سورة الأنفالبسم اللّه الرحمن الرحيم ١قوله تعالى ذكره: { فاتقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم } الآية: ١ قال سهل: التقوى ترك كل شيء يقع عليه الذم. وقال: لا تصح التقوى إلا للمقتدي بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه والتابعين. وقال: التقوى في الآداب: مكارم الأخلاق. وفي الترغيب أن لا يظهر ما في سره، وفي الترهيب أن لا يقف مع الجهل. ٢قوله تعالى: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم } الآية: ٢ قال أبو سعيد الخراز في هذه الآية: هل رأيت ذلك الرجل عند سماع الذكر أو عند سماع كتابه؟ وهل أخرسك سماع ذلك الذكر حتى لم تنطق إلا به؟ وهل أصمك حتى لا تسمع إلا منه هيهات؟ وقيل: المؤمن إذا سمع الذكر أو ذكر هو وجل قلبه أي: عاد القلب على اللسان بالذكر وعلى الآذان بسماع الذكر، فاضطرب وهو الوجل الذي ذكره اللّه عز وجل. قال سهل في قوله { وجلت قلوبهم } قال: هاجت من خشية الفراق فخشعت الجوارح للّه بالخدمة. قال الواسطي رحمة اللّه عليه: وجلت قلوبهم الوجل على مقدار مطالعته، ربما يريه مواضع السطوة، وربما يريه مواضع المودة والمحبة إن كان يريه التقريب والتبعيد. قال الجنيد رحمة اللّه عليه: وجلت قلوبهم من فوات الحق.. وقال بعضهم: الوجل على مقدار المطالعات فإن طالع السطوة هابه، وإن طالع المودة وجل قلبه مخافة فوته. وجملة ذلك من طالع التقريب بالتأديب وجل، ومن طالع التهديد بالتبعيد وجل ومن طالعه مغيبا عن شاهده قائما سرمده خاليا من أزله وأبده، فلا وجل حينئذ ولا اضطراب ولا تباعد ولا اقتراب، فإنه تحقق بالذات ونسي الصفات وفنى من الذات بالذات، كما هرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الصفات إلى الذات فقال: ' أعوذ بك منك '. قوله عز وعلا: { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } الآية: ٢ قال بعضهم: أظهر عليهم بركة التلاوة وزيادة يقين في بواطنهم، وزيادة طاعة على ظاهرهم. وقال الجنيد رحمة اللّه عليه: { زادتهم إيمانا } إذ لا سبيل إلى الوصول إلى اللّه إلا باللّه. قال عمرو بن عثمان: الوجد الصحيح هو الذي يرى صاحبه زيادة ذلك في أحواله ٤وأفعاله وأقواله واخلاقه، لأن اللّه عز وجل يقول { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا }. قوله تعالى اسمه: { أولئك هم المؤمنون حقا } الآية: ٤ قيل: اجتمع فيهم أشياء حقق بها إيمانهم التعظيم للذكر، والوجل عند سماعه. وإظهار الزيادة عليهم عند تلاوة الذكر وسماعه، وحقيقة التوكل على اللّه والقيام بشروط العبودية على حد الوفاء، وكملت أوصافهم في حقيقة الحقائق فصاروا متحققين بالإيمان. قال الجنيد رحمة اللّه عليه: حقا إنهم سبقت لهم من اللّه السعادة. ٥قوله تعالى: { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } الآية: ٥ قال ابن عطاء: أخرجك من بلدتك ليحيى بك قلوبا عميا عن الحق { وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } مفارقة أوطانهم ولا يتم لعبد حقيقة الصحبة والنصيحة إلا بعد هجران أقاربه ومفارقة أوطانه. أخرجهم من تلك البلدة حتى ألفوا غيرها من البلاد، ولم يتبق عليهم مطالبة لها فردهم إليها لئلا يملكهم سوى الحق شيء. وقال بعضهم في هذه الآية: أفناك عن أوصافك ومواضع سكونك واعتمادك، وما كان يميل إليه قلبك، لئلا تلاحظ مجالا ولا تسكن إلى مألوف، فأخرجك من المألوفات، ليكون بالحق قيامك وعليه اعتمادك { وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } ظاهر خروجك ومفارقة أوطانك ولا يعلمون أن خروجك منها الخروج عن جميع الرسوم المألوفة والطبائع المعهودة، وإنك بمفارقة هذا الوطن المعتاد يصير الحق وطنك. ٧قوله عز اسمه: { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } الآية: ٧ قال بعضهم: من ظن أنه يصل إلى الحق بالجهد فمتعن، ومن ظن أنه يصل إليه بغير جهد فمتمن. قال بعضهم: لا يصل أحد إلى حياة القلب ما لم يمت نفسه بنزاع الشهوات عنها ومخالفتها في جميع الأحوال وهو معنى قوله: { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) .* ٨قوله عز وعلا: { ليحق الحق ويبطل الباطل } الآية: ٨ قال بعضهم: ليحق الحق بالكشف، ويبطل الباطل بالستر. وقال بعضهم: ليحق الحق بالقبول، ويبطل الباطل بالرد. قال الواسطي: ليحق الحق بتجليه، ويبطل الباطل باستتاره. وقال بعضهم: ليحق الحق بالاقبال عليه، ويبطل الباطل بالاعراض عنه. وقال بعضهم: ليحق الحق بالرضا، ويبطل الباطل بالسخط. وقيل: ليحق الحق للأولياء، ويبطل الباطل للأعداء. وقيل: ليحق الحق بالجذب، ويبطل الباطل بالصرف. وقيل: ليحق الحق بالبراهين، ويبطل الباطل بالدعاوى. ٩قوله تعالى: { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم } الآية: ٩ قال بعضهم: من صدق الاستعانة أجيب في الوقت. قال اللّه تعالى { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم }. قال أبو سعيد الخراز في هذه الآية: ومناشدة النبي صلى اللّه عليه وسلم ربه: ' إنك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ' وقول الصديق أبي بكر رضي اللّه عنه: ' دع مناشدتك ربك فإنه منجز لك ما وعدك '. أبو بكر رضي اللّه عنه تكلم عن التجريد برؤية الوعد بالوفاء ناظرا بالإشارة إليه، والنبي صلوات الرحمن عليه كان أتم وأبلغ وأقوى وأسكن من أبي بكر وأشد طمأنينة إلى انجاز الوعد لأنه باللّه أعرف، إلا أنه في ذلك راجع إلى أوصافه، فخرج إلى ربه بآداب العبودية بقوله { ادعوني أستجب لكم } فرجع إلى اللّه باللّه سائلا من اللّه إنجاز وعده. قال النصر آباذي: استغاثة منه واستغاثة إليه، فالإستغاثة منه لا يجاب صاحبها بجواب، بل يكون أبدا معلق بتلك الاستغاثة واستغاثة إليه فذلك الذي يجاب إليه الأنبياء والأولياء والأصفياء. وقال أيضا: النفس تستغيث لطلب حظها من البقاء ودوام العافية فيها، والقلب يستغيث من خوف التقليب. قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ' قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء ' والروح يستغيث بها لطلب الرواح، والسر يستغيث لاطلاعه على الخفيات { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور }. ١٠قوله تعالى: { وما النصر إلا من عند اللّه } الآية: ١٠ قيل: بين اللّه آثار النصر وبدو السلامة فمن لم يطلب النصر والسلامة بالذلة والافتقار لا يناله، لأن طالب النصرة بالقوة والقدرة منازعة الربوبية، ومن نازع الولي قهره. قوله تعالى: { أن اللّه عزيز حكيم }. قال الواسطي رحمة اللّه عليه: العزيز الذي لا يدركه طالبوه ولو أدركوه لضل. ١١قوله عز اسمه: { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } الآية: ١١ قال سهل: النعاس ينزل من الدماغ والقلب حي، والنوم يحل بالقلب من الظاهر وهو حكم النوم، وحكم النعاس حكم الروح. قال بعضهم: ألقى على الصحابة النعاس حتى غلبهم ذلك، فلم يبق منهم أحد إلا وهو ناعس تحت حجفته، فلما أزال عنهم أوصافهم وبرأهم من حولهم وقوتهم أيدهم بالأمن، ليعلموا أن النصر من عنده، وهو الذي يهزمهم لا هم وأنه الملقي في قلوبهم الرعب، وأن الكل إليه وليس إليهم من الأمر شيء. قوله تبارك وتعالى: { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } الآية: ١١ قال ابن عطاء: أنزل عليهم ماء طهر به ظواهر أبدانهم ودنسها، وأنزل عليهم رحمة نور بها قلوبهم وشفا بها صدورهم عن وساوس العدو، وألبس بواطنهم لباس الطمأنينة والصدق. قال بعضهم: كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة، تنسيهم الاستغفار من تلك الخطيئة. قال بندار: الاستدراج هو أن يترك المستدرج مع ظاهر الرسوم مع غيبته عن الحقائق والفهم الفائد. قوله تعالى: { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض }. قال بعضهم: النظر في الملكوت يورث الاعتبار والنظر إلى المالك يسقط عنهم الاشتغال بسواه. قال سهل: أخبر اللّه عن قدرته على عباده ووصف حاجتهم إليه وما خلق من شيء مما سمعوا به ولم يروه فاعتبروا به، ولو شاهدوا ذلك بقلوبهم لوصفوه مثل المعاينة، آمنوا بالغيب فأداهم الإيمان إلى مشاهدة الغيب الذي غاب عنهم، وورثوا بذلك درجات الأنوار فصاروا أعلاما للّهدى. قوله تعالى: { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء اللّه }. قال سهل: كيف يملك نفع غيره من لا يملك نفع نفسه. قال أبو الحسين الوراق حاكيا عن أبي عثمان أنه قال: عجز الخلق عن إيصال نفع إلى نفسه أو دفع ضرر عنها آجلا وعاجلا، فكيف يثق بإيمانه وكيف يعتمد على طاعاته؟ قال اللّه تعالى: (فلا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء اللّه } لأن النافع والضار هو اللّه مكن الخلق من الأسباب وهو المسبب لجميع ذلك. قوله تعالى: { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء }. قال بعضهم: لو كنت أملك الغيب وأقدر عليه لما مسني السوء، ولكن طويت الغيوب عنا وألزمت الملامة لنا. قوله تعالى: { وجعل منها زوجها ليسكن إليها }. قال بعضهم: خلقها ليسكن إليها فلما سكن إليها غفل عن مخاطبات الحقيقة لسكونه إليها فوقع فيما وقع من تناول الشجرة. قوله تعالى: { إن وليي اللّه الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين }. قال بعضهم: لاحظ الأولياء بعين اللطف ولاحظ العباد بعين البر، ولاحظ الأنبياء بعين التولي فقال: { إن وليي اللّه }. وقيل في قوله: { وهو يتولى الصالحين } عن رعونة البشرية توليا، وأصلح الخواص بصحة المقصود والإقرار بالإخلاص للمعبود، وأصلح العوام بصحة الأوقات. وسئل جعفر عن الحكمة في قوله: وهو يتولى الصالحين ونحن نعلم أنه يتولى العالمين، فقال التولية على وجهين: تولية إقامة وإبراء، وتولية عناية ورعاية لإقامة الحق. قال الواسطي رحمة اللّه عليه: يتولى الصالحين بالوقاية والرعاية، ويتولى الفاسقين بالغواية. قوله تعالى: { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا }. قيل: كيف يسمع الدعاء من أصمه الداعي عن المدعو إليه، ولا يسمع نداء الحق إلا من أسمعه فبإسماعه يسمع لا باستماعه ولا بسمعه. قوله تعالى: { وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون }. قيل: بأنفسهم ينظرون إليك، فلا يبصرون خصائص ما أودعناه فيك، وبركات ما أجرينا في الخليقة بك، وكذا من نظر بنفسه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حجب عن إدراك معانيه حتى ينظر ببركة الرسول صلى اللّه عليه وسلم بل هو أيضا قاصر النظر حتى تنظر إليه بالحق ومن الحق، إذ ذاك يتبين له شرف ما خص به. قال بعضهم: النظر إلى السفير للأدنى والمبلغ للأعلى، والرسول المصطفى صلى اللّه عليه وسلم نظر عام، ولكن لا يبصره في النظر إليه، ولا يراه إلا الخواص، فمن أبصره أو رآه ظهرت عليه بركات رؤيته بقدر ما كشف له عن رؤيته وفتح من بصره، ألا تراه يقول: ' طوبى لمن رآني ' وقد رآه الكفار وشاهدوه، ولكن طوبى لمن رآه بالموضع الذي وضع ورزق في مشاهدة عظيم حرماته، ولم يكتف بمشاهدة ظاهره بهذه الرؤية التي تظهر على الرأي نتائج هذه البركات، التي لو فاضت واحدة منها على أهل الأرض لوسعتهم. وقال سهل: هي القلوب التي لم يزينها اللّه بأنوار القربة، فهي عمي عن إدراك الحقائق ورؤية الأكابر. وقال القناد: تراهم ينظرون إليك قال: لا يفهمون ما ألقى إليهم، بل يسمعون صفحا وهم عنه معرضون. قوله تعالى: { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين }. قال بعضهم: أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بمكارم الأخلاق ظاهرا وباطنا، والصفح عن زلات الخلائق، والأمر بمكارم الأخلاق، ويعرض عن الجاهلين أي: أعرض عن المعرضين عنا فهم الجهال. وروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل جبريل صلى اللّه عليه وسلم عن تفسير هذه الآية فقال: ' تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وتحسن إلى من أساء إليك '. وروت عائشة الصديقة بنت الصديق رضي اللّه عنهما أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر بالعفو عن أخلاق الرجال بقوله: { خذ العفو }. وقال بعضهم: أقبل عليهم بظاهرك ولا تكن بباطنك إلا مقيدة علينا. قال ابن عطاء: { خذ العفو } المشاهدة، وأمر بالعرف واستعن باللّه على ما نلت من القرب، وأعرض عن الجاهلين، قال: هي النفس إذا طالعت شهواتها. وقال بعضهم: مكارم الأخلاق كلها في قوله. ماء اليقين إذا نزل على الأسرار أسقط عنها الاختلاج والشك، قال اللّه تعالى: { أنزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } من كل ما تدنستم به من أنواع المخالفات. قوله تعالى: { وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام }. قال بعضهم: ربط على قلوب أوليائه، لتلقى البلاء بأسلحة الصبر، وربط على قلوب العارفين لثبات الأسرار في مشاهدة ما يبدو لهم من الغيوب. قال بعضهم: القلوب ثلاثة: قلب مربوط بالأكوان، وقلب مربوط بالأسامى والصفات وقلب مربوط بالحق. ١٧قوله تعالى: { فلم تقتلوهم ولكن اللّه قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن اللّه رمى } الآية: ١٧ قال فارس: ما كنت راميا إلا بنا، ولا مصيبا إلا بمعونتنا وإمدادنا إياك بالقوة. قال بعضهم: أثبتهم في القتل والرمي ومباشرتهما، ثم نفى عنهم ذلك كله لئلا يشهدوا من أنفسهم حالا ولا سببا ويشاهدوا الحق على جميع الأحوال بقوله { ولكن اللّه قتلهم } ورماهم، ومن رمى منكم فبإيانا رمى، ولو بإياكم رميتم لبلغ الرمي إلى مقدار ما يليق بكم. وقال بعضهم: { وما رميت إذ رميت }، ولكن رميت بسهام الجمع فغيبك عنك، فرميت وكنا الرامين عنك، لأن المباشرة لك والحقيقة لنا إذ لم نفترق. وقال بعضهم قوله: { وما رميت إذ رميت ولكن اللّه رمى } أضاف الفعل اليه بقوله رميت وسلبه بقوله { ولكن اللّه رمى } فكأنه يقول: فإن كنت الرامي به، فأنا قد توليت عليك في رميك، لأنك ما رميته بإياك لإياك بل رميته بنا لنا، وكل من عمل بنا لنا فنحن متولو تقويمه في وقت مباشرته، والقائمون بقبوله والمثنون عليه بذلك. قوله تعالى: { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا }. سئل الجنيد رحمة اللّه عليه عن هذه الآية فقال: البلاء الحسن أن يثبته عند الأمر ويحفظه عند النهي، وينفرد به عند مشاهدة العين. وقال رويم: البلاء الحسن أن تكون رؤية الحق أسبق إليه من نزول البلاء، فيمر به البلاء وهو لا يشعر لاستغراقه في رؤية الحق. قال أبو عثمان: البلاء الحسن ما يورثك الصبر عليه والرضاء به. سمعت منصورا يقول بإسناده عن جعفر بن محمد أنه قال: يفنيهم عن نفوسهم، فإذا أفناهم عن نفوسهم؛ كان هو عوضا لهم عن نفوسهم. ٢١قوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } الآية: ٢١ قال بعضهم: من سمع ولم ير عليه فوائد السماع وزوائده في أحواله، فهو غير مستمع ولا سامع، والمستمع على الحقيقة من يرجع من حال السماع بزيادة فائدة أو زيادة حال، ومن حضر مجلس ذكر ولم يرجع بزيادة، فإنما يرجع بنقصان قال اللّه تعالى: { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون }. ٢٢قوله تعالى: { إن شر الدواب عند اللّه الصم البكم الذين لا يعقلون } الآية: ٢٢ قال بعضهم في هذه الآية: الصم عن سماع الذكر وفهم معانيه، والبكم عن مداومة تلاوة الذكر وطلب الزوائد منه، الذين لا يعقلون ما خوطبوا به وما خلقوا له وما هم صائرون إليه في الممات والمآب. ٢٣قوله تعالى: { ولو علم اللّه فيهم خيرا لأسمعهم } الآية: ٢٣ قال بعضهم: حقيقة السماع ما تبدو عليك منه بركات ما تسمعه من زيادة عمل أو زجر عن ارتكاب معصية. ومن أراد اللّه به الخير أسمعه من الحكمة ما ينفعه. قال يحيى بن معاذ: إن هذا العلم الذي تسمعونه، إنما تسمعون ألفاظه من العلماء ومعانيه من اللّه بآذان قلوبكم، فاعملوا تعقلوا ما تسمعون، فإن لم تعملوا كان ضره أقرب إليكم من نفعه. قال بعضهم: علامة الخير في السماع أن يسمعه بفناء أوصافه ونعوته، ويسمعه بحق من حق. قال بعضهم: لو جعلهم أهلا للسماع لفتح آذانهم للاستماع. ٢٤قوله تعالى ذكر: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول } الآية: ٢٤ قال الجنيد رحمة اللّه عليه في كتاب ' رواء التفريط ' في هذه الآية: قرع أسماع همومهم حلاوة الدعوة وتنسموا روح ما أدته إليهم الأفهام الظاهرة من الأدناس، فأسرعوا إلى حذف العلائق المشغلة قلوب الواقفين معها، وهجموا بالنفوس على معانقة الحذر، وتجرعوا مرارة المكابدة وصدقوا اللّه في المعاملة، وأحسنوا الأدب فيما توجهوا إليه، وهانت عليهم المصائب وعرفوا قدر ما يطلبون؛ فاغتنموا سلامة الأوقات، وسجنوا هموهم عن التلفت إلى مذكور سوى وليهم، فيحيون حياة الأبد بالحق الذي لم يزل ولا يزال، فهذا معنى قوله تعالى: { استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم }. وقال الواسطي رحمة اللّه عليه في قوله: { إذا دعاكم لما يحييكم }. قال: حياة النفس تصفيتها من كل معلول لفظا وفعلا. وقال جعفر: أجيبوه إلى الطاعة لتحيا بها قلوبكم. وقال أيضا: { إذا دعاكم لما يحييكم } قال: الحياة باللّه هي الحياة وهي المعرفة، كما قال اللّه: { فلنحيينه حياة طيبة }. قال بعضهم: استجيبوا للّه بسرائركم وللرسول بظواهركم، إذا دعاكم لما يحييكم حياة النفوس بمتابعة الرسول، وحياة القلب بمشاهدة الغيوب، وهو الحياء من اللّه برؤية التقصير. قال ابن عطاء: الاستجابة على أربعة أوجه: أولها: إجابة التوحيد. والثاني: إجابة التحقيق. والثالث: إجابة التسليم. والرابع: إجابة التقريب. قوله تعالى: { واعلموا أن اللّه يحول بين المرء وقلبه } الآية: ٢٤ وأنه قيل: { إن اللّه } إشارة إلى قلوب أوليائه بأن اللّه يأخذها منهم ويحجبها لهم ويقلبها بصفاته، كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ' قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء '. فيختمها بخاتم المعرفة، ويطبعها بطابع الشوق. وسمعت النصرآباذي يقول: القلوب في التقليب والنفوس في التنقيل. وقيل: { يحول بين المرء وقلبه } أي: عقله في التقليب وفهمه عن اللّه خطابه. وقيل: يحول بين المؤمن والإيمان، والكافر والكفر، يردهما إلى ما سبق لهما منه في الأزل. ٢٥قوله تعالى: { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } الآية: ٢٥ قيل: الفتنة التي يرضى العبد بها أو يميل إلى إحدى جوانبها، فإنها فتنة أصابته وإن لم يباشرها. قال أبو عثمان: اكتساب المال من الحرام من الفتن التي تصيب غير مباشرها. قال بشر بن الحارث: لا أرى هذه الآية { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * نزلت إلا فيمن يرى النكاح من غير ولي. ٢٧قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا اللّه والرسول وتخونوا أماناتكم } الآية: ٢٧ قال أبو عثمان: من خان اللّه في السر هتك ستره في العلانية. وقال بعضهم في هذه الآية: خيانة اللّه في الأسرار من حب الدنيا وحب الرياسة. والإظهار خلاف الإضمار، وخيانة الرسول في آداب الشريعة وترك السنن والتهاون بها، وخيانات الأمانات في المعاملات والأخلاق. ومعاشرة المؤمنين في ترك النصيحة لهم. قوله تعالى: { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } الآية: ٢٨ قال بعضهم: أموالكم فتنة إن جمعتم وأمسكتم، ونعمة إن أنفقتم وبذلتم في وجوه الخيرات. قال بعضهم: المال فتنة لمن طلب به الفتنة. نعمة لمن كان خازنا للّه فيه يأخذه بأمره. ويخرجه بأمره إلى أربابه. وقال أبو الحسين الوراق: ما اعتمدت سوى اللّه في الدنيا والآخرة فهو فتنة، حتى تعرض عن الجميع وتقبل على مولاك وتعتمد عليه. ٢٩قوله تعالى: { إن تتقوا اللّه يجعل لكم فرقانا } الآية: ٢٩ قال سهل: نورا في القلب يفرق بين الحق والباطل. قال الجنيد رحمة اللّه عليه في هذه الآية: إذا اتقى العبد ربه جعل له تبيانا يتبين به الحق من الباطل، وهذه نتيجة التقوى، فقيل له: أليس التقوى فرقانا؟ قال: بلى. الأول: بذاته من اللّه، والثاني: اكتساب فإذا اتقى اللّه اكتسب بتقواه معرفة التفرقة بين الحق والباطل، فيتبين هذا من هذا. ٣٠قوله تعالى: { واللّه خير الماكرين } الآية: ٣٠ قال: المكر مكران: مكر تلبيس ومكر هلاك. وقال الشبلي: المكر في النعمة الباطنة، والاستدراج في النعمة الظاهرة. ٣٣قوله تعالى: { وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم } الآية: ٣٣ قال أبو بكر الوراق: ما كان اللّه ليظهر فيهم البدع وأنت فيهم، وما كان اللّه ليأخذهم بذنوبهم وهم يستغفرون. قال بعضهم: الرسول صلى اللّه عليه وسلم هو الأمان الأعظم ما عاش وما دامت سنته باقية فهو باق، فإذا أميتت سنته فلينتظروا البلاء والفتن. ٣٧قوله تعالى: { ليميز اللّه الخبيث من الطيب } الآية: ٣٧ قيل: المخلص من المرائي، والمؤمن من الكافر، والمطيع من العاصي. قال محمد بن الفضل: الخبيث من الأموال هي التي لم يخرج منها حقوق اللّه، والطيب من الأموال ما أخرجت منها حقوق اللّه. قال بعضهم: الطيب من الأموال ما أنفقت في إرفاق الفقراء في أوقات الضرورات والخبيث من الأموال ما أدخل عليهم في أوقات استغنائهم عنها، فشغلت خواطرهم وقال بعضهم: الطيب من الأموال ما أنفقت في وجوه الطاعات، والخبيث ما أنفق في وجوه الفساد. ٤٠قوله تعالى: { فاعلموا أن اللّه مولاكم نعم المولى ونعم النصير } الآية: ٤٠ قال بعضهم: نعم المولى لمن والاه، ونعم النصير لمن استنصره. وقيل: نعم المولى لأهل الولاية، ونعم النصير لأهل الإرادة. ٤٢قوله تعالى: { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة } الآية: ٤٢ قال بعضهم: أظهر للخلق الآيات، ونصب لهم الأعلام، وفتح أعين قوم لرؤيتها، وأعمى أعين قوم دونها، وبعث إليهم الوسائط بالبراهين الصادقة والأنوار النيرة، ولكن يهدي لنوره من يشاء من عباده، وقدم هذه المقدمات ليهلك من هلك عن بينة. وقال بعضهم: لا حياة إلا لمن حيي بذكره وأنس بقربه، والخلق كلهم متحركون في أسبابهم، والحي منهم من تكون حياته بالحي الذي لا يموت. قوله تعالى: { ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا } الآية: ٤٢ قال جعفر: ما قضاه اللّه في الأزل يظهره في الحين بعد الحين والوقت بعد الوقت. وقال بعضهم: ليكشف عن سابق علمه في غيبه، بإيصال كل من الفريقين إلى ما سبق له منه في أزله. ٤٦قوله تعالى: { واصبروا إن اللّه مع الصابرين } الآية: ٤٦ سئل محمد بن موسى الواسطي رحمة اللّه عليه عن ماهية الصبر وحقيقة قوله: { وإن اللّه مع الصابرين } قال: هو إسنال التولي قبل مخامرة المحبة، فإذا صادقت المحبة التولي حمتها بلا كلفة، هذا صفة من كان اللّه معه في صبره. ٤٨قوله تعالى: { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } الآية: ٤٨ قال: عظم طاعاتهم في أعينهم، وصغر نعم اللّه عندهم. وقال بعضهم: أظهر لهم قوتهم حتى اعتمدوها. وقيل: هو مخالفاتهم للسنن. قوله تعالى: { فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه }. قال الواسطي رحمة اللّه عليه: ترك الذنوب على ضروب: منهم من تركها حياء من نعمه كيوسف صلى اللّه عليه وسلم، ومنهم من تركها خوفا كإبليس حين قال: { فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه }. قوله تعالى: { ذلك بأن اللّه لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } الآية: ٥٣ قال جعفر: ما دام العبد يعرف نعم اللّه عنده، فإن اللّه لا ينزع عنه نعمة حتى إذا جهل النعمة ولم يشكر اللّه عليها، إذ ذاك حري أن ينزع منه. قال سهل: خص الأنبياء وبعض الصديقين بمعرفة تلك النعمة التي أنعم اللّه عليهم قبل زوالها وحكم اللّه عنهم. ٦٠قوله تعالى: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } الآية: ٦٠ قيل في هذه الآية: إنه الرمي، بل هو الرامي ظاهرا بسهام القسي والرامي بسهام الليالي في الغيب بالخضوع والاستكانة، ورمي القلب إلى الحق معتمدا عليه راجعا عما سواه. قال أبو علي الروذاباري في قوله: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة }. قال: القوة: هي الثقة باللّه. وقوله: { هو الذي أيدك بنصره }. قال الواسطي رحمة اللّه عليه: قواك به وقوى المؤمنين بك، بل أيدك وأيد المؤمنين بنصرك. ٦٣قوله تعالى: { وألف بين قلوبهم } الآية: ٦٣ قال أبو سعيد الخراز: ألف بين الأشكال وعين الرسوم لمقام آخر، وكل مربوط بمنحته ومستأنس في أهل نحلته، وهذا معنى قول النبي صلى اللّه عليه وسلم: ' الأرواح جنود مجندة '. قال بعضهم: ألف بين قلوب المرسلين بالرسالة، وقلوب الأنبياء بالنبوة، وقلوب الصادقين بالصدق، وقلوب الشهداء بالمشاهدة، وقلوب الصالحين بالخدمة وقلوب عامة المؤمنين بالهداية، فجعل المرسلين رحمة على الأنبياء، وجعل الأنبياء رحمة على الصادقين، وجعل الصادقين رحمة على الشهداء، وجعل الشهداء رحمة على الصالحين، وجعل الصالحين رحمة على عامة المؤمنين، وجعل المؤمنين رحمة على الكافرين. ٦٤قوله تعالى: { يا أيها النبي حسبك اللّه ومن اتبعك من المؤمنين } الآية: ٦٤ قال الواسطي رحمة اللّه عليه: حسبك اللّه وليا وحافظا وناصرا، ومن اتبعك من المؤمنين فاللّه حسبهم. ٦٦قوله تعالى: { الآن خفف اللّه عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } الآية: ٦٦ قال ابن عطاء: ما في السماء لا يوجد إلا بالافتقار، وما في الأرض لا يوجد إلا بالاضطرار. قال النصرآباذي: هذا التخفف كان للأمة دون الرسول صلى اللّه عليه وسلم، ومن لا يثقله حمل أمانة النبوة كيف يخاطب بتخفيف اللقاء للأضداد، وكيف يخاطب به الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وهو الذي يقول: ' بك أصول وبك أجول '، ومن كان به كيف يخفف عنه أو يثقل عليه بعمل النبوة. ٦٧قوله تعالى: { تريدون عرض الدنيا واللّه يريد الآخرة } الآية: ٦٧ قال جعفر: تريدون الدنيا، واللّه يريد الآخرة وما يريده اللّه لكم خير مما تريدونه لأنفسكم. ٦٩قوله تعالى: { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } الآية: ٦٩ قال جعفر: الحلال ما لا يعصى اللّه فيه، والطيب ما لا ينسى اللّه فيه. قال بعضهم: الحلال ما أخذته عن فاقة وضرورة، والطيب من الحلال ما أثرت به مع الحاجة والفاقة. وقال بعضهم: الحلال ما يظهر لك من غير سبب، والطيب ما يبدو لك عن المسبب. ٧٢قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا } الآية: ٧٢ قال أبو يزيد: جهاد النفس في هجرانها نزعها عن المألوفات، وإجراؤها في سبيل اللّه بإسقاط العلائق من المال والأهل، وذلك قوله: { هاجروا وجاهدوا }. ٧٤قوله تعالى: { والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا } إلى قوله: { أولئك هم المؤمنون حقا) * الآية: ٧٤ قال شقيق: الجهاد ثلاثة: جهاد في سرك مع الشيطان. وجهاد في ظاهرك على أداء الفرائض. وجهاد بنفسك مع أعداء اللّه. قال بعضهم: ' هاجروا ' أي فارقوا قرناء السوء والأعمال القبيحة والدعاوي الباطلة. قال بعضهم ' آمنوا ': صدقوا تصديق القلوب، وهاجروا وتركوا الشبهات من الأموال والأصحاب والإخوان والأخدان وجاهدوا الأنفس على ملازمة الحق واتباع الرشد، أولئك الذين جرت لهم السعادة في الأزل بتحقيق الإيمان. قال أبو بكر الفارسي: فضل أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم على الخلق بشيئين: بصحبتهم للنبي صلى اللّه عليه وسلم والمجاهدة معه، وهجرتهم إلى اللّه بالسرائر وغربتهم مع أنفسهم، ألا ترى اللّه يقول: { الذين آمنوا } قال: آمنوا من طوارق الخذلان وهاجروا بقلوبهم في ملكوت الغيوب وجاهدوا أنفسهم على طاعة رسوله: { أولئك هم المؤمنون حقا } حقيقة إيمانهم لما قدم من الثناء عليهم. ذكر ما في سورة التوبة |
﴿ ٠ ﴾