١٦

قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦)

ما استفهام والمقصود به التوبيخ والتقريع، ولا في قوله «أن لا» قيل هي زائدة، والمعنى ما منعك أن تسجد وهي ك «لا» في قول الشاعر: [الطويل]

أبى جوده لا البخل واستعجلت به ... نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله

وهذا على أحد الأقوال في هذا البيت فقيل «لا» فيه زائدة. وقال الزجّاج: مفعولة والبخل بدل منها، وحكى الطبري عن يونس عن أبي عمرو بن العلاء: أن الرواية فيه لا البخل بخفض اللام لأن «لا» قد تتضمن جودا إذا قالها من أمر بمنع الحقوق والبخل عن الواجبات. ومن الأبيات التي جاءت لا فيها زائدة قول الشاعر: [الكامل]

افعنك لا برق كأنّ وميضه ... غاب تسنمه ضرام مثقب

وقيل في الآية ليست لا زائدة، وإنما المعنى ما منعك فأحوجك أن تسجد، وقيل: لما كان ما مَنَعَكَ بمعنى من أمرك ومن قال لك حسن أن يقول بعدها أَلَّا تَسْجُدَ.

قال القاضي أبو محمد: وجملة هذا الغرض أن يقدر في الكلام فعل يحسن حمل النفي عليه، كأنه قال ما أحوجك أو حملك أو اضطرك، وجواب إبليس اللعين ليس عما سئل عنه ولكنه جاء بكلام يتضمن الجواب والحجة عليه، فكأنه قال: منعني فضلي إذ أنا خير منه حين خلقتني من نار وخلقته من طين. وروي عن ابن عباس أنه قال: لا أسجد وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا، يقول إن النار أقوى من الطين وظن إبليس أن النار أفضل من الطين وليس كذلك بل هي في درجة واحدة من حيث هي جماد مخلوق، فلما ظن إبليس أن صعود النار وخفتها يقتضي فضلا على سكون الطين وبلادته قاس أن ما خلق منها أفضل مما خلق من الطين فأخطأ قياسه وذهب عليه أن الروح الذي نفخ في آدم ليس من طين، قال الطبري ذهب عليه ما في النار من الطيش والخفة والاضطراب، وفي الطين من الوقار والأناة والحمل والتثبت.

قال القاضي أبو محمد: وفي كلام الطبري نظر، وروي عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.

قال القاضي أبو محمد: قال الطبري يعنيان الخطأ ولا دليل من لفظهما عليه ولا يتأول عليهما إنكار القياس، وإنما خرج كلامهما نهيا عما كان في زمنهما من مقاييس الخوارج وغيرهم، فأرادا حمل الناس على الجادة.

وقوله تعالى: فَاهْبِطْ مِنْها الآية، أمر من الله عز وجل لإبليس بالهبوط في وقت عصيانه في السجود، فيظهر من هذا أنه إنما أهبط أولا وأخرج من الجنة وصار في السماء، لأن الأخبار تظاهرت أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجنة ثم أمر آخرا بالهبوط من السماء مع آدم وحواء والحية.

قال القاضي أبو محمد: وهذا كله بحسب ألفاظ القصة والله أعلم. وقوله: فَما يَكُونُ لَكَ معناه فما يصح لك ولا يتم، وليس يقتضي هذا اللفظ أن التكبر له في غيرها على ما ذهب إليه بعض المعترضين، تضمنت الآية أن الله أخبر إبليس أن الكبرياء لا يتم له ولا يصح في الجنة مع نهيه له ولغيره عن الكبرياء في كل موضع وأما لو أخذنا فَما يَكُونُ على معنى فما يحسن وما يجمل كما تقول للرجل ما كان لك أن لا تصل قرابتك لغير معنى الإغلاظ على إبليس. وقوله: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ حكم عليه بضد المعصية التي عصى بها وهي الكبرياء فعوقب بالحمل عليه بخلاف شهوته وأمله، والصغار الذل قاله السدي.

ثم سأل إبليس ربه أن يؤخره إلى يوم البعث طمع أن لا يموت، إذ علم أن الموت ينقطع بعد البعث ومعنى أَنْظِرْنِي أخرني فأعطاه الله النظرة إلى يوم الوقت المعلوم، فقال أكثر الناس الوقت المعلوم هو النفخة الأولى في الصور التي يصعق لها من في السماوات ومن في الأرض من المخلوقين، وقالت فرقة بل أحاله على وقت معلوم عنده عز وجل يريد به يوم موت إبليس وحضور أجله دون أن يعين له ذلك، وإنما تركه في عماء الجهل به ليغمه ذلك ما عاش.

قال القاضي أبو محمد: وقال بعض أهل هذه المقالة: إن إبليس قتلته الملائكة يوم بدر ورووا في ذلك أثرا ضعيفا.

قال القاضي أبو محمد: والأول من هذه الأقوال أصح وأشهر في الشرع، ومعنى مِنَ الْمُنْظَرِينَ من الطائفة التي تأخرت أعمارها كثيرا حتى جاءت آجالها على اختلاف أوقاتها، فقد عم تلك الفرقة إنظار وإن لم يكونوا أحياء مدة الدهر.

وقوله: فَبِما يحتمل أن يريد به القسم كما تقول فبالله لأفعلن، ويحتمل أن يريد به معنى المجازاة كما تقول فبإكرامك يا زيد لأكرمنك.

قال القاضي أبو محمد: وهذا أليق المعاني بالقصة، ويحتمل أن يريد فمع إغوائك لي ومع ما أنا عليه من سوء الحال لأتجلدن ولأقعدن، ولا يعرض لمعنى المجازاة ويحتمل أن يريد بقوله فَبِما الاستفهام عن السبب في إغوائه، ثم قطع ذلك وابتدأ الإخبار عن قعوده لهم، وبهذا فسر الطبري أثناء لفظه وأَغْوَيْتَنِي قال الجمهور معناه أضللتني من الغي. وعلى هذا المعنى قال محمد بن كعب القرظي فيما حكى الطبري: قاتل الله القدرية لإبليس أعلم بالله منهم، يريد في أنه علم أن الله يهدي ويضل، وقال الحسن أَغْوَيْتَنِي لعنتني. وقيل معناه خيبتني.

قال القاضي أبو محمد: وهذا كله تفسير بأشياء لزمت إغواءه، وقالت فرقة أَغْوَيْتَنِي معناه أهلكتني، حكى ذلك الطبري، وقال: هو من قولك غوى الفصيل يغوي غوى إذا انقطع عنه اللبن فمات. وأنشد:

[الطويل]

معطّفة الأثناء ليس فصيلها ... برازئها درا ولا ميت غوى

قال: وقد حكي عن بعض طيىء: أصبح فلان غاويا أي مريضا، وقوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ يريد على صراطك وفي صراطك وحذف كما يفعل في الظروف، ونحوه قول الشاعر: [ساعدة بن جؤية] .

لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب

وقال مجاهد: صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ يريد به الحق. وقال عون بن عبد الله: يريد طريق مكة.

قال القاضي أبو محمد: وهذا تخصيص ضعيف وإنما المعنى لأتعرضن لهم في طريق شرعك وعبادتك ومنهج النجاة فلأصدنهم عنه. ومنه قوله عليه السلام: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، نهاه عن الإسلام وقال تترك دين آبائك فعصاه فأسلم فنهاه عن الهجرة وقال تدع أهلك وبلدك فعصاه فهاجر، فنهاه عن الجهاد وقال تقتل وتترك ولدك فعصاه فجاهد فله الجنة» الحديث.

قوله عز وجل:

﴿ ١٦