٢

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)

تقدم القول في فواتح السور وذكر التأويلات في ذلك إلا أن الذي يخص هذا الموضع من ذلك هو ما قال ابن عباس رضي الله عنه: إن هذه الحروف هي من قوله: «أنا الله أعلم وأرى» . ومن قال: إن حروف أوائل السور هي مثال لحروف المعجم- قال: الإشارة هنا ب تِلْكَ هي إلى حروف المعجم، ويصح- على هذا- أن يكون الْكِتابِ يراد به القرآن، ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل. والمر- على هذا- ابتداء، وتِلْكَ ابتداء ثان- وآياتُ خبر الثاني، والجملة خبر الأول- وعلى قول ابن عباس في المر يكون تِلْكَ ابتداء وآياتُ بدل منه، ويصح في الْكِتابِ التأويلان اللذان تقدما.

وقوله: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ الَّذِي رفع بالابتداء والْحَقُّ خبره- هذا على تأويل من يرى المر حروف المعجم، وتِلْكَ آياتُ ابتداء وخبر. وعلى قول ابن عباس يكون الَّذِي عطفا على تِلْكَ والْحَقُّ خبر تِلْكَ. وإذا أريد ب الْكِتابِ القرآن فالمراد ب الَّذِي أُنْزِلَ جميع الشريعة: ما تضمنه القرآن منها وما لم يتضمنه. ويصح في الَّذِي أن يكون في موضع خفض عطفا على الكتاب، فإن أردت مع ذلك ب الْكِتابِ القرآن، كانت «الواو» عطف صفة على صفة لشيء واحد، كما تقول: جاءني الظريف والعاقل، وأنت تريد شخصا واحدا، ومن ذلك قول الشاعر:

[المتقارب]

إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم

وإن أردت مع ذلك ب الْكِتابِ التوراة والإنجيل، فذلك بيّن، فإن تأولت مع ذلك المر حروف المعجم- رفعت قوله: الْحَقُّ على إضمار مبتدأ تقديره: هو الحق، وإن تأولتها كما قال ابن عباس ف الْحَقُّ خبر تِلْكَ ومن رفع الْحَقُّ بإضمار ابتداء وقف على قوله: مِنْ رَبِّكَ وباقي الآية ظاهر بين إن شاء الله.

وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها الآية، لما تضمن قوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ توبيخ الكفرة، عقب ذلك بذكر الله الذي ينبغي أن يوقن به، ويذكر الأدلة الداعية إلى الإيمان به.

والضمير في قوله: تَرَوْنَها قالت فرقة: هو عائد على السَّماواتِ، ف تَرَوْنَها- على هذا- في موضع الحال، وقال جمهور الناس: لا عمد للسماوات البتة، وقالت فرقة: الضمير عائد على العمد، ف تَرَوْنَها- على هذا- صفة للعمد، وقالت هذه الفرقة: للسماوات عمد غير مرئية- قاله مجاهد وقتادة- وقال ابن عباس: وما يدريك أنها بعمد لا ترى؟ وحكى بعضهم: أن العمد جبل قاف المحيط بالأرض، والسماء عليها كالقبة.

قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف، والحق أن لا «عمد» جملة، إذ العمد يحتاج إلى العمد ويتسلسل الأمر، فلا بد من وقوفه على القدرة، وهذا هو الظاهر من قوله تعالى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج: ٦٥] ونحو هذا من الآيات، وقال إياس بن معاوية: السماء مقببة على الأرض مثل القبة.

وفي مصحف أبيّ: «ترونه» بتذكير الضمير، و «العمد» : اسم جمع عمود، والباب في جمعه:

«عمد» - بضم الحروف الثلاثة كرسول ورسل، وشهاب وشهب وغيره، ومن هذه الكلمة قول النابغة:

[البسيط]

وخيس الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفّاح والعمد

وقال الطبري: «العمد» - بفتح العين- جمع عمود، كما جمع الأديم أدما.

قال القاضي أبو محمد: وليس كما قال، وفي كتاب سيبويه: إن الأدم اسم جمع، وكذلك نص اللغويون على العمد، ولكن أبا عبيدة ذكر الأمر غير متيقن فاتبعه الطبري.

وقرأ يحيى بن وثاب «بغير عمد» بضم العين والميم.

وقوله: ثُمَّ هي- هنا- لعطف الجمل لا للترتيب، لأن الاستواء على العرش قبل «رفع السماوات» ، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: كان الله ولم يكن شيء قبله. وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض.

وقد تقدم القول في كلام الناس في «الاستواء» ، واختصاره: أن أبا المعالي رجح أنه اسْتَوى بقهره وغلبته، وقال القاضي ابن الطيب وغيره: اسْتَوى - في هذا الموضع- بمعنى استولى، والاستيلاء قد يكون دون قهر. فهذا فرق ما بين القولين، وقال سفيان: فعل فعلا سماه استواء. وقال الفراء:

اسْتَوى - في هذا الموضع- كما تقول العرب: فعل زيد كذا ثم استوى إلي يكلمني، بمعنى أقبل وقصد. وحكي لي عن أبي الفضل بن النحوي أنه قال: الْعَرْشِ- في هذا الموضع- مصدر عرش، مكانه أراد جميع المخلوقات، وذكر أبو منصور عن الخليل: أن العرش: الملك، وهذا يؤيد منزع أبي الفضل بن النحوي إذ قال: العرش مصدر، وهذا خلاف ما مشى عليه الناس من أن العرش هو أعظم المخلوقات وهو الشخص الذي كان على الماء والذي بين يديه الكرسي وأيضا فينبغي النظر على أبي الفضل في معنى الاستواء قريبا مما هو على قول الجميع. وفي البخاري عن مجاهد أنه قال: المعنى: علا على العرش.

قال القاضي أبو محمد: وكذلك هي عبارة الطبري، والنظر الصحيح يدفع هذه العبارة.

وقوله: وَسَخَّرَ تنبيه على القدرة، والشَّمْسَ وَالْقَمَرَ في ضمن ذكرهما ذكر الكواكب- وكذلك قال: كُلٌّ يَجْرِي أي كل ما هو في معنى الشمس والقمر من التسخير، وكُلٌّ لفظة تقتضي الإضافة ظاهرة أو مقدرة، و «الأجل المسمى» هو انقضاء الدنيا وفساد هذه البنية، وقيل: يريد بقوله: لِأَجَلٍ مُسَمًّى الحدود التي لا تتحداها هذه المخلوقات أن تجري على رسوم معلومة.

وقوله: يُدَبِّرُ بمعنى: يبرم- وينفذ- وعبر بالتدبير تقريبا لأفهام الناس، إذ التدبير إنما هو النظر في أدبار الأمور وعواقبها، وذلك من صفة البشر، والْأَمْرَ عام في جميع الأمور وما ينقضي في كل أوان في السماوات والأرضين وقال مجاهد: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ معناه: يقضيه وحده.

وقرأ الجمهور: «يفصل» وقرأ الحسن بنون العظمة، ورواها الخفاف وعبد الوهاب عن أبي عمرو وهبيرة عن حفص، قال المهدوي: ولم يختلف في يُدَبِّرُ، وقال أبو عمرو الداني: إن الحسن قرأ «نفصل» و «ندبر» بالنون فيهما، والنظر يقتضي أن قوله: يُفَصِّلُ ليس على حد قوله: يُدَبِّرُ من تعديد الآيات بل لما تعددت الآيات وفي جملتها يدبر الأمر، أخبر أنه يفصلها لعل الكفرة يوقنون بالبعث، والْآياتِ هنا إشارة إلى ما ذكر في الآية وبعدها.

قوله عز وجل:

﴿ ٢