١٨

وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨)

قرأت فرقة «عشاء» أي وقت العشاء، وقرأ الحسن: «عشى» على مثال دجى، أي جمع عاش، قال أبو الفتح: «عشاة» كماش ومشاة، ولكن حذفت الهاء تخفيفا كما حذفت من مألكة، وقال عدي:

أبلغ النعمان عني مألكا ... أنه قد طال حبسي وانتظاري

قال القاضي أبو محمد: ومعنى ذلك أصابهم عشا من البكاء أو شبه العشا إذ كذلك هي هيئة عين الباكي لأنه يتعاشى، ومثل شريح في امرأة بكت وهي مبطلة ببكاء هؤلاء وقرأ الآية، وروي أن يعقوب لما سمع بكاءهم قال: ما بالكم أجرى في الغنم شيء؟ قالوا: لا، قال فأين يوسف؟ قالوا: ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ فبكى وصاح وقال: أين قميصه؟ - وسيأتي قصص ذلك.

ونَسْتَبِقُ معناه: على الأقدام أي نجري غلابا، وقيل: بالرمي أي ننتصل. وهو نوع من المسابقة، قاله الزجاج.

وقولهم: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ أي بمصدق ومعنى الكلام: أي لو كنا موصوفين بالصدق وقيل:

المعنى: ولو كنت تعتقد ذلك فينا في جميع أقوالنا قديما لما صدقتنا في هذه النازلة خاصة لما لحقك فيها من الحزن ونالك من المشقة ولما تقدم من تهمتك لنا.

قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ذكره الزجاج وغيره، ويحتمل أن يكون قولهم: وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ، بمعنى: وإن كنا صادقين- وقاله المبرد- كأنهم أخبروا عن أنفسهم أنهم صادقون في هذه النازلة، فهو تماد منهم في الكذب ويكون بمنزلة قوله: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ [الأعراف: ٨٨] بمعنى أو إن كنا كارهين.

قال القاضي أبو محمد: وفي هذا المثال عندي نظر، وتخبط الرماني في هذا الموضع، وقال: ألزموا أباهم عنادا ونحو هذا مما لا يلزم لأنهم لم يقولوا: وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين في معتقدك، بل قالوا: وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين فيما نعتقد نحن، وأما أنت فقد غلب عليك سوء الظن بنا. ولا ينكر أن يعتقد الأنبياء عليهم السّلام صدق الكاذب وكذب الصادق ما لم يوح إليهم، فإنما هو بشر، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه..» الحديث. فهذا يقتضي أنه جوز على نفسه أن يصدق الكاذب. وكذلك قد صدق عليه السّلام عبد الله بن أبيّ حين حلف على مقالة زيد بن أرقم وكذب زيدا، حتى نزل الوحي، فظهر الحق، فكلام اخوة يوسف إنما هو مغالطة ومحاجة لا إلزام عناد.

وقوله تعالى: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ الآية، روي أنهم أخذوا سخلة أو جديا فذبحوه ولطخوا به قميص يوسف، وقالوا ليعقوب: هذا قميصه، فأخذه ولطخ به وجهه وبكى، ثم تأمله فلم ير خرقا ولا أثر ناب. فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان الذئب حليما، يأكل يوسف ولا يخرق قميصه؟ - قص هذا القصص ابن عباس وغيره، وأجمعوا على أنه استدل على كذبهم لصحة القميص- واستند الفقهاء إلى هذا في إعمال الأمارات في مسائل كالقسامة بها- في قول مالك- إلى غير ذلك.

قال الشافعي: كان في القميص ثلاث آيات: دلالته على كذبهم وشهادته في قده، ورد بصر يعقوب به. وروي أنهم ذهبوا فأخذوا ذئبا فلطخوا فاه بالدم وساقوه وقالوا ليعقوب، هذا أكل يوسف، فدعاه يعقوب فأقعى وتكلم بتكذيبهم.

ووصف الدم ب كَذِبٍ إما على معنى بدم ذي كذب، وإما أن يكون بمعنى مكذوب عليه، كما قد جاء المعقول بدل العقل في قول الشاعر: [الكامل]

حتى إذا لم يتركوا لعظامه ... لحما ولا لفؤاده معقولا

فكذلك يجيء التكذيب مكان المكذوب.

قال القاضي أبو محمد: هذا كلام الطبري، ولا شاهد له فيه عندي، لأن نفي المعقول يقتضي نفي العقل، ولا يحتاج إلى بدل، وإنما «الدم الكذب» عندي وصف بالمصدر على جهة المبالغة.

وقرأ الحسن: «بدم كذب» بدال غير معجمة، ومعناه الطري ونحوه، وليست هذه القراءة قوية.

ثم قال لهم يعقوب لما بان كذبهم: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي رضيت وجعلت سولا ومرادا. أَمْراً أي صنعا قبيحا بيوسف. وقوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ رفع إما على حذف الابتداء وإما على حذف الخبر: إما على تقدير: فشأني صبر جميل، وإما على تقدير فصبر جميل أمثل. وذكر أن الأشهب وعيسى بن عمر قرأ بالنصب: «فصبرا جميلا» على إضمار فعل، وكذلك هي في مصحف أبيّ ومصحف أنس بن مالك- وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر، ولذا يحسن النصب في قول الشاعر [الرجز] ... صبرا جميلا فكلانا مبتلى وينشد أيضا بالرفع ويروى «صبر جميل» ، على نداء الجمل المذكور في قوله: [الرجز]

شكى إليّ جملي طول السرى ... يا جملي ليس إليّ المشتكى

صبر جميل فكلانا مبتلى وإنما تصح قراءة النصب على أن تقدر يعقوب عليه السّلام رجع إلى مخاطبة نفسه أثناء مخاطبة بنيه.

وجميل الصبر ألا تقع شكوى إلى بشر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من بث لم يصبر صبرا جميلا.

وقوله: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ تسليم لأمر الله تعالى وتوكل عليه، والتقدير على احتمال ما تصفون.

قوله عز وجل:

﴿ ١٨