٢٤

وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤)

وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ معناه: بأن خلقها حق واجب متأكد في نفسه لما فيه من فيض الخيرات ولتدل عليه ولتكون صنعة حاكمة لصانع وقيل لبعض الحكماء: لم خلق الله السماوات والأرض؟ قال ليظهر جوده. واللام في قوله: لِتُجْزى يظهر أن تكون لام كي، فكأن الجزاء من أسباب خلق السماوات، ويحتمل أن تكون لام الصيرورة أي صار الأمر فيها من حيث اهتدى بها قوم وضل عنها آخرون لأن يجازى كل أحد بعلمه وبما اكتسب من خير أو شر.

وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ سهل بعض القراء الهمزة وخففها قوم، وكذلك هي في مصحف ابن مسعود مخففة، وفي مصحف أبي بن كعب: «أفرأيت» دون همز. وهذه الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم عن المعرضين عن الإيمان، أي لا تعجل بهم ولا تهتم بأمرهم، فليس فيهم حيلة لبشر، لأن الله تعالى أضلهم. وقال ابن جبير: قوله: إِلهَهُ هَواهُ إشارة إلى الأصنام إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة.

وقال قتادة المعنى: لا يهوى شيئا إلا ركبه، لا يخاف الله، وهذا كما يقال: الهوى إله معبود.

وقرأ الأعرج وابن جبير: «آلهة هواه» على التأنيث في «آلهة» .

وهذه الآية وإن كانت نزلت في هوى الكفر فهي متناولة جميع هوى النفس الأمارة، قال ابن عباس:

ما ذكر الله هوى إلا ذمة. وقال الشعبي: سمي هوى لهويه بصاحبه. وقال النبي عليه السلام: والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله وقال سهل التستري: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك. وقال سهل: إذا شككت في خير أمرين، فانظر أبعدهما من هواك فأته. ومن حكمة الشعر في هذا قول القائل:

إذا أنت لم تعص الهوى قادك ال ... هوى إلى كل ما فيه عليك مقال

وقوله تعالى: عَلى عِلْمٍ قال ابن عباس المعنى: على علم من الله تعالى سابق. وقالت فرقة: أي على علم من هذا الضال بأن الحق هو الذي يترك ويعرض عنه، فتكون الآية على هذا من آيات العناد من نحو قوله: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: ١٤] وعلى كلا التأويلين: ف عَلى عِلْمٍ، حال.

وقوله تعالى: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً استعارات كلها، إذ هو الضال لا ينفعه ما يسمع ولا ما يفهم ولا ما يرى، فكأنه بهذه الأوصاف المذكورة، وهذه الآية لا حجة للجبرية فيها، لأن التكسب فيها منصوص عليه في قوله: اتَّخَذَ وفي قوله: عَلى عِلْمٍ على التأويل الأخير فيه، ولو لم ينص على الاكتساب لكان مرادا في المعنى.

وقرأ أكثر القراء «غشاوة» بكسر الغين. وقرأ عبد الله بن مسعود: «غشاوة» بفتح الغين وهي لغة ربيعة، وحكي عن الحسن وعكرمة: «غشاوة» بضم الغين وهي لغة عكل، وقرأ حمزة والكسائي: «غشوة» بفتح الغين وإسكان الشين. وقرأ الأعمش وابن مصرف بكسر الغين دون ألف.

وقوله: مِنْ بَعْدِ اللَّهِ فيه حذف مضاف تقديره: من بعد إضلال الله إياه.

وقرأ عاصم وأراه الجحدري: «تذكرون» بتخفيف الذال. وقرأ جمهور الناس: «تذكرون» على الخطاب أيضا بتشديد الذال. وقرأ الأعمش: «تتذكرون» بتاءين.

وقوله تعالى: وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا الآية حكاية مقالة بعض قريش، وهذه صنيفة دهرية من كفار العرب. ومعنى قولهم: ما في الوجود إلا هذه الحياة التي نحن فيها وليست ثم آخرة ولا بعث.

واختلف المفسرون في معنى قولهم: نَمُوتُ وَنَحْيا فقالت فرقة المعنى: نحن موتى قبل أن نوجد، ثم نحيا في وقت وجودنا. وقالت فرقة: المعنى: نَمُوتُ حين نحن نطف ودم، ثم نَحْيا بالأرواح فينا، وهذا قول قريب من الأول، ويسقط على القولين ذكر الموت المعروف الذي هو خروج الروح من الجسد، وهو الأهم في الذكر. وقالت فرقة المعنى نحيا ونموت، فوقع في اللفظ تقديم وتأخير. وقالت فرقة:

الغرض من اللفظ العبارة عن حال النوع، فكأن النوع بجملته يقول: إنما نحن تموت طائفة وتحيا طائفة دأبا.

وقولهم: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أي طول الزمان هو المهلك، لأن الآفات تستوي فيه كمالاتها، فنفى الله تعالى علمهم بهذا وأعلم أنها ظنون وتخرص تفضي بهم إلى الإشراك بالله تعالى. والدَّهْرُ والزمان تستعمله الغرب بمعنى واحد. وفي قراءة ابن مسعود: «وما يهلكنا إلا دهر يمر» . وقال مجاهد:

الدَّهْرُ هنا الزمان، وروى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، ويفارق هذا الاستعمال قول النبي عليه السلام: «لا تسبوا الدهر، فإن الله تعالى هو الدهر» وفي حديث آخر: «قال الله تعالى يسب ابن آدم الدهر، وأنا الدهر بيدي الليل والنهار» ، ومعنى هذا الحديث: فإن الله تعالى يفعل ما تنسبونه إلى الدهر وتسبونه بسبه. وإذا تأملت مثالات هذا في الكلام ظهرت إن شاء الله تعالى.

قوله عز وجل:

﴿ ٢٤