ للحُسْبان . وهذا لا يَصِحُّ ألبتَّةََ؛ لأنَّ « حَسِبَ » وأخواتِها إذا وَقَعَ بعدها « أنَّ » المشددةُ  « أَنْ » المخففةُ  الناصبةُ سَدَّتْ مَسَدَّ المفعولين ، وهنا قد وَقع بعد الحُسْبان « أنْ » الناصبةُ فهي سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ ، فَمِنْ أين يكونُ « سواءً » مفعولاً ثانياً ل حَسِب؟

فإنْ قلتَ : هذا الذي قُلْتُه رأيُ الجمهورِ سيبويهِ وغيرِه ، وأمَّا غيرُهم كالأخفشِ فيدَّعي أنها تَسُدُّ مَسَدَّ واحدٍ . إذا تقرَّر هذا فقد يجوزُ أنَّ أبا البقاءِ ذَهَبَ هذا المذهبَ ، فأعرب « أَنْ نجعلَهم » مفعولاً أولَ و « سواءً » مفعولاً ثانياً . فالجواب : أنَّ الأخفشَ صَرَّحَ بأنَّ المفعولَ الثاني حينئذٍ يكونُ محذوفاً . ولَئِنْ سَلَّمْنا أنَّه لا يُحْذَفُ امتنع مِنْ وجهٍ آخرَ : وهو أنه قد رفع به « محياهُم ومماتُهم » لأنه بمعنى مُسْتَوٍ كما تقدَّم ، ولا ضميرَ يَرْجِعُ مِنْ مرفوعِه إلى المفعولِ الأولِ ، بل رَفَعَ أجنبياً من المفعولِ الأولِ . وهو نظيرُ : « حَسِبْتُ قيامَك مُسْتوياً ذهابُك وعَدَمُه ».

ومَنْ قرأ بالرفع فتحتمل قراءتُه وجهَيْن ، أحدهما : أَنْ يكونَ « سواءٌ » خبراً مقدماً . و « مَحْياهم » مبتدأً مؤخراً/ ويكون « سواء » مبتدأً و « مَحْياهم » خبرَه.

كذا أعربوه . وفيه نظرٌ تقدَّم في سورة الحج وهو : أنَّه نكرةٌ لا مُسَوِّغ فيها ، وأنه متى اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جَعَلْتَ النكرةَ خبراً لا مبتدأً . ثم في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها استئنافية . و

الثاني : أنها بدلٌ من الكافِ الواقعةِ مفعولاً ثانياً . قال الزمخشري : « لأنَّ الجملةَ تقع مفعولاً ثانياً فكانَتْ في حكمِ المفردِ . ألا تراكَ لو قُلْتَ : أن نجعلَهم سواءٌ مَحْياهم ومماتُهم ، كان سديداً ، كما تقول : ظننتُ زيداً أبوه منطلقٌ » . قال الشيخ : « وهذا - أَعْني إبدالَ الجملة من المفرد - أجازه ابنُ جني وابنُ مالك ، ومنعَه ابنُ العِلْجِ » ، ثم ذكر عنه كلاماً كثيراً في تقرير ذلك ثم قال : « والذي يَظْهَرُ أنه لا يجوزُ » ، يعني ما جَوَّزه الزمخشريُّ قال : « لأنَّها بمعنى التصييرِ ولا يجوزُ : » صَيَّرْتُ زيداً أبوه قائمٌ « لأنَّ التصييرَ انتقالٌ من ذاتٍ إلى ذاتٍ ،  من وصفٍ في الذاتِ إلى وصفٍ فيها . وتلك الجملةُ الواقعةُ بعد مفعولِ » صَيَّرْت « المقدرةُ مفعولاً ثانياً ليس فيها انتقالٌ مما ذكرْنا فلا يجوز » . قلت : ولِقائلٍ أَنْ يقولَ : بل فيها انتقالٌ مِنْ وصفٍ في الذاتِ إلى وصفٍ فيها؛ لأنَّ النحاة نَصُّوا على جوازِ وقوع الجملةِ صفةً وحالاً نحو : مررتُ برجلٍ أبوه قائمٌ ، وجاء زيدٌ أبوه قائم . فالذي حكموا عليه بالوصفيَّةِ والحاليةِ يجوزُ أَنْ يقعَ في حَيِّز التَّصْيير؛ إذ لا فَرْقَ بين صفةٍ وصفةٍ من هذه الحيثيَّة.

الثالث : أن تكونَ الجملةُ حالاً ، التقدير : أم حَسِبَ الكفار أَنْ نُصَيِّرهم مثلَ المؤمنين في حالِ استواءِ محياهم ومماتِهم ، ليسوا كذلك بل هم مُفْترقون . وهذا هو الظاهر عند الشيخِ . وعلى الوجهين الأخيرين تكونُ الجملةُ داخلةً في حَيِّز الحُسْبانِ . وإلى ذلك نحا ابن عطية فإنه قال : « يَقْتضي هذا الكلامُ أنَّ لفظَ الآية خبرٌ ، ويظهر أنَّ   سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ  داخلٌ في المَحْسَبَةِ المُنْكَرَةِ السيئةِ ، وهذا احتمالٌ حسن والأولُ جيدٌ » انتهى . ولم يبين كيفيةَ دخولِه في الحُسْبانِ ، وكيفيَّةُ أحدِ الوجهين الأخيرَيْن : إما البدلِ وإمَّا الحاليةِ كما عَرَفْتَه.

وقرأ الأعمشُ « سواءً » نصباً « مَحْياهم ومَماتَهم » بالنصب أيضاً . فأمَّا « سواءً » فمفعولٌ ثانٍ  حالٌ كما تقدَّم . وأمَّا نصب « مَحْياهم ومماتَهم » ففيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونا ظَرْفَيْ زمانٍ ، وانتصبا على البدلِ مِنْ مفعولِ « نَجْعَلَهم » بدلِ اشتمال ، ويكون « سواءً » على هذا هو المفعولَ الثاني . والتقدير : أن نجعلَ محياهم ومماتَهم سواءً . و

الثاني : أَنْ ينتصِبا على الظرفِ الزمانيِّ . والعاملُ : إمَّا الجَعْلُ  سواء . والتقدير : أَنْ نجعلَهم في هذَيْن الوقتَيْن سواءً ،  نجعلَهم مُسْتَوِين في هذين الوقتين.

قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه : « ومَنْ قرأ بالنصبِ جَعَلَ » مَحْياهم ومماتَهم « ظَرْفَيْنِ كمَقْدَمِ الحاجِّ وخُفوقِ النجم ».

قال الشيخ : « وتمثيلُه بخُفوق النجم ليس بجيدٍ؛ لأنَّ » خُفوقَ « مصدرٌ ليس على مَفْعَل فهو في الحقيقةِ على حَذْفِ مضافٍ أي : وقتَ خُفوقِ بخلاف مَحْيا ومَمات ومَقْدَم فإنها موضوعةٌ على الاشتراك بين ثلاثةِ معانٍ : المصدريةِ والزمانيةِ والمكانيةِ . فإذا اسْتُعْملت مصدراً كان ذلك بطريق الوَضْعِ لا على حَذْفِ مضافٍ كخُفوق؛ فإنه لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ لكونِه موضوعاً للمصدرية » . وهذا أمرٌ قريبٌ لأنَّه إنما أراد أنه وَقَع هذا اللفظُ مُراداً به الزمانُ . أمَّا كونُه بطريق الأصالةِ  الفرعيةِ فلا يَضُرُّ ذلك.

والضميرُ في « مَحْياهم ومماتُهم » يجوزُ أَنْ يعودَ على القَبِيْلَيْنِ بمعنى : أنَّ مَحْيا المؤمنين ومماتَهم سواءٌ عند اللّه في الكرامةِ ، ومَحْيا المجترحين ومماتَهم سواءٌ في الإِهانةِ عنده ، فَلَفَّ الكلام اتِّكالاً على ذِهْنِ السَّامع وفهمِه . ويجوزُ أَنْ يعودَ على المُجْترحين فقط . أَخْبَرَ أَنَّ حالَهم في الزمانَيْن سواءٌ.

قال أبو البقاء : « ويُقْرَأُ » مَماتَهم « بالنصب أي : في مَحْياهم ومماتَهم . والعاملُ » نَجْعل «  سواء . وقيل : هو ظرفٌ » . قلت :  « وقيل » هو القولُ الأولُ بعينِه . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً).

ويقرأ غَشوة بفتح الغيْن بغير ألف ، ويقرأ غُشَاوَةَ - بضم الغين والألف (١).

* * *

﴿ ٢٣