٢١

ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١)

المعنى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ، فلا محالة أنه سيختلف عليك كما تقدم لبني إسرائيل فاتبع شريعتك، والشريعة في كلام العرب: الموضع الذي يرد فيه الناس في الأنهار والمياه ومنه قول الشاعر:

[البسيط] .

وفي الشرائع من جلان مقتنص ... رث الثياب خفيّ الشخص منسرب

فشريعة الدين هي من ذلك، كأنها من حيث يرد الناس أمر الحدود ورحمته والقرب منه. وقال قتادة:

الشريعة: الفرائض والحدود والأمر والنهي.

وقوله: مِنَ الْأَمْرِ يحتمل أن يكون واحد الأمور أي من دون الله ونبواته التي بثها في سالف الزمان، ويحتمل أن يكون مصدرا من أمر يأمر، أي على شريعة من الأوامر والنواهي، فسمى جميع ذلك أمرا. والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ هم الكفار الذين كانوا يريدون صرف محمد صلى الله عليه وسلم إلى إرادتهم. و: يُغْنُوا من الغناء، أي لن يكون لهم عنك دفاع. ثم حقر تعالى شأن الظالمين مشيرا بذلك إلى كفار قريش، ووجه التحقير أنه قال: هؤلاء يتولى بعضهم بعضا، والمتقون يتولاهم الله، فخرجوا عن ولاية الله وتبرأت منهم، ووكلهم الله بعضهم إلى بعض.

وقوله تعالى: هذا بَصائِرُ يريد القرآن. والبصائر جمع بصيرة، وهي المعتقد الوثيق في الشيء، كأنه مصدر من إبصار القلب، فالقرآن فيه بيانات ينبغي أن تكون بصائر. والبصيرة في كلام العرب:

الطريقة من الدم، ومنه قول الشاعر يصف جده في طلب الثأر وتواني غيره: [الكامل]

راحوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتد وأى

وفسر الناس هذا البيت بطريقة الدم إذ كانت عادة طالب الدم عندهم أن يجعل طريقة من دم خلف ظهره ليعلم بذلك أنه لم يدرك ثأره وأنه يطلبه، ويظهر فيه أنه يريد بصيرة القلب، أي قد اطرح هؤلاء بصائرهم وراء ظهورهم.

وقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الآية قول يقتضي أنه نزل بسبب افتخار كان للكفار على المؤمنين قالوا لئن كانت آخرة كما تزعمون لنفضلن عليكم فيها كما فضلنا في الدنيا. و: أَمْ هذه ليست بمعادلة، وهي بمعنى بل مع ألف الاستفهام. و: اجْتَرَحُوا معناه: اكتسبوا، ومنه جوارح الإنسان، ومنه الجوارح في الصيد، وتقول العرب: فلان جارحة أهله، أي كاسبهم.

وقرأ أكثر القراء: «سواء» بالرفع «محياهم ومماتهم» بالرفع، وهذا على أن «سواء» رفع بالابتداء «ومحياهم ومماتهم» خبره. و: كَالَّذِينَ في موضع المفعول الثاني ل «نجعل» ، وهذا على أحد معنيين:

إما أن يكون الضمير في مَحْياهُمْ يختص بالكفار المجترحين، فتكون الجملة خبرا عن أن حالهم في الزمنين حال سوء. والمعنى الثاني: أن يكون الضمير في مَحْياهُمْ يعم الفريقين، والمعنى: أن محيا هؤلاء ومماتهم سواء، وهو كريم، ومحيا الكفار ومماتهم سواء، وهو غير كريم، ويكون اللفظ قد لف هذا المعنى وذهن السامع يفرقه، إذ تقدم أبعاد أن يجعل الله هؤلاء كهؤلاء. قال مجاهد: المؤمن يموت مؤمنا ويبعث مؤمنا، والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: مقتضي هذا الكلام أن لفظ الآية خبر، ويظهر لي أن قوله: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ داخل في المحسبة المنكرة السيئة، وهذا احتمال، والأول أيضا جيد.

وقرأ طلحة وعيسى بخلاف عنه: «سواء» بالنصب، «محياهم ومماتهم» بالرفع، وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون قوله: كَالَّذِينَ في موضع المفعول الثاني ل «جعل» كما هو في قراءة الرفع، وينصب قوله: «سواء» على الحال من الضمير في: نَجْعَلَهُمْ. والوجه الثاني أن يكون قوله: كَالَّذِينَ في نية التأخير، ويكون قوله: «سواء» مفعولا ثانيا ل «جعل» ، وعلى كلا الوجهين: «محياهم ومماتهم» مرتفع ب «سواء» على أنه فاعل. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعمش «سواء» بالنصب «محياهم ومماتهم» بالنصب وذلك على الظرف أو على أن يكون «محياهم» بدلا من الضمير في: نَجْعَلَهُمْ أي نجعل محياهم ومماتهم سواء، وهذه الآية متناولة بلفظها حال العصاة من حال أهل التقوى، وهي موقف للعارفين فيكون عنده فيه، وروي عن الربيع بن خيثم أنه كان يرددها ليلة جمعاء، وكذلك عن الفضيل بن عياض، وكان يقول لنفسه: ليت شعري من أي الفريقين أنت، وقال الثعلبي: كانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين.

قال القاضي أبو محمد: وأما لفظها فيعطي أنه اجتراح الكفر بدليل معادلته بالإيمان، ويحتمل أن تكون المعادلة بين الاجتراح وعمل الصالحات، ويكون الإيمان في الفريقين، ولهذا ما بكى الخائفون رضوان الله عليهم، وإما مفعولا حَسِبَ فقولهم أَنْ نَجْعَلَهُمْ يسد مسد المفعولين. وقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ، ما مصدرية، والتقدير: ساء الحكم حكمهم.

قوله عز وجل:

﴿ ٢١