١١٢

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)

قوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً معناه: لن يصيبكم منهم ضرر في الأبدان ولا في الأموال، وإنما هو أذى بالألسنة، فالاستثناء متصل، وقال الحسن، وقتادة وغيرهما: «الأذى» هو تحريفهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم إياه.

قال القاضي أبو محمد: وتنقصهم المؤمنين وطعنهم عليهم جملة وأفرادا، وهذا كله عظيم مقلق وبسببه استحقوا القتل والإجلاء، وضرب الجزية، لكن أراد الله تعالى بهذه الآية أن يلحظهم المؤمنون بعين الاحتقار حتى لا يصدوا أحدا عن دينه ولا يشغلوه عن عبادة ربه، وهكذا هي فصاحة العرب، ومن هذا المعنى في التحقير قول ثمامة بن أثال: يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن شئت المال فاسأل منه ما شئت، فقوله: ذا دم، روي بالذال منقوطة، وبالدال غير منقوطة، فذم بفتح الذال وبكسرها أراد بها الذمام، وأما الدال غير منقوطة، فيحتمل أنه أراد التعظيم لأمر نفسه، وذلك بأحد وجهين: إما أن يريد الوعيد، أي تقتل ذا دم مطلوب بثأره له حماة فاحذر عاقبة ذلك، وإما أن يريد تقتل ملكا يستشفى بدمه، كما كانت العرب تعتقد في دماء الملوك، فهذا استعطاف لا وعيد، أي لا ينبغي ذلك أن تفسد مثلي، وهذا كما استعطف الأشعث بن قيس أبا بكر رضي الله عنه بهذا المعنى، ويحتمل كلام ثمامة، أنه أراد تحقير أمر نفسه وليذهب عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم المسرة بنيل مثل هذا الأمر العظيم، ويجري ذلك مجرى قول أبي جهل لعبد الله بن مسعود: وهل أعمد من رجل قتلتموه؟ ومثله قول الأسير لعمر بن عبد العزيز، حين قال له: لأقتلنك، قال: إن ذلك لا ينقص من عدد الخزر شيئا فكأن ثمامة أراد: إن تقتلني تقتل حيوانا حقيرا شأنه، كما يقتل كل ذي دم فما بالك تفعل ذلك وتدع الإنعام عليّ؟ فالآية تنظر إلى هذا المعنى من جهة أنه حقر عند المؤمنين ما هو عظيم في نفسه تنبيها لهم، وأخبر الله تعالى في قوله: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ الآية، بخبر غيب صححه الوجود، فهي من آيات محمد صلى الله عليه وسلم، وفائدة الخبر هي في قوله: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أي لا تكون حربهم معكم سجالا وخص الْأَدْبارَ بالذكر دون الظهر تخسيسا للفارّ، وهكذا هو حيث تصرف.

وقوله: ضُرِبَتْ معناه: أثبتت بشدة والتزام مؤكد، وهذا وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام، قال الحسن: جاء الإسلام وإن المجوس لتجبيهم الجزية، وما كانت لهم عزة ومنعة إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض فأزالها الله بالإسلام، ولم تبق لهم راية أصلا في الأرض، والذِّلَّةُ فعلة من الذل ثُقِفُوا معناه أخذوا وهم بحال المذنب المستحق الإهلاك، ومنه قوله تعالى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ [الأنفال: ٥٧] فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ ثقفتموهم [التوبة: ٥] واللفظة مأخوذة من الثقاف، ومنه قول الشاعر:

تدعو ثقيفا وقد عضّ الحديد بها ... عضّ الثّقاف على صمّ الأنابيب

وقوله تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ استثناء منقطع، وهو نظير قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النساء: ٩٢] لأن بادي الرأي يعطي أن له أن يقتل خطئا، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة، وليس الأمر كذلك، وإنما الكلام محذوف، يدركه فهم السامع الناظر في الأمر، وتقديره في آياتنا فلا نجاة من الموت إِلَّا بِحَبْلٍ، وقوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا كأنه بالمعنى هلكوا واستؤصلوا، فلذلك حسن أن يجيء بعده إِلَّا بِحَبْلٍ، وقرب فهم ذلك للسامع، قال الزجّاج: المعنى ضربت عليهم الذلة إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه، و «الحبل» العهد، شبه به لأنه يصل قوما بقوم كما يفعل الحبل في الأجرام، وباؤُ معناه مضوا متحملين لهذا الحكم، و «غضب الله عليهم» ، بما دلت عليه هذه الأمور التي أوقع بهم، وأفعال بني إسرائيل على وجه الدهر من التعنت والعصيان توجب الغضب، فلذلك خصوا به، والنصارى إنما ضلوا فقط، والْمَسْكَنَةُ التذلل والضعة، وهي حالة الطواف الملتمس للقمة واللقمتين المضارع المفارق لحالة التعفف والتعزز به، فليس أحد من اليهود وإن كان غنيا إلا وهو بهذه الحال، وقوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى الغضب وضرب الذلة والمسكنة، فعاقبهم الله على كفرهم وقتلهم الأنبياء بذلك، و «آيات الله» : يحتمل أن يراد بها المتلوة، ويحتمل أن يريد العبر التي عرضت عليهم، وقوله: بِغَيْرِ حَقٍّ تأكيد ومبالغة وقطع لما عسى أن يكون في وهم إنسان ممكنا بوجه ما، وقوله تعالى:

ذلِكَ بِما عَصَوْا حمله المفسرون على أن الإشارة بذلك إلى الشيء الذي أشير إليه بذلك الأول، قاله الطبري والزجّاج وغيرهما. والذي أقول: إن الإشارة ب ذلِكَ الأخير إنما هي إلى كفرهم وقتلهم، وذلك أن الله تعالى، استدرجهم فعاقبهم على العصيان والاعتداء بالمصير إلى الكفر وقتل الأنبياء، وهو الذي يقول أهل العلم: إن الله تعالى يعاقب على المعصية بالإيقاع في معصية، ويجازي على الطاعة بالتوفيق إلى طاعة، وذلك موجود في الناس إذا تؤمل، وعصيان بني إسرائيل واعتداؤهم في السبت وغيره متقرر في غير ما موضع من كتاب الله، وقال قتادة رحمه الله عند ما فسر هذه الآية: اجتنبوا المعصية والعدوان فإن بها أهلك من كان قبلكم من الناس.

قوله تعالى:

﴿ ١١٢