مجاز القرآن لأبي عبيدة

 معمر بن المثنى التيمي النحوي أديب

 و عالم باللغة ، من أهل البصرة

(ت ٢٠٩ هـ ٨٢٤ م)

_________________________________

كتاب يبحث في نوع من أنواع البلاغة وهو المجاز ، وهو في هذا الكتاب يثبت المجاز خاصة في القرآن الكريم وقد جعله المصنف على حسب ترتيب سور القرآن الكريم

بِسمِ اللّه الرَّحَمنِ الرَّحِيمِ

حدثنا أبو الحسين محمد بن هارون الزّنجانيّ الثَقَفي،

قال: أخبرنا أبو الحسن على بن عبد العزيز،

قال: حدثنا علي بن المُغيرة الأثْرَم، عن أبي عُبيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى التَّيْميّ،

قال: القرآن: اسم كتاب اللّه خاصْة، ولا يُسمّى به شيء من سائر الكتب غيره، وإنما سُمّى قرآناً لأنه يجمع السور فيضمها، وتفسير ذلك في آية من القرآن؛ قال اللّه جلّ ثناؤه: {إنّ علينا جَمه وقُرْأنَه}. مجازه: تأليف بعضه إلى بعض؛ ثم

قال: {فإذا قَرَأناه فاتَّبِعْ قُرآنه} مجازه: فإذا ألَّفنا منه شيئاً، فضممناه إليك فخذ به، واعمل به وضمّه إليك؛

وقال عمَرو ابن كُلْثُوم في هذا المعنى:

ذِراعَىْ حُرَّةٍ أدماءَ بَكْـرٍ

 هِجانِ اللَّوْن لم تَقرَأ جَنينا

أي لم تضمّ في رحمها ولداً قط، ويقال للتى لم تحمل قط: ما قرأت سَلىً قط. وفي آية أخرى: {فإِذا قرأتَ القُرْآنَ} مجازه: إذا تلوت بعضه في إثر بعض، حتى يجتمع وينضمّ إلى بعض؛ ومعناه يصير إلى معنى التأليف والجمع. وإنما سُمّى القرآن فُرقاناً لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين المسلم والكافر، وخرج تقديره على تقدير: رجل قُنْعان، والمعنى أنه يَرضَى الخصمان والمختلفان في الأمر بحكمه بينهما ويقنعان به.

والسورة من القرآن يهمزها بعضهم، وبعضهم لا يهمزها، وإنما سُمّيت سورة في لغة من لا يهمزها، لأنه يجعل مجازها مجازَ منزلة إلى منزلة أخرى، كمجاز سورة البناء، قال النابغة الذبياني:

ألم تر أن اللّه أعطاك سورة

ترى كل مَلْكٍ دونها يتذبذبُ

أي منزلة شرف ارتفعتَ إليها عن منازل الملوك، غير أن جمع سورة القرآن خالف جمع سورة البناء في لغة من همز سورة القرآن، وفي لغة من لم يهمزها؛ قالوا جميعاً في جمع سورة القرآن {سُوَر} الواو مفتوحة كما

قال: لا يقرأنَ بالسُوَرِ فخرج جمعها مخرج جمع ظُلمة والجميع ظُلمَ ونحو ذلك،

وقالوا جميعاً في جمع سورة البناء سُور الواو ساكنة، فخرج جمعها مخرج جمع بُسْرة والجميع بُسْر قال العجّاج:

فرُبَّ ذي سُرادقٍ محجـورِ

 سِرتُ إليه في أعالي السُوْرِ

الواو ساكنة، السُرادق: الفُسطاط وهو البَلق؛ ومجاز سورة في لغة من همزها: مجاز قطعة من القرآن على حِدة وفضلة منه لأنه يجعلها من قولهم: أسأرتُ سؤراً منه، أي أبقيت وأفضلت منه فضلةً.

والآية من القرآن: إنما سّميت آية لأنها كلام متصل إلى انقطاعه، وانقطاع معناه قصة ثم قصة.

ولسور القرآن أسماء: فمن ذلك أن {الحمد اللّه} تسمّى {أم الكتاب}، لأنه يبدأ بها في أول القرآن وتعاد قراءتها فيُقرأ بها في كل ركعة قبل السورة؛ ولها اسم آخر يقال لها: فاتحة الكتاب لأنه يُفتتح بها في المصاحف فتُكتب قبل القرآن، ويُفتتح بقراءتها في كل ركعة قبل قراءة ما يُقرأ به من السور في كل ركعة.

ومن ذلك اسم جامعِ لما بلغ عددهن مائة آية أو فُوَيق ذلك أو دُوَينه فهو المئون، وقد فرغنا من ذلك في الرجز الذي بعد هذا. ومن ذلك اسم جامع للآيات وهو: المثاني، وقد فرغنا من ذلك في الرجز الذي بعد هذا. ومن ذلك اسم لقوله: {قل يا أيها الكافرون} {١٠٩}، ولقوله: {قل هو اللّه أحد} {١١٢} يقال لهما: {المقشقِشتان}، ومعناه المبرِّئتان من الكفر والشكّ والنفاق كما يُقشقِش الهِناء الجَرِبَ فيبرئه. ومن ذلك اسم جامع لسبع سور من أول القرآن، يقال للبقرة {٢}، وآل عمران {٢}، والنساء {٤}، والمائدة {٥}، والأنعام {٦}، والأعراف {٧}، والأنفال {٨}: {السبع الطُوَل}، قال سليمان:

نَشدتُكم بمُنْزِل الـفُـرقـانِ

أم الكتاب السبع من مَثاني

تُنّين من أي من الـقـرآنِ

 والسبع سبعِ الطُوَل الدَّواني 

وقال في جمع أسمائها:

حَلفتُ بالسبع اللواتى طُوّلتْ

 وبمِئين بعدها قـد امْـئيتْ

وبمثَانٍ ثُنّـيت فـكُـرّرت

 وبالطواسيم التي قد ثُلِّثـت

وبالحواميم اللواتي سُبّعـت

 وبالمفصّل اللواتي فُصّلت 

وقال الشاعر فيما يدل على أن الحمد هي السبع المثاني:

الحمد للّه الذي أعفـانـي

 وكلَّ خير صالح أعطاني

رب المثاني الآى والقرآنِ

بِسمِ اللّه الرَّحَمنِ الرَّحِيمِ

قالوا: إنما أُنزل القرآن بلسان عربي مبين، وتِصداق ذلك في آية من القرآن، وفي آية أخرى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاَّ بِلِسَان قَوْمِه} {١٤٤}، فلم يحتج السلف ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يسألوا عن معانيه لأنهم كانوا عرب الألسُن، فاستغنوا بعلمهم به عن المسألة عن معانيه، وعما فيه مما في كلام العرب مثله من الوجوه والتلخيص. وفي القرآن مثل ما في الكلام العربي من وجوه الإعراب، ومن الغريب، والمعاني.

ومن المحتمل من مجاز ما اختصر وفيه مضمر،

قال: {وَانْطَلَقَ الَمَلأُ مِنْهُمْ أَن أمشُوا وَاصْبِروا} {٣٨٦}، فهذا مختصر فيه ضمير مجازه: {وانْطَلَقَ المَلأُ منهم}، ثم اختصر إلى فعلهم وأضمر فيه: وتواصوا أن أمشوا أو تنادوا أن أمشوا أو نحو ذلك. وفي آية أخرى: {مَاذَا أَرَادَ اللّه بهَذا مَثَلاً} {٢٢٦}، فهذا من قول الكفار، ثم اختصر إلى قول اللّه، وأضمر فيه قل يا محمد: {يُضِلُّ بِه كَثِيراً} {٢٢٦}، فهذا من كلام اللّه.

ومن مجاز ما حُذف وفيه مضمَر،

قال: {وسَلِ الْقَرْيَةَ التي كُنَّا فيهَا والعيرَ التي أَقبَلْنا فيها} {١٢٨٢}، فهذا محذوف فيه ضمير مجازه: وسل أهل القرية، ومَن في العير.

ومن مجاز ما كُفّ عن خبره استغناءً عنه وفيه ضميرٌ

قال: {حَتَّى إذَا جَاؤُهَا وفُتِحَت أَبْوابها

وَقَال لَهُم خَزَنَتُها سَلاَمٌ علَيْكُم طِبْتُم فَادْخُلُوهَا خَالدِين} {٣٩٧٣}، ثم كُفّ عن خبره.

ومن مجاز ما جاء لفظه لفظ الواحد الذي له جماع منه ووقع معنى هذا الواحد على الجميع،

قال: {يُخْرِجُكُم طِفْلاً} {٢٢٥}، في موضع: {أطفالا}.

وقال: {إنما المُؤْمِنُون إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم} {٤٩١٠} فهذا وقع معناه على قوله: {وإِن طَائفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقتَتَلُوا} {٤٩٩}،

وقال: {وَالمَلَك عَلَى أَرْجَاَئها} {٦٩٧}، في موضع: {والملائكة}.

ومن مجاز ما جاء من لفظ خبر الجميع على لفظ الواحد،

قال: {وَالمَلاَئكَةُ بَعدَ ذِلكَ ظَهِيرٌ} {٦٦٤}، في موضع: ظُهَراءُ.

ومن مجاز ما جاء لفظه الجميع الذي له واحد منه، ووقع معنى هذا الجميع على الواحد،

قال: {الذينَ قَالَ لَهُم النَّاسُ إن النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكمُ} {٣١٧٣}، والناس جميع، وكان الذي قال رجلا واحداً. {أَنا رَسُولُ رَبِّك} {١٩١٩}،

وقال: {إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاءُ بقَدَر} {٥٤٤٩}، والخالق اللّه وحده لا شريك له.

ومن مجاز ما جاء لفظه الجميع الذي له واحد منه ووقع معنى هذا الجميع على الاثنين:

قال: {فَإن كَانَ لَهُ إخْوَةٌ} {٤١٠} فالإخوة جميع ووقع معناه على أخوين،

وقال: {إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بينَ أَخَوَيْكمُ} {٤٩١٠}،

وقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} {٥٤١}، في موضع يديهما.

ومن مجاز ما جاء لاجماع له من لفظه فلفظُ الواحد منه ولفظ الجميع سواء،

قال: {حَتَّى إذَا كُنْتُم فِي الْفُلْكِ} {١٠٢٢}، الفلك جميع وواحد،

وقال: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} {٢١٨٢}، جميع وواحد،

وقال: {فَمَا مِنْكمُ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} {٦٩٤٧} جميع وواحد.

ومن مجاز ما جاء من لفظ خبر الجميع المشرك بالواحد الفرد على لفظ خبر الواحد، قال اللّه: {أَن السَّمَواتِ والأَرضَ كاَنَتا رَتقْاً فَفتَقْنَاهُمَا} {٢١٣٠} جاء فعل السموات على تقدير لفظ الواحد لما أُشركن بالأرض.

ومن مجاز ما جاء من لفظ الإثنين، ثم جاء لفظ خبرهما على لفظ خبر الجميع،

قال: {ائْتِيَا طَوْعاً أو كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعين} {٤١١١}.

ومن مجاز ما خُتر عن اثنين مشركين أو عن أكثر من ذلك فجعل لفظ الخبر لبعض دون بعض وكُفّ عن خبر الباقي،

قال: {وَالذينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقْونَهَا فِي سَبِيلِ اللّه} {٩٣٥}

ومن مجاز ما جُعل في هذا الباب الخبرُ للأول منهما أو منهم

قال: {وَإذا رَأوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إليْها} {٦٢١١}.

منهما أو منهم،

قال: {ومَنْ يَكْسِبَ خَطِيئة أَوْ إثْماً ثُمَّ يَرمِ به بَرِيئاً} {٤١١١}.

ومن مجاز ما جاء من لفظ خبر الحيوان والموات على لفظ خبر الناس

قال: {رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشَّمْسَ والقَمَرَ رَأَيْتَهُمْ لي سَاجِدِين} {١٢٤}،

وقال: {قَالتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} {٤١١١}،

وقال للأصنام: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ} {٢١٦٥}،

وقال: {يا أَيُّهَا النَّملُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وجُنُودُه} {٢٧١٨}،

وقال: {إنَّ السَّمعَ والبَصَرَ والفُؤَادَ كُلُّ أُولئكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} {٣٦١٧}.

ومن مجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الغائب ومعناها للشاهد،

قال: {آلم ذَلِكَ الكِتَابُ} {٢١}، مجازه: آلم هذا القرآن.

ومن مجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الشاهد، ثم تُركت وحُوّلت مخاطبته هذه إلى مخاطبة الغائب، قال اللّه: {حَتَّى إذا كُنتمُ في الفُلْك وَجَرَيْنَ بِهِمْ} {١٠٢٢}، أي بكم.

ومن مجاز ما جاء خبره عن غائب ثم خوطب الشاهد،

قال: {ثُمَّ ذهَبَ إلَى أهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَي لَكَ فَأَوْلَى} {٧٥٢٣،٢٤}.

ومن مجاز ما يزاد في الكلام من حروف الزوائد، قال اللّه: {إنَّ اللّه لاَ يَسْتَحْيِى أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} {٢٢٦}،

وقال: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنهُ حَاجزين} ٦٩ ٤٧،

وقال: {وَشَجَرةً تَخرُجُ مِن طُورِ سِينَاءَ تنْبُتُ بالدُّهْنِ وصِبْغٍ للآكِلِين} {٢٣٢٠}،

وقال: {وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْملاَئِكَةِ} {٢٣٠}،

وقال: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} {٧١٧}، مجاز هذا أَجمع إلقاؤهن.

ومن مجاز المضمر فيه استغناءً عن إظهاره 

قال: {بِسْمِ اللّه} {٢٧٣٠}، ففيه ضمير مجازه: هذا بسم اللّه. أو بسم اللّه أول كل شيء ونحو ذلك.

ومن مجاز المكرر للتوكيد 

قال: {رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمْسَ والقَمَر رأيتُهْمِ لي سَاجِدِين} {١٢٤}، أعاد الرؤية. 

وقال: {أَوْلَى لَك فَأَوْلَى} {٧٤٣٤٣٥}، أعاد اللفظ.

وقال: {فَصِيَامُ ثَلاَثةِ أيَّامٍ في الْحَجِّ وسَبْعةٍ إذاً رَجعْتُم تِلْك عَشَرةٌ كَامِلَة} {٢١٩٦}.

وقال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} {١١١١}.

ومن مجاز المجمل استغناءً عن التكرير 

قال: {. . . .} {?}.

ومن مجاز المقدم والمؤخر 

قال: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الماءَ اهتَزَّتْ ورَبَت} {٢٢٥} أراد ربت واهتزت.

وقال: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} {٢٤٤٠} أي لم يرها ولم يكد.

ومن مجاز ما يحوّل خبره إلى شيء من سببه، وُيترَك خبره هو 

قال: {فَظَلَّتْ أَعْناقُهمْ لَها خَاضِعين} {٢٦٤} حُوّل الخبر إلى الكناية التي في آخر الأعناق.

ومن مجاز ما يُحوّل فعل الفاعل إلى المفعول أو إلى غير المفعول 

قال: {مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَة} {٢٨٧٦} والعُصبة هي التي تنوء بالمفاتح.

ومن مجاز ما وقع المعنى على المفعول وحُوِّل إلى الفاعل  

قال: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ} {٢١٧١}، والمعنى على الشاء المنعوق به وحُوِّل على الراعى الذي ينعِق بالشاء.

ومن مجاز المصدر الذي في موضع الاسم أو الصفة  

قال: {ولكِن البِرّ مَن آمَنَ بِاللّه} {٢١٨٩} خروج المعنى البارُّ.

وقال: { أَنَّ السَّمَواتِ واْلأَرضَ كانتَا رَتْقاً} {٢١٣٠}، والرتق مصدر وهو في موضع مرتوقتين،

وقال: {أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} {١٩١٩} أي رسالة ربك. 

ومجاز ما قرأته الأئمة بلغاتها فجاء لفظه على وجهين أو أكثر، من ذلك قرأ أهل المدينة {فَبِمَ تبَشِّرُونِ} {١٥٥٤} فأضافوا بغير نون المضاف بلغتهم،

وقال أبو عمرو: لا تُضاف تبشِّرون إلاَّ بنون الكناية كقولك تبشِّرونني.

ومن مجاز ما جاءت له معانٍ غير واحد، مختلفة فتأولته الأئمة بلغاتها فجاءت معانيه على وجهين أو أكثر من ذلك،

قال: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} {٢٨٢٥} ففسروه على ثلاثة أوجه؛ قال بعضهم: على قَصْدٍ،

وقال بعضهم: على مَنْع،

وقال آخرون: على غضبٍ وحِقْد.

قراآت الأئمة، فجاء تأويله شَتى؛ فقرأ بعضهم قوله: {إنْ جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} {٤٩٦}، وقرأها آخرون: {فَتَثَّبتُوا} وقرأ بعضهم قوله: {أَإذَا صَلَلْنَا فِي اْلأَرْضِ} {٣٢١٠}، وقرأها آخرون {أإذَا ضَلَلْنَا في الأرض}، صللنا: أنتنا من صلَّ اللحمُ يصل؛ وقرأ بعضهم: {وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة} {٢٢٤٥}، وقرأها آخرون: {بَعْدَ أَمْهٍ} أي نسيان. وقرأ بعضهم {في لَوْحٍ مَحْفُوظٌ} {٨٥٢٢} وقرأ آخرون {في لُوْحٍ محفوظٍ} أي الهواء.

ومن مجاز الأدوات اللواتي لهن معانٍ في مواضع شتى، فتجئ الأداة منهن في بعض تلك المواضع لبعض تلك المعاني،

قال: {أَنْ يضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} {٢٢٦} معناه فما دونها،

وقال: {وَاْلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} {٧٩٣٠} معناه مع ذلك،

وقال: {لأَصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} {٢٠٧١} معناه: على جذوع النّخل،

وقال: {إذا أكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} {٨٣٢} معناه: من الناس،

وقال: {هَذِهِ اْلأَنْهَارُ تَجْري مِن تَحْتِيَ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الذي هو مَهِينٌ} { ٤٣٥١،٥٢} معناه: بل أنا خير.

ومن مجاز ما جاء على لفظين فأعملت فيه الأداة في موضع، وتركت منه في موضع،

قال: {وَيْلٌ لِلْمْطَفِّفِيْنَ الذينَ إذَا أكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإذَا كَالُوهُم أَوْ وَزَنُوهُم يُخْسِرُونَ} {٨٣٣} معناه: وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم.

ومن مجاز ما جاء على ثلاثة ألفاظ فأعملت فيه أداتان في موضعين وترُكتا منه في موضع،

قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} {١٥}، وإلى الصراط وللصراط.

ومن مجاز ما جاء فيه على لفظين فأعلمت فيه أداة في موضع، وتركت منه في موضع،

قال: {وَإذَا قَرأْتَ الْقُرْآن} {١٦٩٨}

وقال: {اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ} {٩٦١}.

ومن مجاز ما فيه لغتان فجاء بإحداهما

قال: {وإنَّ لَكُمْ في اْلأَنْعَامِ لَعِبْرةً نَسْقِيكمُ مِمّا في بُطُونِهِ} {١٦٦٦}، فالأنعام يذكر ويؤنث،

وقال: {كذّبَت قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ} {٢٦١٠٥} يقال: هذه قومك، وجاء قومك.

ومن مجاز ما أظهر من لفظ المؤنث ثم جعل بدلا من المذكر فوصف بصفة المذكر بغير الهاء؛ كذلك،

قال: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِه} {٧٣١٨} جُعلت السماء بدلاً من السقف بمنزله تذكير سماء البيت.

ومن مجاز ما جاء من الكنايات في مواضع الأسماء بدلا منهن

قال: {إنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِر} {٢٠٦٩}. فمعنى {ما} معنى الاسم، مجازُه إنّ صَنيعَهم كَيدُ ساحرٍ.

ومن مجاز الاثنين المشتركين وهما من شَتَّى أو من غير شَتَّى، ثم خُبّر عن شيءٍ لا يكون إلا في أحدهما دون الآخرُ فجعل فيهما أو لهما لمّا أُشرك بينهما في الكلام،

قال: {مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتِقيَانِ} {٥٥١٩}، {يخْرُجُ مِنْهُمَا اللؤْلؤُ والمَرْجَان} {٥٥٢٢}، وإنما يخرج اللؤلؤ من البحر دون الفرات العذب.

ومن مجاز ما جاء من مذاهب وجوه الإعراب،

قال: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} {٢٤١} رفعٌ ونصب،

وقال: {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} {٥٤١} رفعٌ ونصبٌ،

وقال: {والزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مائَةَ جَلْدة} {٢٤٢} رفع ونصب.

ومجاز المحتمِل من وجوه الإعراب كما

قال: {إنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} {٢٠٦٣}. 

قال: وكل هذا جائز معروف قد يتكلمون به.

سورة الحمد

١

بِسمِ اللّه الرَّحَمنِ الرَّحِيمِ

{بسم اللّه} إنما هو باللّه لأن اسم الشيء هو الشيء بعينه، قال لبيد:

إلَى الَحوْلِ ثُمَّ اسمُ السَّلامِ عليكما

 ومن يَبْكِ حَولاً كاملاً فقدِ اعتَذَرْ

{إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} {٧٥:١٧}: أي تأليفه؛ {فإذَا قَرَأْنَاهُ} {٧٥:١٨} أي إذا جمعناه؛ ومجازه مجاز قول عَمْرو بن كُلْثوم:

هِجانِ اللَوْن لم تَقْرأ جَنينا

أي لم تضمَّ في رحمها، ويقال للتي لم تلد: ما قرأَتْ سَلًى قطّ.

نزل القرآن بلسان عربي مُبين، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أَعظم القول، ومن زعم أن {طه} {٢٠} بالنَّبطِيّة فقد أكبر، وإن لم يعلم ما هو، فهو افتتاح كلام وهو اسم للسورة وشعار لها. وقد يوافق اللفظُ اللفظَ ويقار به ومعناهما واحد وأحدهما بالعربية والآخر بالفارسية أو غيرها. فمن ذلك الإسْتبْرَق بالعربية، وهو الغليظ من الدِّيباج، والفِرِند، وهو بالفارسية إسْتَبْرَهْ؛ وكَوْز وهو بالعربية جوز؛ وأشباه هذا كثير. ومن زعم أن {حِجَارةً مِنْ سِجِّيلٍ} {١٠:٥٤} بالفارسية فقد أعظم، من

قال: إنه سَنْك وكِلْ إنما السجيل الشديد. 

والقرآن: اسم كتاب اللّه، لا يسمَّى به غيرهُ من الكتب، وذلك لأنه جَمَع وضمَّ السور؛ ومجازه من قوله: {إنَّ علَينا جَمْعَه وقُرْآنَه} {٧٥:١٨}، أي تأليف بعضه إلى بعض، {فإذا قَرَأْنَاهُ فاتَّبِعْ قُرْآنَه}؛ وسُمِّى الفرقانَ لأنه يفرق بين الحق والباطل والمؤمن والكافر.

ففي القرآن ما في الكلام العربيّ من الغريب والمعاني، ومن المحتمِل من مجاز ما اختُصِر، ومجاز ما حُذف، ومجاز ما كفَّ عن خبره، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الواحد ووقع على الجميع، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الجميع ووقع معناه على الاثنين، ومجاز ما جاء لفظه خبر الجميع على لفظ خبر الواحد، ومجاز ما جاء الجميع في موضع الواحد إذا أُشرك بينه وبين آخر مفرد، ومجاز ما خُبّر عن اثنين أو عن أكثر من ذلك، فجعل الخبر للواحد أو للجميع وكُفَّ عن خبر الآخر، ومجاز ما خُبّر عن اثنين أو أكثر من ذلك، فجعل الخبر للأول منهما، ومجاز ما خُبّر عن اثنين أو عن أكثر من ذلك، فجعل الخبر للأخر منهما، ومجاز ما جاء من لفظ خبر الحيوان والمَوَات على لفظ خبر الناس؛ والحيوانُ كل ما أكل من غير الناس وهي الدواب كلُّها، ومجاز ما جاءت مخاطبتهُ مخاطبة الغائب ومعناه مخاطبة الشاهد، ومجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الشاهد، ثم تُركت وحوّلت مخاطبته هذه إلى مخاطبة الغائب، ومجاز ما يزاد من حروف الزوائد ويقع مجازُ الكلام على إلقائهن، ومجاز المضمر استغناءً عن إظهاره، ومجاز المكرر للتوكيد، ومجاز المجمل استغناءً عن كثرة التكرير، ومجاز المقدَّم والمؤخَّر، ومجاز ما يحوّل من خبره إلى خبر غيره بعد أن يكون من سببه، فيجعل خبره للذي من سببه ويترك هو. وكل هذا جائز قد تكلموا به.

بِسمِ اللّه الرَّحَمنِ الرَّحِيمِ

أُمُّ الكتاب {١}

مجاز تفسير ما في سورة {الحمد} وهي {أم الكتاب} لأنه يبُدأ بكتابتها في المصاحف قبل سائر القرآن، ويبدأ بقراءتها قبل كلّ سورة في الصلاة؛ وإنما سُمِّيت سورةً لا تُهمز، لأن مجازها من سُور البناء أي منزلة ثم منزلة، ومَن همزها جعلها قطعةً من القرآن، وسميت السورة لأنها مقطوعة من الأخرى، فلما قرن بعضها إلى بعض سُمِّى قرآنا. قال النَّابغة:

ألم تر أَن اللّه أعطاك سورةً

 ترى كلَّ مَلْك دونَها يتَذبذبُ

أي منزلة، وبعضُ العرب يهمز سورة، ويذهب إلى {أسأرتُ}. نقول: هذه ليست من تلك.

فمجاز تفسير قوله {بسم اللّه} مضمر، مجازه كأنك قلت: بسم اللّه قبل كل شيء وأول كل شيء ونحو ذلك، قال عبد اللّه بن رَوَاحة:

بسم الإله وبه بَـدِينـا

 ولو عبَدْنا غيرَه شَقِينا

يقال: بدأتُ وبدَيت، وبعضهم يقول: بدِينا لغة.

{الرَّحْمَن} مجازه ذو الرحمة، و{الرَّحِيم} مجازه الراحم، وقد يقدّرون اللفظين من لفظ واحد والمعنى واحد، وذلك لاتّساع الكلام عندهم، وقد فعلوا مثل ذلك فقالوا: ندمان ونديم، قال بُرْج بن مُسْهِر الطائيّ، جاهلي:

ونَدْمانٍ يزيد الكأسَ طِيبـاً

 سَقيتُ وقد تغوَّرت النجومُ 

وقال النُعْمان بن نَضْلَة، عَدويُّ من عَدي قُريش:

فإن كنتَ نَدْماني فبالأكبر أسْقِني

 ولا تَسقِني بالأصغر المُتَثـلْـمِ 

وقال بُرَيق الهذليّ عدَوَيّ من عَدي قريش:

رُزينا أبا زيدٍ ولا حيَّ مِثْلَه

 وكان أبو زيد أخي ونديميِ 

وقال حَسّان بن ثابت:

لا أخـدِشُ الـخَــدْش ولا

 يَخْشَى نَدِيمي إذا انتشيتُ يَدِي

٢

{رَبِّ العَالمِين} أي المخلوقين، قال لبيد بن ربيعة:

ما إن رأيتُ ولا سمع

 تُ بمثلهم في العالمَينا

وواحدهم عالَم،

وقال العجّاج:

فَخِنْدِفٌ هامةُ هذا العالِمَ

٤

{مَالِك يَوْمِ الدِّين} نصب على النِّداء، وقد تُحذف ياء النداء، مجازه: يا مالك يوم الدين، لأنه يخاطب شاهداً، ألا تراه يقول: {إيّاكَ نَعْبُدُ} فهذه حجة لمن نصب، ومن جره

قال: هما كلامان.

{الدِّين} الحساب والجزاء، يقال في المثل: {كما تَدين تُدان}،

وقال ابن نُفيل

واعلمْ وأَيقِن أنّ مُلككَ زائل

 واعلم بأنَّ كما تَدِين تُـدانُ

ومجازُ مَن جرّ {مَالِك يَوْمِ الدِّين} أنه حدّث عن مخاطبة غائب، ثم رجع فخاطب شاهداً

٥

فقال: {إيَّاكَ نَعْبُد وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا} {٥}، قال عَنْترة بن شَدّاد العَبْسِيّ:

شَطّتْ مَزَارَ العاشقين فأصبحتْ

 عَسِراً علىَّ طِلابُكِ ابنةَ مَخْرَمِ 

وقال أبو كبير الهذليّ:

يا لَهْفَ نفسي كان جِدّةُ خالـدٍ

 وبَياضُ وَجْهك للتُّراب الأَعْفرِ

ومجاز {إيّاك نَعْبُد}: إذا بُدئ بكناية المفعول قبل الفعل جاز الكلام، فإن بدأتَ بالفعل لم يجز، كقولك: نعبد إياك، قال العجّاج:

إيّاك أدعو فتقَّبلْ مَلَقِى

ولو بدأتَ بالفعل لم يَجز كقولك: أدعو إيّاك، محالٌ، فإن زدتَ الكناية في آخر الفعل جاز الكلام: أدعوك إياك.

٦

{الصِّرَاط}: الطريق، المنهاج الواضح،

قال:

فصدّ عن نَهْج الصِّراط القَاصِدِ 

وقال جرير:

أميرُ المؤمنين على صراطٍ

 إذا أعوجَّ المواردُ مستقيمِ

والموارد: الطرق، ما وردتَ عليه من ماء، وكذلك القَرِىُّ

وقال:

وَطِئنا أرضهم بالخَيْل حتى

 تركناهم أذلَّ من الصراطِ

٧

{غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهم وَلاَ الضَّالِّين} مجازها: غير المغضوب عليهم والضالين، و{لا} من حروف الزوائد لتتميم الكلام، والمعنى إلقاؤها،

وقال العجاج:

في بئرِ لا حُورٍ سَرَى وما شَعَرْ

أي في بئر خور أي هلكة،

وقال أبو النجم:

فما ألوم البيضَ ألا تَسخَرا

 لمّا رأين الشَّمَطَ القَفَنْدَرا

القَفَندر: القبيح الفاحش، أي فما ألوم البيض أن يسخرن،

وقال:

ويَلْحَيْننَى في اللّهو أَلاّ أُحبّه

 وللّهو داعٍ دائبٌ غير غافلِ

والمعنى: ويَلحَيْنَنى في اللّهو أن أحبه. وفي القرآن آية أخرى: {ما مَنَعَك أَلاّ تَسْجُدَ} :١١} مجازها: ما منعك أن تسجد. {ولا الضَّالِّين}: {لا} تأكيدٌ لأنه نفيٌ، فأُدخلت {لا} لتوكيد النفي، تقول: جئت بلا خير ولا بركة، وليس عندك نفع ولا دَفع.

قال أبو خِراش:

فإنكِ لو أبصرتِ مَصْـرَعَ خـالـدٍ

 بجنب السِّتار بين أظْلَمَ فالـحَـزْمِ

إذاً لـرأيتِ الـنَّـابَ غـيرَ رَزِيّةٍ

 ولا البَكْرَ لأضطمَّتْ يداكِ على غُنْم

﴿ ٠