١١

وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١)

أقسم الله تعالى بهذا المخلوق تشريفا له وتنبيها منه ليكون معتبرا فيه حتى تولى العبرة إلى معرفة الله تعالى. وقال الزهري، المعنى: ورب النجم، وفي هذا قلق مع لفظ الآية. واختلف المتأولون في تعيين النجم المقسم به فقال ابن عباس ومجاهد والفراء، وبينه منذر بن سعيد هو الجملة من القرآن إذا تنزلت، وذلك أنه روي أن القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم نجوما أي أقدارا مقدرة في أوقات ما، ويجيء هَوى على هذا التأويل بمعنى: نزل، وفي هذا الهوى بعد وتحامل على اللغة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: ٧٥] والخلاف في هذا كالخلاف في تلك، وقال الحسن ومعمر بن المثنى وغيرهما: النَّجْمِ هنا اسم جنس، أرادوا النجوم إذا هوت، واختلف قائلو هذه المقالة في معنى: هَوى فقال جمهور المفسرين: هَوى إلى الغروب، وهذا هو السابق إلى الفهم من كلام العرب، وقال الحسن بن أبي الحسن وأبو حمزة الثمالي هَوى عند الانكدار في القيامة فهي بمعنى. قوله: وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ. [الانفطار: ٢] وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي هو في الانقضاض في أثر العفرية وهي رجوم الشياطين، وهذا القول تسعده اللغة، والتأويلات في هَوى محتملة، كلها قوية ومن الشاهد في النجم الذي هو اسم الجنس قول الراعي:

فتاقت تعد النجم في مستحيرة ... سريع بأيدي الآكلين جمودها

يصف إهالة صافية، والمستحيرة: القدر التي يطبخ فيها، قاله الزجاج. وقال الرماني وغيره: هي شحمة صافية حين ذابت، وقال مجاهد وسفيان: النَّجْمِ في قسم الآية الثريا، وسقوطها مع الفجر هو هويها والعرب لا تقول النجم مطلقا إلا للثريا، ومنه قول العرب [مجزوء الرمل]

طلع النجم عشاء ... فابتغى الراعي كساء

طلع النجم غدية ... فابتغى الراعي شكية

وهَوى على هذا القول يحتمل الغروب ويحتمل الانكدار، وهَوى في اللغة معناه: خرق الهوى ومقصده السفل أو مسيره إن لم يقصده إليه، ومنه قول الشاعر: [مجزوء الكامل]

هوى ابني شفا جبل ... فزلّت رجله ويده

وقول الشاعر: [الطويل]

وإن كلام المرء في غير كنهه ... لك النبل تهوي ليس فيها نصالها

وقول زهير:

هوي الدلو أسلمها الرشاء ومنه قولهم للجراد: الهاوي، ومنه هوى العقاب.

والقسم واقع على قوله: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى والضلال أبدا يكون من غير قصد من الإنسان إليه. والغي كأنه شيء يكتسبه الإنسان ويريده، نفى الله تعالى عن نبيه هذين الحالين، وغَوى:

الرجل يغوي إذا سلك سبيل الفساد والعوج، ونفى الله تعالى عن نبيه أن يكون ضل في هذه السبيل التي أسلكه الله إياها، وأثبت له تعالى في الضحى أنه قد كان قبل النبوءة ضالا بالإضافة إلى حاله من الرشد بعدها.

وقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى يريد محمدا صلى الله عليه وسلم أنه ليس يستكلم عن هواه، أي بهواه وشهوته. وقال بعض العلماء: المعنى: وما ينطق القرآن المنزل عن هوى وشهوة، ونسب النطق إليه من حيث تفهم عنه الأمور كما قال: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ [الجاثية: ٢٩] وأسند الفعل إلى القرآن ولم يتقدم له ذكر لدلالة المعنى عليه.

وقوله: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى يراد به القرآن بإجماع، والوحي: إلقاء المعنى في خفاء، وهذه عبارة تعم الملك والإلهام والإشارة وكل ما يحفظ من معاني الوحي.

والضمير في قوله: عَلَّمَهُ يحتمل أن يكون للقرآن، والأظهر أنه لمحمد صلى الله عليه وسلم.

وأما المعلم فقال قتادة والربيع وابن عباس: هو جبريل عليه السلام، أي علم محمدا القرآن. وقال الحسن المعلم الشديد القوى هو الله تعالى. والْقُوى جمع قوة، وهذا في جبريل مكتمن، ويؤيده قوله تعالى:

ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: ٢٠] . وذُو مِرَّةٍ معناه: ذو قوة، قاله قتادة وابن زيد والربيع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» . وأصل المرة من مرائر الحبل، وهي فتله وإحكام عمله، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل] بكل ممر الفتل شد بيذبل وقال قوم ممن قال إن ذا المرة جبريل. معنى: ذُو مِرَّةٍ ذو هيئة حسنة وقال آخرون: بل معناه ذو جسم طويل حسن.

قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف.

و (استوى) مستند إلى الله تعالى في قول الحسن الذي قال: إنه لمتصف: ب شَدِيدُ الْقُوى، وكذلك يجيء قوله: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى صفة الله تعالى على معنى وعظمته وقدرته وسلطانه تتلقى نحو «الأفق الأعلى» ، ويجيء المعنى نحو قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] ، ومن قال إن المتصف ب شَدِيدُ الْقُوى هو جبريل عليه السلام قال: إن (استوى) مستند إلى جبريل، واختلفوا بعد ذلك، فقال الربيع والزجاج: المعنى: فَاسْتَوى جبريل في الجو، وهو إذ ذاك، بِالْأُفُقِ الْأَعْلى إذ رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قد سد الأفق، له ستمائة جناح، وحينئذ دنا من محمد حتى كان قابَ قَوْسَيْنِ، وكذلك هو المراد في هذا القول النزلة الأخرى في صفته العظيمة له ستمائة جناح عند السدرة وقال الطبري والفراء المعنى: فَاسْتَوى جبريل.

وقوله: وَهُوَ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكره في الضمير في عَلَّمَهُ. وفي هذا التأويل العطف على المضمر المرفوع دون أن يؤكد، وذلك عند النحاة مستقبح، وأنشد الفراء على قوله:

[الطويل]

ألم تر أن النبع يصلب عوده ... ولا يستوي والخروع المتقصف

وقد ينعكس هذا الترتيب فيكون «استوى» لمحمد وهو لجبريل عليه السلام، وأما الْأَعْلى فهو عندي لقمة الرأس وما جرى معه. وقال الحسن وقتادة: هو أفق مشرق الشمس وهذا التخصيص لا دليل عليه. واختلف الناس إلى من استند قوله. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فقال الجمهور: استند إلى جبريل عليه السلام، أي دنا إلى محمد في الأرض عند حراء. وقال ابن عباس وأنس في حديث الإسراء ما يقتضي أنه يستند إلى الله تعالى، ثم اختلف المتأولون، فقال مجاهد: كان الدنو إلى جبريل. وقال بعضهم: كان إلى محمد.

و: دَنا فَتَدَلَّى على هذا القول معه حذف مضاف. أي دنا سلطانه ووحيه وقدره لا الانتقال، وهذه الأوصاف منتفية في حق الله تعالى. والصحيح عندي أن جميع ما في هذه الآيات هو مع جبريل، بدليل قوله: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: ١٣] فإن ذلك يقضي بنزلة متقدمة، وما روي قط أن محمدا رأى ربه قبل ليلة الإسراء، أما أن الرؤية بالقلب لا تمنع بحال ودَنا أعم من: «تدلى» ، فبين تعالى بقوله:

فَتَدَلَّى هيئة الدنو كيف كانت، و: قابَ معناه: قدر. وقال قتادة وغيره: معناه من طرف العود إلى طرفه الآخر. وقال الحسن ومجاهد: من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المقبض.

وقرأ محمد بن السميفع اليماني: «فكان قيس قوسين» ، والمعنى قريب من قابَ، ومن هذه اللفظة قول النبي عليه السلام: «لقاب قوس أحدكم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» وفي حديث آخر:

«لقاب قوس أحدكم في الجنة» .

وقوله: أَوْ أَدْنى معناه: على مقتضى نظر البشر، أي لو رآه أحدكم لقال في ذلك قوسان أو أدنى من ذلك، وقال أبو زيد ليست بهذه القوس، ولكن قدر الذراعين أو أدنى، وحكى الزهراوي عن ابن عباس أن القوس في هذه الآية ذراع تقاس به الأطوال، وذكره الثعلبي وأنه من لغة الحجاز.

وقوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى، قال ابن عباس المعنى: فَأَوْحى الله إِلى عَبْدِهِ جبريل ما أَوْحى. وفي قوله: ما أَوْحى إبهام على جهة التفخيم والتعظيم، والذي عرف من ذلك فرض الصلاة، وقال الحسن المعنى: فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى كالأولى في الإبهام، وقال ابن زيد المعنى: فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى الله إلى جبريل.

وقوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قرأ جمهور القراء بتخفيف الذال على معنى لم يكذب قلب محمد الشيء الذي رأى، بل صدقه وتحققه نظرا، وكَذَبَ يتعدى، وقال أهل التأويل ومنهم ابن عباس وأبو صالح: رأى محمد الله تعالى بفؤاده. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «جعل الله نور بصري في فؤادي، فنظرت إليه بفؤادي» . وقال آخرون من المتأولين المعنى: ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه، بل صدقه وتحققه، ويحتمل أن يكون التقدير فيما رأى، وقال ابن عباس فيما روي عنه وعكرمة وكعب الأحبار إن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه. وبسط الزهراوي هذا الكلام عنهم وأبت ذلك عائشة، وقالت: أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآيات، فقال لي: «هو جبريل فيها كلها» . وقال الحسن المعنى: ما رأى من مقدورات الله وملكوته. وسأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: هو نور إني أراه، وهذا قول الجمهور، وحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قاطع بكل تأويل في اللفظ، لأن قول غيرها إنما هو منتزع من ألفاظ القرآن. وقرأ ابن عامر فيما روى عنه هشام: «ما كذّب» بشد الذال، وهي قراءة أبي رجاء وأبي جعفر وقتادة والجحدري وخالد، ومعناه بين على بعض ما قلناه، وقال كعب الأحبار: إن الله تعالى قسم الكلام والرؤية بين موسى ومحمد، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين، وقالت عائشة رضي الله عنها: لقد وقف شعري من سماع هذا وتلت:

لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام: ١٠٣] . وذهبت هي وابن مسعود وقتادة وجمهور العلماء إلى أن المرئي هو جبريل عليه السلام في المرتين: في الأرض وعند سدرة المنتهى ليلة الإسراء، وقد ذكرتها في سورة «سبحان» وهي مشهورة في الكتب الصحاح.

وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر هذه السورة كلها بفتح أواخر آيها وأمال عاصم في رواية أبي بكر:

«رأى» . وقرأ نافع وأبو عمرو بين الفتح. وأمال حمزة والكسائي جميع ما في السورة، وأمال أبو عمرو فيما روى عنه عبيد: «الأعلى» و: «تدلى» .

قوله عز وجل:

﴿ ١١