تفسير السلمي

أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن موسى الأزدي  

 السلمي الصوفي

(ت ٤١٢ هـ ١٠٢٢ م)

_________________________________

سورة فاتحة الكتاب

' سبع آيات '

بسم اللّه الرحمن الرحيم

قيل: إنها سميت فاتحة الكتاب لأنه فتح عليك فاتحته لذيذ مناجاته فكانت فاتحة لكل

خير، وقيل أيضا: فاتحة الكتاب؛ أنه أوائل ما فتحناك من خطابنا، فإن تأدبت وإلا حرمت لطائف ما بعده من لطائفه.

١

{ بسم اللّه الرحمن الرحيم }.

قال أبو القاسم الحكيم: ' بسم اللّه الرحمن الرحيم ' إشارة إلى المودة بدءا.

حكي عن العباس بن عطاء أنه قال: الباء بره لأرواح الأنبياء بإلهام الرسالة والنبوة،

والسين سره مع أهل المعرفة بإلهام القربة والأنس.

والميم منته على المريدين بدوام نظره إليهم بعين الشفقة والرحمة.

وقال الجنيد في ' بسم اللّه الرحمن الرحيم ': بسم اللّه هيبته، وفي الرحمن عونه،

وفي الرحيم مودته ومحبته. وقيل الباء في ' بسم اللّه ' باللّه ظهرت الأنبياء وبه فنيت وبتجليه حسنت المحاسن وباستناره فتحت وسمحت.

وحكى عن الجنيد رحمه اللّه أنه قال: إن أهل المعرفة نفوا عن قلوبهم كل شيء

سوى اللّه عز وجل، وصفوا قلوبهم للّه، وكان أول ما وهب اللّه تعالى لهم فناهم عن

كل شيء سوى اللّه قولوا بسم اللّه إلينا فانتسبوا ودعوا انتسابكم إلى آدم عليه السلام.

وقيل أيضا: إن ' بسم ' لبقاء هياكل الخلق، فلو افتتح كتابه باسمه؛ لذابت تحت

حقيقتها الخلائق إلا من كان من نبي أو ولي، والاسم بنور نعيم الحق على قلوب أهل معرفته.

وقيل في ' بسم اللّه ': إنه صفاة أهل الحقيقة لئلا يتزينوا إلا بالحق، ولا يقسموا إلا به.

وقال أبو بكر بن طاهر: الباء سر اللّه بالعارفين، والسين السلام عليهم، والميم  محبته لهم.

وروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم إن صح هذا، الباء بهاؤه والسين سناؤه، والميم مجده.

وقيل: إن الباء في ' بسم اللّه ' إلينا وصلهم إلى ' بسم اللّه '.

سمعت منصور بن عبد اللّه يقول: سمعت أبا القاسم الإسكندراني يقول: سمعت

أبا جعفر الملطي يذكر عن علي بن القاسم موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد

عليه السلام قال: ' بسم ' الباء بقاؤه والسين أسماؤه والميم ملكه، فإيمان المؤمن ذكره

ببقائه وخدمة المريد ذكره بأسمائه، والعارف عن المملكة بالمالك لها.

وقال أيضا: ' بسم ' ثلاثة أحرف: باء وسين وميم فالباء باب النبوة، والسين سر النبوة الذي أسر بها النبي صلى اللّه عليه وسلم به إلى خواص أمته، والميم مملكة الدين الذي أنعم به

للأبيض والأسود، وأما ' اللّه ' فإن محمد بن موسى الواسطي قال: ما دعى اللّه أحد

باسم من أسمائه، إلا ولنفسه في ذلك نصيب إلا قوله ' اللّه '، فإن هذا الاسم يدعوه

إلى الوحدانية وليس للنقص فيه نصيب، وقيل: كل أسمائه تقتضي عوضا عند الدعاء

إلا ' اللّه '، فإنه اسم تفرد الحق به. وقيل: كل من قال: ' اللّه ' فمن عادة قالها إلا من

غيب عن شاهده، وقام الحق بتوليته عنه، عند ذاك زالت العيوب والزلل.

وقال الحسين: بسم اللّه منك منزلة ' كن ' منه فإذا أحسنت أن تقول: ' بسم اللّه '

وأنكرت فيه فضل من اللّه أن تقول اللّه وأنتم عند الغفلة والحيرة تحققت الأشياء بقولك

' بسم اللّه ' كما يتحقق له كن.

وحكي عن الشبلي أنه قال: ما قال اللّه أحد سوى اللّه، فإن كل من قاله قاله

بحظ وأنى يدرك الحقائق الحظوظ.

وقال أبو سعيد الخراز في كتاب درجات المريدين: ومنهم من جاوز نسيان حظوظ نفسه، فوقع في نسيان حظه من اللّه ونسيان حاجته إلى اللّه فهو يقول: لا أوركها أريد

وما أقواه وما أنا ومن أين أنا، ضاع اسمي فلا اسم لي، وجهلت فلا علم لي، وضللت فلا جهل لي، وأسوق إلى من يعرف أقول فيساعدني فيما أقول، وإذا قيل لأحدهم ما تريد قال: اللّه وما تقول اللّه قال وما علمت قال: اللّه فلو تكلمت جوارحه لقالت: اللّه وأعضاؤه ومفاصله ممتلئة من نور اللّه المخزون عنده، ثم يصيرون في القرب

إلى غاية لا يقدر أحد منهم أن يقول اللّه؛ لأنه ورد في الحقيقة على الحقيقة ومن اللّه على اللّه ولا حيرة، ومعناه لا حيرة فيما فيه الحيرة.

وسئل الحسين بن منصور هل ذكره أحد على الحقيقة فقال: كيف يذكر على الحقيقة من لا أمد لكونه ولا علة لفعله ليس له كدك، ولا لغيبه هدك له من الأسماء

معناها والحروف مجراها إذ الحروف مبدوعة والأنفاس مصنوعة، والحروف قول القائل

تنزغن ذلك من الأحوال خلقة، رجع الوصف في الموصف، وعمى العقل عن الفهم،

والفهم عن الدرك، والدرك عن الاستنباط، ودار الملك في الملك، وانتهى المخلوق إلى مثله، عدا قدره الظن، ودها نوره الغيبة.

وقيل: إن الألف الأول من اسمه اللّه ابتداؤه، واللام الأول لام المعرفة، واللام

الثاني لام الآلاء والنعماء والسطر الذي بين اللامين معاني مخاطبات الأمر والنهي،

والهاء نهاية مما تكن العبادة عنه من الحقيقة لا غير.

وقيل: إن الألف آلاء اللّه، واللام لطف اللّه واللام الثاني لقاء اللّه والهاء هيبة بآلاء اللّه فوله به المحبون والمشتاقون حين عجزوا عن علم شيء منه.

وحكى أن أبا الحسين النوري بقي في منزله سبعة أيام لم يأكل ولم ينم ولم

يشرب، ويقول في ولهه ودهشه: اللّه اللّه، وهو قائم يدور فأخبر الجنيد بذلك فقال:

انظروا أمحفوظ عليه أوقاته أم لا؟ فقيل: إنه يصلي الفرائض فقال: الحمد للّه الذي لم يجعل للشيطان عليه سبيلا ثم قال: قوموا حتى نزوره إما نستفيد منه أو نفيده فدخل

عليه وهو في ولهه قال: يا أبا الحسين ما الذي دهاك؟ قال: أقول: اللّه اللّه زيدوا علي

فقال له الجنيد: انظر هل قولك اللّه اللّه أم قولك قولك إن كنت القائل اللّه فاللّه ولست القائل له وإن كنت تقوله بنفسك فأنت مع نفسك فما معنى الوله فقال: نعم الود

فسكنت وسكن عن ولهه فكان الشبلي يقول: اللّه فقيل له لم لا يقول لا إله إلا اللّه؟

فقال: لا أنفي به ضدا.

وقيل في قوله: اللّه هو المانع الذي يمنع الوصول إليه لما امتنع هذا الاسم عن

الوصول إليه حقيقة كانت اللذات أشد امتناعا لعجزهم في إظهار اسم اللّه، ليعلموا بذلك عجزهم عن ذكر ذاته.

وقيل في قوله اللّه: الألف إشارة إلى الوحدانية واللام إشارة إلى محو الإشارة،

واللام الثاني إشارة إلى محو المحو في كشف الهاء.

وقيل: إن الإشارة في الألف هو قيام الحق بنفسه وانفصاله عن جميع خلقه ولا اتصال له بشيء من خلقه كامتناع الألف أن يتصل بشيء من الحروف ابتداء بل تتصل الحروف به على حد الاحتياج إليه واستغنائه عنها.

وقيل: إنه ليس من أسماء اللّه عز وجل اسم يبقى على إسقاط كل حرف منه اسم اللّه إلا اللّه فإنه اللّه، فإذا أسقطت منه الألف يكون ' للّه ' فإذا أسقطت إحدى لاميه

يكون ' له ' فإذا أسقطت اللامين بقي ' الهاء ' وهو غاية الإشارات.

وأما وله الخلق في تولهم فمنهم من وله سره في عظمة جلاله، ومنهم من وله قلبه في وجوه معرفته، ومنهم من وله لسانه بدوام ذكره.

وحكي عن ابن الشبلي قال في تجلي الجنيد في ولهه: اللّه فقال له الجنيد: يا أبا بكر الغيبة حرام أي أن ذكر الغائب غيبة فإن كنت غائبا فالذكر غيبه وإن كنت تذكره عن مشاهدة فهو ترك الحرمة.

وقيل: من قال اللّه بالحروف، فإنه لم يقل اللّه لأنه خارج عن الحروف والخصوص والأوهام ولكن رضى منك بذلك لأنه لا سبيل إلى توحيده من حيث لا حال ولا قال.

وقيل إن معنى قول اللّه: إن الأسماء كلها داخل في هذا الاسم وخارج منه، يخرج

من هذا الاسم معنى الأسماء كلها ولا يخرج هذا الاسم من اسم سواه وذلك أن اللّه

عز وجل يفرد به الاسم دون خلقه وشارك خلقه في اشتقاقات أساميه.

وقال بعض البغدادين: ليس اللّه ما يبدو لكم وبكم وواللّه واللّه ما هذا فهو اللّه هذه

حروف تبدو لكم وبكم، فإذا انظهر انتقيت فمعناه ها هو اللّه، وقال أبو العباس بن عطاء: قوله: ' اللّه ' هو إظهار هيبته وكبريائه.

وكتب أبو سعيد الخراز إلى بعض إخوانه: هل هو إلا اللّه، وهل يقدر أحد أن يقول اللّه إلا اللّه، وهل يرى اللّه إلا اللّه، وهل عرف اللّه أو يعرفه إلا اللّه، وهل كان قبل العبد وقبل الخلق إلا اللّه، وهل الآن في السماوات وفي الأرضين وما بينهما إلا اللّه؟ إذ لم تكونوا فكونوا باللّه وللّه.

قال أبو سعيد الخراز: رأيت حكيما من الحكماء فقلت له: ما غاية هذا الأمر قال:

اللّه. قلت: فما معنى قولك اللّه؟ قال: يقول اللّهم دلني عليك وثبتني عند وجودك ولا تجعلني ممن يرضى بجميع ما هو ذلك عوضا وأقر قراري عند لقائك.

وقال أبو سعيد: إن اللّه عز وجل أول ما دعا عباده دعاهم إلى كلمة واحدة فمن فهمها فقد فهم ما وراءها وهي قوله ' اللّه ' ألا يراه يقول قل هو اللّه فتم به الكلام لأهل

الحقائق ثم زاد بيانا للخاص فقال: أحد، ثم زاد بيانا للأولياء فقال: الصمد، ثم زاد

بيانا للعوام، فقال: لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فأهل الحقائق استغنوا باسمه اللّه وهذه الزيادات لمن نزلت مرتبته عن مراتبهم.

وقيل: إن كل أسمائه تتهيىء أن يتخلق به إلا قوله اللّه فإنما هو للتعلق دون التخلق

وقيل: إن الإشارة في ' اللّه ' هو اتصال اللامين والهاء وانفصال الألف عنه أي إنما أشرتم به إلى اللّه من ألف التعريف منفصل عني لا بكم بإياكم.

يقولون: وما كان من صفاتي فإنه متصل به كللّه حيث اتصلت حروفه.

سمعت منصورا بإسناده عن جعفر أنه قال في قوله ' اللّه ': إنه اسم تام لأنه أربعة:

أحرف الألف وهي عمود التوحيد واللام الأول لوح القلم واللام الثاني لوح النبوة

والهاء النهاية في الإشارة، واللّه هو الاسم المتفرد لا يضاف إلى شيء بل تضاف الأشياء كلها إليه، وتفسير المعبود الذي هو إله الخلق منزه عن درك ماهيته والإحاطة بكيفيته

وهو المستور عن الأبصار، والأفهام والمحتجب بجلاله عن الإدراك.

قوله تعالى: { الرحمن }.

باسم الرحمن خرجت جميع الكرامات للمؤمنين مثل الإيمان والطاعات والولاية والعصمة وسائر المنن وكل نعمة تدوم ولا يستحق أحد من المخلوقين هذا الاسم لأن المخلوق عاجز عن إعطاء شيء لأحد يدوم ويبقى.

وأيضا فإن رحمة الرحمانية للمريدين بها ينفصلون عما دون الرحمن، ولما عمت رحمته في العاجلة على الولي والعدو في معايشهم وأرزاقهم وغير ذلك سمي رحمن.

وقيل في اسمه الرحمن: حلاوة المنة ومشاهدة القربة ومحافظة الخدمة.

وقيل: إن المحبين يتنعمون بأسرارهم في رياض معاني اسمه الرحمن فيجتنون منها

ثمرة الأنس ويشربون منها ماء القربة ويتنعمون على ضفاف أنهار القدس ويرجعون منها

برؤية الآلاء والنعماء، والخائفون يتلذذون في قلوبهم في معاني اسمه الرحمن ويتزودون منها حلاوة السكون والأمن، والتائبون يتروحون بأسرارهم في معاني اسمه

الرحمن فيرجعون منها بصفا السر وطهارة القلوب، والعاصون يمرون على ميادين اسمه

الرحمن فيرجعون منها بالندم والاستغفار.

وقال ابن عطاء: في اسمه الرحمن عونه ونصرته.

وقال الواسطي: الرحمن لا يتقرب إليه أحد إلا بصرف رحمانيته، والرحيم يتقرب إليه بالطاعات لأنه يشارك فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال: { بالمؤمنين رؤوف رحيم }.

قوله تعالى: { الرحيم }.

يقال: إن معنى الرحيم هو ما يخرج من الرحمة الرحيمية لمعاش الخلق ومصالح

أبدانهم فلذلك لم يمنعوا أن يتسموا بالرحيم ومنعوا بالتسمية بالرحمن.

وقيل: إن معنى الرحيم أي بالرحيم وصلتم إلى اللّه وإلى الرحمن والرحيم بعث محمدا صلى اللّه عليه وسلم في قوله: { بالمؤمنين رؤوف رحيم } كأن معناه يقول بسم اللّه الرحمن

الرحيم وبالرحيم محمد وصلتم إلى أن قلتم بسم اللّه الرحمن الرحيم، والرحيم هو

الذي يقبلك بجميع عيوبك إذا أقبلت عليه، ويحفظك أتم الحفظ في العاجلة وإن

أدبرت عنه، لاستغنائه عنك مقبلا ومدبرا.

قال ابن عطاء: في اسمه ' الرحيم ' مودته ورحمته، سمعت منصورا بإسناده عن جعفر في قوله ' الرحمن الرحيم ' قال: هو واقع على المريدين والمرادين، فاسم الرحمن

للمرادين لاستغراقهم في الأنوار والحقائق، والرحيم للمريدين لبقائهم مع أنفسهم

واشتغالهم بإصلاح الظواهر، والرحمن المنتهى بكرامته إلى ما غاية له لأنه قد أوصل

الرحمة بالأزل وهو غاية الكرامة ومنتهاه بدءا وعاقبة، والرحيم وصل رحمته بالياء والميم

وهو ما يتصل به من رحمة الدنيا والهدى والأرزاق.

٢

قوله عز وجل: { الحمد للّه رب العالمين }.

قال ابن عطاء: معناه الشكر للّه إذا كان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدناه.

وقيل معنى الحمد للّه أي: لا حمدا للّه إلا اللّه. وقيل الحمد للّه أي: أنت المحمود

لجميع صفاتك وأحوالك.

قال الواسطي: الناس في الحمد على ثلاث درجات، قالت العامة: الحمد للّه على

العادة، وقالت الخاصة الحمد للّه شكرا على اللذة وقالت الآية: الحمد للّه الذي لم

ينزلنا منزلة استقطعنا النعمة عن شواهد ما أشهدنا الحق من حقه.

وذكر عن جعفر الصادق في قوله ' الحمد للّه ' فقال: من حمده بجميع صفاته كما

وصف نفسه فقد حمده، لأن الحمد حاء وميم ودال فالحاء من الوحدانية والميم من الملك والدال من الديمومة فمن عرفه بالوحدانية والملك والديمومة فقد عرفه.

وقال رجل بين يدي الجنيد رحمه اللّه: الحمد للّه فقال لأتمها كما قال اللّه تعالى قل

' رب العالمين ' فقال الرجل ومن العالمين حتى يذكر مع الحق فقال قله يا أخي فإن المحدث إذا قرن بالقديم لا يبقى له أثر.

وذكر عن عطاء أو غيره أنه قال: الحمد للّه إقرار المؤمنين بوحدانيته وإقرار الموحدين بفردانيته وإقرار العارفين باستحقاق ربوبيته، فالأول إقرار بالإلهية والثاني إقرار بالربوبية

والثالث إقرار بالتعظيم.

وقيل الحمد: هو الثناء للّه فثناء المؤمنين في قراءة فاتحة الكتاب وثناء المريدين بالذكر

في الخلوات وثناء العارفين في الشوق إليه والأنس به.

وقال الحسين: ما من نعمة إلا والحمد أفضل منها، والحمد النبي صلى اللّه عليه وسلم

والمحمود اللّه

والحامد العبد والحميد حاله التي توصل بالمريد.

وقيل أيضا: الحمد للّه رب العالمين عن العالمين قبل العالمين لعلمه بعجز العالمين عن

أداء حمد رب العالمين.

وقيل هذا رحمة للعالمين بإضافته إياهم إليه أنه ربهم.

وقيل في الحمد للّه رب العالمين: إن الحمد يكون على السراء والضراء والشكر لا يكون إلا على النعماء.

وقيل: الحمد للّه يكون لاستغراق الحامد في النعمة والشكر لاستزاده.

وقيل في قوله: الحمد للّه رب العالمين أي منطق العالمين لحمده.

وذكر عن ابن عطاء في قوله الحمد للّه رب العالمين أي: مربى أفضل العارفين بنور اليقين والتوفيق وقلوب المؤمنين بالصبر والإخلاص وقلوب المريدين بالصدق والوفاء وقلوب العارفين بالفكرة والعبرة.

وقيل: رب العالمين أي هو الذي برأ العالمين بين رحمته الرحمن الرحيم حتى يؤهلهم

لتمجيده بقولهم: الحمد للّه رب العالمين، أي سبق الحمد مني لنفسي قبل أن يحمدني

أحد من العالمين، وحمدي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن لعلة، وحمد الخلق إياي

مشوب بالعلل، وقيل رب العالمين، أي: ملهم العالمين بحمده وحده.

وقيل: لما علم عجز عباده عن حمده حمد نفسه بنفسه في الأزل فاستراح طوق عباده

هو محل العجز عن حمده وأنى ينازع الحدث القدم، ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر

العجز بقوله ' لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك '.

وأنشد:

(إذا نحن أثنينا عليك بصالح

* فأنت كما نثنى وفوق الذي نثنى

وحمد نفسه بالأزل لما علم من كثرة نعمه على عباده وعجزهم عن القيام بواجب حمده فحمد نفسه عنهم؛ لتكون النعمة أهنأ لديهم، حيث أسقط عنهم به ثقل رؤية المنة.

وسئل جعفر بن محمد عن قوله: الحمد للّه رب العالمين قال: معناه الشكر للّه فهو المنعم بجميع نعمائه على خلقه وحسن صنيعته وجميل بلائه، فالألف الحمد من الآية وهو الواحد فبالآية أهل معرفته من سخطه وسوء قضائه، واللام من لطفه وهو الواحد فبلطفه إذا فهم حلاوة عطفه وسقاهم كأس سره والحاء فمن حمده وهو السابق يحمد نفسه قبل خلقه، فبسابق حمده استقرت النعم على خلقه وقدروا على حمده، والميم فمن مجده فبجلال مجده زينهم بنور قدسه، والدال فمن دينه الإسلام فهو السلام ودينه الإسلام وداره السلام وتحيتهم فيها سلام لأهل السلام في دار السلام.

٣

قوله تعالى: { الرحمن الرحيم }.

بالإشراف على أسرار أوليائه والتجلي لأرواح أنبيائه والرحيم بالعطف على أنفس الخلائق برهم وفاجرهم يبسط معايشهم في الدنيا.

وقيل: الرحمن خاص الاسم خاص الفعل والرحيم عام الاسم عام الفعل.

وقيل: الرحمن بالنعمة والرحيم بالعصمة.

وقيل: الرحمن بالتجلي والرحيم بالتولي.

وقيل: الرحمن بكشف الأنوار والرحيم لحفظ ودائع الأسرار.

وقيل: الرحمن بذاته والرحيم في نعوته وصفاته وجل الحق أن يدرك حقيقة أساميه

أحد؛ لأن أسماءه بلا علة، وإنما يظهر للخلق نصيبهم من الأسامي لا حقيقة حقه فمن ظن أنه يفسر أساميه على حقيقة حقه فقد ضل ضلالا بعيدا؛ لأنه أظهر الأسامي للإثبات رحمة لخلقه لا إشرافا على صفاته ونعوته قال اللّه تعالى: { ولا يحيطون به علما}

* وكيف يدرك شيء من صفات من الجهات لا يضمنه والسمات لا يأخذه والأوقات لا تداوله ومصنوعة لا تجاوله والترجمة لا تجليه والآداب لا تؤدبه والإشارات لا تدانيه، لم تلتبس به حال ولا ينازعه باك، لا الصفات أوجدته ولا الأسامي زينته، بل هو موجد كل موجود وخالف كل موصوف - جل وتعالى -.

سمعت منصورا بإسناده يقول عن جعفر قال: الرحمن الذي يرزق الخلق ظاهرا وباطنا، فرزق الظاهر الأقوات من المأكولات والمشروبات والعوافي، والباطن العقل والمعرفة والفهم وما ركب فيه من أنواع البدائع كالسمع والبصر والشم والذوق واللمس والهمة والظن.

٤

قوله تعالى: { مالك يوم الدين }.

قال ابن عطاء: مجازى يوم الحساب كل صنف بمقصودهم وهمتهم، يجازى العارفين بالقرب منه والنظر إلى وجهه الكريم، ويجازى أرباب المعاملات بالجنات.

وقيل: من حق العبيد إذا شاهدوا مليكهم أن ينسوا المملكة عند مشاهدة مليكهم.

وقيل: إنه لمن يزل ولا يزال قلقا فكن في الدنيا كما تكون في الآخرة. والها حذرا عالما أنك في ملكه حيث ما كنت.

وقيل: ملك يوم الدين، يوم الكشف والإشهاد { لتجزى كل نفس بما تسعى }.

وقيل: إنها خمسة أسامي للّه ورب العالمين والرحمن والرحيم ومالك فاستدعى الإلهية الوله والربوبية رؤية المنة والرحمن رؤية الشفقة، والرحيم رؤية التعطف، والمالك القطع عن المملكة بالاتصال بمالكها.

٥

قوله تعالى: { إياك نعبد وإياك نستعين }.

على ترك زكاتنا، وأيضا إياك نعبد بالعمل الخالص أي: إياك نعبد بقطع العلائق والأعواض، وإياك نستعين على الثبات على هذه الحال فإنا بك لا بنا.

وأيضا إياك نعبد بالإخلاص وإياك نستعين على المكاشفة لأسرارنا.

وأيضا إياك نعبد بالإرادة وإياك نستعين عليه بالهمة.

وأيضا إياك نعبد بالعلم وإياك نستعين عليه بالمعرفة.

وأيضا إياك نعبد عبادة من يعلم أنه بتوفيقك وتيسيرك قد عبدك وبك نستعين على قبولها وتصحيحها من عندك.

وأيضا إياك نعبد بأمرك وإياك نستعين عليها بفضلك.

وأيضا إياك نعبد بالدعاوى وإياك نستعين أن تسقط عنا الدعاوى تمررنا إلى رياض الحقائق.

وأيضا إياك نعبد ظاهرا وإياك نستعين عليها باطنا، إياك نعبد فأسقط بإياك عنا رؤية العبادة، وإياك نستعين فأزل عنا بإياك رؤية الاستعانة.

وأيضا إياك نعبد فأهلنا لعبادتك وإياك نستعين فلا تحرمنا معونتك إياك نعبد فأخلص عبادتنا وإياك نستعين فأعذنا من رؤية عبادتنا.

وأيضا إياك نعبد على المشاهدة، وإياك نستعين على النازلة.

قال الجنيد: إن اللّه عز وجل خص قوما بمعرفة عبوديته، فأفردوا له العبودية ثم أخرجهم عن ذلك فعرفوا أنفسهم، وما تولى اللّه من ذلك لهم فقالوا: وإياك نستعين على عبادتنا إذ لا يمكن أداؤها إلا بك، فبك عبدنا كذلك، وبك استعنا على شكر النعمة فيه.

وقال القاسم: إياك نعبد بالتوفيق، وإياك نستعين على شكر ما وفقتنا له من عبادتك.

سمعت محمد بن عبد اللّه بن شاذان يقول: سمعت أبا جعفر الفرغلي يقول: من

أقر بإياك نعبد وإياك نستعين فقد برئ من الجبر والقدر.

٦

قوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم }.

قيل معناه: مل بقلوبنا إليك وأقم بهممنا بين يديك وكن دليلنا منك إليك؛ حتى لا

ينقطع عما بك لك.

وقيل: اهدنا الصراط المستقيم أي: أرشدنا إلى طرق المعرفة؛ حتى نستقيم معك بخدمتك فهذا دعاء المريدين في هذه الآية.

وقيل: اهدنا أي: أرنا طريق هدايتك كي نستقيم معك على توحيدك فهذا دعاء المؤمنين.

وقيل: اهدنا أي: أرنا طريق أنسك فنفرح ونطرب بقربك فهذا دعاء العارفين.

وقيل: اهدنا بك إليك، لنستعين ببدايتك عن وسائط المقامات والمجاهدات.

وقيل: اهدنا بفناء أوصافنا فبنا الطريق إلى أوصافك التي لم تزل ولا تزال.

وقيل: اهدنا بكشف الغفلة عنا طريق الوصول إلى رضاك.

وقيل: اهدنا هدى العيان بعد البيان؛ لنستقيم لك على حب إرادتك فينا.

وقيل: اهدنا هدى من أنت المتولي لهدايته طريق حقيقة معرفتك؛ لنستقيم لك بفناء أوصافنا فيك.

وقيل اهدنا هدى من يكون منك مبدأه؛ حتى يكون إليك منتهاه.

وقيل: اهدنا أي: اكشف عنا ظلمات أحوالنا لننظر في خفي غيبك نظرة الاستقامة.

وقيل: اهدنا الصراط المستقيم بالغيبوبة عن الصراط ليلا يكون من يوطأ بالصراط.

وقيل: اهدنا بك ولا تشغلنا بموارد الصراط والاستقامة عنك.

حكي عن أبي عثمان في قوله: اهدنا الصراط المستقيم أي: أرشدنا لاستعمال السنن في أداء فرائضك.

حكي عن فضيل بن عياض في قوله اهدنا الصراط المستقيم قال: طريق الحج صراط الذين أنعمت عليهم من الأنبياء والأولياء غير المغضوب عليهم ولا الضالين غير اليهود والنصارى، فإنك قطعت عليهم طريق الحج بقولك: { لا يقربوا المسجد الحرام} .

وقيل: اهدنا الصراط المستقيم لنستعين بهدايتك على الشيطان، فإنه قال: { لأقعدن لهم صراطك المستقيم }.

وقيل: اهدنا الصراط المستقيم وهو الافتقار إليك، كما قيل لأبي حفص النيسابوري

رحمه اللّه: فإذا تقدم على ربك، قال: وما للفقير أن يقدم به على الغنى سوى فقره.

وقال سهل بن عبد اللّه: أرشدنا بمعونتك الطريق إليك.

قيل أليس قد هداه الصراط المستقيم حتى صلى وسأل فقال: إنما سأل اللّه زيادة هدى، كما قال اللّه تعالى: { والذين اهتدوا زادهم هدى } بسؤالهم اهدنا الصراط المستقيم.

وقال الجنيد: إن القوم إنما سألوا الهداية من الحيرة التي قدرت عليهم من أسماء صفات الأزلية، فسألوا الهداية إلى أوصاف العبودية ليلا؛ ليستغرقوا في رؤية صفات الأزلية.

٧

قوله تعالى: { صراط الذين أنعمت عليهم }.

صراط الذين أنعمت عليهم أي: مقام الدين. أنعمت عليهم بالمعرفة وهم العارفون، وأنعم على الأولياء بالصدق والرضا واليقين، وأنعم على الأبرار بالحلم والرأفة وأنعم على المريدين بحلاوة الطاعة، وأنعم على المؤمنين بالاستقامة، هذا قول ابن عطاء.

وحكي عن أبي عثمان أنه قال: صراط الذين أنعمت عليهم بأن عرفتهم مهالك الصراط ومكايد الشيطان وخيانة النفس.

وحكي عن محمد بن الفضل أنه قال: صراط الذين أنعمت عليهم لقبول ما افترضت عليهم.

وقال أبو الحسن الوراق: صراط الذين أنعمت عليهم بالعناية على الاستقامة في طريق مناجاتك.

وقال بعضهم صراط الذين أنعمت عليهم في سابق الأزل بالسعادة.

وحكي عن بعض البغداديين أنه قال: من أفنيته عن النظر إلى النعمة بدوام التنعم بقربك ومؤانستك.

وقال بعضهم: صراط الذين أنعمت عليهم بالنظر إلى جريان ما جرى عليهم في الأزل فلم يشغلهم كشف ذلك لهم عن الشغل بك.

وحكي عن مالك بن أنس أنه سئل عن قوله ' صراط الذين أنعمت عليهم ' فقال:

متابعة النبي صلى اللّه عليه وسلم.

وقال بعضهم: صراط الذين أنعمت عليهم بالإيمان والهداية والتوفيق والرعاية والمراقبة والكلاءة.

وقال جعفر بن محمد: صراط الذين أنعمت عليهم بالعلم بك والفهم عنك.

وقال بعض البغداديين: صراط الذين أنعمت عليهم بفناء حظوظهم وقيامهم معك حسن الأدب.

وقيل: صراط الذين أنعمت عليهم بمشاهدة المنعم بغير النعمة.

وقيل: صراط الذين أنعمت عليهم بالإسلام ظاهرا والإيمان باطنا. قال اللّه تعالى:

{ وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } وقيل: صراط الذين أنعمت عليهم بإزالة ظلمات الأكوان عن سرائرهم وطهرت أرواحهم بنور قدسك فشاهدوك بهممهم، ولم يشاهدوا معك سواك.

وقال محمد بن علي: صراط الذين أنعمت عليهم قال الذين زممت جوارحهم بالهيبة عند خدمتك.

وقيل: صراط الذين أنعمت عليهم من غيبك المستتر بأنوار هدايتك.

وقيل: صراط الذين أنعمت عليهم بعبادتك على المشاهدة. كما روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ' أن تعبد اللّه كأنك تراه '.

وسئل سهل بن عبد اللّه عن قوله صراط الذين أنعمت عليهم قال: متابعة السنة.

وقيل أيضا: صراط الذين أنعمت عليهم بأن أذنت لهم في مناجاتك وسؤالك.

أخبرنا نصر بن محمد الأندلسي قال: حدثنا أبو عمر أحمد بن هلال بن نزار العطار

قال: حدثنا الحسن بن محمد بن حيان الفرياني قال: حدثنا أحمد بن عبد الواحد قال:

حدثنا محمد بن ميمون قال: حدثنا معاذ بن هلال قال: حدثنا إسماعيل بن حسام عن

الحسن في قوله صراط الذين أنعمت عليهم قال: أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهم.

قوله تعالى: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين }.

قال ابن عطاء: غير المخذولين ولا المطرودين ولا المهانين ولا الضالين الذين ضلوا عن طريق هدايتك ومعرفتك وسبيل ولايتك.

وقيل: غير المغضوب عليهم في طريق الهلكى، ولا الضالين عن طريق الهدى باتباع

الهوى.

وقيل: غير المغضوب عليهم المستهلكين في مفاوز الشيطان، ولا الضالين المطرودين

عن طاعة الرحمن.

وقيل: غير المغضوب عليهم برؤية الأفعال ولا الضالين عن رؤية المنن، وقيل غير

المغضوب عليهم بطلب الأعواض على أعمالهم ولا الضالين عن طريق الشكر بتيسير

الخدمة عليهم.

وقيل: غير المغضوب عليهم بترك حسن الأدب في أوقات القيام بخدمتك، ولا

الضالين عن... فيستغفر وينيب.

وقيل: غير المغضوب عليهم بالرياء ولا الضالين بترك السنن في أركان العبادات.

وقال أبو عثمان: غير المغضوب عليهم بترك قراءة هذه السورة في صلواتهم، ولا

الضالين عن ترك قراءتها.

وقيل: غير المغضوب عليهم بأن وكلتهم إلى أنفسهم ولا الضالين بقطعك الاعتصام

عنهم.

وقيل: غير المغضوب عليهم باتباع البدع ولا الضالين عن سنن الهدى والسنة في قول

القائل آمين بعد قراءة هذه السورة في صلاته والجهر به.

وقال ابن عطاء: أي كذلك فافعل ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.

وقال جعفر: آمين أي: قاصدين نحوك وأنت أكرم من أن تجيب قاصدك.

وقال الجنيد رحمه اللّه: معنى آمين أي: عاجزين عن بلوغ الثناء عليك بصفاتنا إلا

باتباع محمد الأمين فيه.

وقال بعض العراقيين: آمين أي: راجين لإجابة هذه الدعوات التي دعوتك بها.

وقال بعضهم مستقيلين من جميع اسؤلتنا؛ لأن حسن اختيارك لنا خير من اختيارنا.

وقيل: آمين أي: راضين بما قضيت علينا ولنا.

﴿ ٠