٧

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧)

هذه آية توبيخ للكفرة أي «وإن تعجب» يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق- فهم أهل لذلك، وعجب وغريب ومزر بهم «قولهم» : أنعود بعد كوننا «ترابا» - خلقا جديدا- ويحتمل اللفظ منزعا آخر أي وإن كنت تريد عجبا فلهم، فإن من أعجب العجب «قولهم» .

واختلف القراء في قراءة قوله: أَإِذا كُنَّا تُراباً فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «أئذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد» جميعا بالاستفهام، غير أن أبا عمرو يمد الهمزة ثم يأتي بالياء ساكنة، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مد. وقرأ نافع «أئذا كنا» مثل أبي عمرو، واختلف عنه في المد، وقرأ «إنا لفي خلق جديد» مكسورة على الخبر، ووافقه الكسائي في اكتفائه بالاستفهام الأول عن الثاني، غير أنه كان يهمز همزتين، وقرأ عاصم وحمزة «أئذا كنا ترابا أإنا» بهمزتين فيهما. وقرأ ابن عامر «إذا كنا» مكسورة الألف من غير استفهام «ءائنا» يهمز ثم يمد ثم يهمز، فمن قرأ بالاستفهامين فذلك للتأكيد والتحفي والاهتبال بهذا التقدير، ومن استفهم في الأول فقط فإنما القصد بالاستفهام الموضع الثاني، و «إذا» ظرف له، و «إذا» في موضع نصب بفعل مضمر، تقديره: أنبعث أو نحشر إذا. ومن استفهم في الثاني فقط فهو بين، - ولا حول ولا قوة إلا بالله-.

والإشارة ب أُولئِكَ إلى القوم القائلين: أَإِذا كُنَّا تُراباً وتلك المقالة إنما هي تقرير مصمم على الجحد والإنكار للبعث، فلذلك حكم عليهم بالكفر.

وقوله: وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ يحتمل معنيين:

أحدهما: الحقيقة وأنه أخبر عن كون الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ في الآخرة فهي كقوله تعالى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غافر: ٧١] .

ويحتمل أن يكون مجازا وأنه أخبر عن كونهم مغللين عن الإيمان، فهي إذن تجري مجرى الطبع والختم على القلوب، وهي كقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ، فَهُمْ مُقْمَحُونَ [يس: ٨] وباقي الآية بين.

وقال بعض الناس الْأَغْلالُ- هنا- عبارة عن الأعمال، أي أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال.

قال القاضي أبو محمد: وتحرير هذا هو في التأويل الثاني الذي ذكرناه.

وقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ.. الآية، هذه آية تبين تخطيئهم في أن يتمنوا المصائب، ويطلبوا سقوط كسف من السماء أو حجارة تمطر عليهم ونحو هذا مع خلو ذلك في الأمم ونزوله بأناس كثير ولو كان ذلك لم ينزل قط لكانوا أعذر، والْمَثُلاتُ جمع مثلة، كسمرة وسمرات، وصدقة وصدقات.

وقرأ الجمهور «المثلات» بفتح الميم وضم الثاء، وقرأ مجاهد «المثلات» بفتح الميم والثاء، وذلك جمع مثلة، أي الأخذة الفذة بالعقوبة، وقرأ عيسى بن عمر «المثلات» بضم الميم والتاء، ورويت عن أبي عمرو وقرأ يحيى بن وثاب بضم الميم وسكون الثاء، وهاتان جمع مثلة، وقرأ طلحة بن مصرف «المثلات» بفتح الميم وسكون الثاء.

ثم رجّى عز وجل بقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ قال الطبري: معناه في الآخرة، وقال قوم: المعنى: إذا تابوا، و «شديد العقاب» إذا كفروا.

قال القاضي أبو محمد: والظاهر من معنى «المغفرة» هنا إنما هو ستره في الدنيا وإمهاله للكفرة، ألا ترى التيسير في لفظ مَغْفِرَةٍ، وأنها منكرة مقللة، وليس فيها مبالغة كما في قوله: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ [طه: ٨٢] ونمط الآية يعطي هذا، ألا ترى حكمه عليهم بالنار، ثم قال: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ فلما ظهر سوء فعلهم وجب في نفس السامع تعذيبهم، فأخبر بسيرته في الأمم وأنه يمهل مع ظلم الكفر، ولم يرد في الشرع أن الله تعالى يغفر ظلم العباد.

ثم خوف بقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ قال ابن المسيب: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا عفو الله ومغفرته لما تمنى أحد عيشا، ولولا عقابه لا تكل كل أحد» . وقال ابن عباس: ليس في القرآن أرجى من هذه الآية.

والْمَثُلاتُ هي العقوبات المنكلات التي تجعل الإنسان مثلا يتمثل به، ومنه التمثيل بالقتلى، ومنه المثلة بالعبيد.

وقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية، هذه آية غض من اقتراحاتهم المتشططة التي لم يجر الله به عادة إلا للأمم التي حتم بعذابها واستئصالها، و «الآية» هنا يراد بها الأشياء التي سمتها قريش كالملك والكنز وغير ذلك، ثم أخبره الله تعالى بأنه مُنْذِرٌ وهذا الخبر قصد هو بلفظه، والناس أجمعون بمعناه.

واختلف المتأولون في قوله: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ فقال عكرمة وأبو الضحى: المراد بالهادي محمد عليه السلام، وهادٍ عطف على مُنْذِرٌ كأنه قال: إنما أنت مُنْذِرٌ وهادٍ لكل قوم. فيكون هذا المعنى يجري مع قوله عليه السلام: بعثت للأسود والأحمر. وهادٍ- على هذا- في هذه الآية بمعنى داع إلى طريق الهدى. وقال مجاهد وابن زيد: المعنى: إنما أنت «منذر» ولكل أمة سلفت «هاد» أي نبي يدعوهم.

قال القاضي أبو محمد: والمقصد: فليس أمرك يا محمد ببدع ولا منكر، وهذا يشبه غرض الآية.

وقالت فرقة: «الهادي» في هذه الآية الله عز وجل، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير، وهادٍ- على هذا- معناه مخترع للرشاد.

قال القاضي أبو محمد: والألفاظ تطلق بهذا المعنى، ويعرف أن الله تعالى هو الهادي من غير هذا الموضع.

وقالت فرقة «الهادي» : علي بن أبي طالب، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم- من طريق ابن عباس- أنه قرأ هذه الآية وعلي حاضر، فأومأ بيده إلى منكب علي وقال: أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي.

قال القاضي أبو محمد: والذي يشبهه- إن صح هذا- أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل عليا رضي الله عنه مثالا من علماء الأمة وهداتها إلى الدين، كأنه قال: أنت يا علي وصنفك، فيدخل في هذا أبو بكر وعمر وعثمان وسائر علماء الصحابة، ثم كذلك من كل عصر، فيكون المعنى- على هذا- إنما أنت يا محمد ولكل قوم في القديم والحديث رعاة وهداة إلى الخير.

قال القاضي أبو محمد: والقولان الأولان أرجح ما تأول في الآية.

قوله عز وجل:

﴿ ٧