١٧عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) «العبوس» : تقطب الوجه واربداده عند كراهية أمر، وفي مخاطبته بلفظ ذكر الغائب مبالغة في العتب لأن في ذلك بعض الإعراض، وقال كثير من العلماء وابن زيد وعائشة وغيرها من الصحابة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي، لكتم هذه الآيات، وآيات قصة زيد وزينب بنت جحش، و «التولي» : هنا الإعراض، وأَنْ: مفعول من أجله، وقرأ الحسن أَنْ جاءَهُ بمدة تقرير وتوقيف والوقف مع هذه القراءة على تَوَلَّى وهي قراءة عيسى. وذكر الله تعالى ابن مكتوم بصفة العمى ليظهر المعنى الذي شأن البشر احتقاره، وبين أمره بذكر ضده من غنى ذلك الكافر، وفي ذلك دليل على أن ذكر هذه العاهات متى كانت المنفعة أو لأن شهرتها تعرف السامع صاحبها دون لبس جائز، ومنه قول المحدثين سلمان الأعمش وعبد الرحمن الأعرج وسالم الأفطس ونحو هذا. ومتى ذكرت هذه الأشياء على جهة التنقيص فتلك الغيبة، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة تذكر امرأة، فقالت: إنها القصيرة. فقال لها: لقد قلت كلمة لو مزجت بالبحر لمزجته ثم خاطب تعالى نبيه فقال: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أي وما يطلعك على أمره وعقبى حاله، ثم ابتدأ القول: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي تنمو بركته وتطهره لله وينفعه إيمانه، وأصل يَزَّكَّى: يتزكى، فأدغم التاء في الزاي وكذلك يَذَّكَّرُ، وقرأ الأعرج. «يذكر» بسكون الذال وضم الكاف، ورويت عن عاصم، وقرأ جمهور السبعة: «فتنفعه» بضم العين على العطف، وقرأ عاصم وحده والأعرج: «فتنفعه» بالنصب في جواب التمني، لأن قوله أَوْ يَذَّكَّرُ في حكم قوله: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، ثم أكد تعالى عتب نبيه عليه السلام بقوله: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى أي بماله، و: تَصَدَّى معناه: تتعرض بنفسك، وقرأ ابن كثير ونافع: «تصدى» بشد الصاد على إدغام التاء، وقرأ الباقون والأعرج والحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى والأعمش: «تصدى» ، بتخفيف الصاد على حذف التاء وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «تصدى» ، بضم التاء وتخفيف الصاد على بناء الفعل للمجهول، أي تصديك حرصك على هؤلاء الكفار أن يسلموا، تقول: تصدى الرجل وصديته، كما تقول: تكسب وكسبته، ثم قال تعالى محتقرا لشأن الكفار: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وما يضرك ألا يفلح، فهذا حض على الإعراض عن أمرهم، وترك الاكتراث بهم، ثم قال مبالغا في العتب: وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى أي يمشي، وقيل المعنى: يَسْعى في شؤونه وأمر دينه وتقربه منك، وَهُوَ يَخْشى الله تعالى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، أي تشتغل، تقول لهيت عن الشيء ألهى إذا اشتغلت وليس من اللهو الذي هو من ذوات الواو، وإما أن المعنى يتداخل، وقرأ الجمهور من القراء: «تلهى» بفتح التاء على حذف التاء الواحدة، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه، «تلهى» بالإدغام، وقرأ طلحة بن مصرف: «تتلهى» بتاءين، وروي عنه «تلهى» بفتح التاء وسكون اللام وتخفيف الهاء المفتوحة، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «تلهى» بضم التاء وسكون اللام أي يلهيك حرصك على أولئك الكفار، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «وما استأثر الله به فاله عنه» ، وقوله تعالى في هاتين: وَأَمَّا مَنْ فالسبب ما ذكر من كفار قريش وعبد الله بن أم مكتوم، ثم هي بعد تتناول من شركهم في هذه الأوصاف، فحمله الشرع والعلم مخاطبون في تقريب الضعيف من أهل الخير وتقديمه على الشريف العاري من الخير، بمثل ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة، ثم قال: كَلَّا يا محمد أي ليس الأمر في حقه كما فعلت إن هذه السورة والقراءة التي كنت فيها مع ذلك الكافر تَذْكِرَةٌ لجميع العالم لا يؤثر فيها أحد دون أحد، وقيل المعنى أن هذه المعتبة تذكرة لك يا محمد ففي هذا التأويل إجلال لمحمد صلى الله عليه وسلم وتأنيس له، وقوله تعالى: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ يتضمن وعدا ووعيدا على نحو قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً [النبأ: ٣٩] وقوله تعالى: فِي صُحُفٍ يتعلق بقوله: إِنَّها تَذْكِرَةٌ، وهذا يؤيد أن التذكرة يراد بها جميع القرآن، وقال بعض المتأولين: الصحف هنا اللوح المحفوظ، وقيل: صحف الأنبياء المنزلة، وقيل: مصاحف المسلمين، واختلف الناس في «السفرة» ، فقال ابن عباس: هم الملائكة لأنهم كتبة يقال: سفرت أي كتبت، ومنه السفر، وقال ابن عباس أيضا: الملائكة سفرة لأنهم يسفرون بين الله تعالى وبين أنبيائه، وقال قتادة: هم القراء وواحد السفرة سافر، وقال وهب بن منبه: هم الصحابة لأنهم بعضهم يسفر إلى بعض في الخبر والتعلم، والقول الأول أرجح، ومن اللفظة قول الشاعر: [الوافر] . وما أدع السفارة بين قومي ... وما أسعى بغش إن مشيت و «الصحف» على هذا صحف عند الملائكة أو اللوح، وعلى القول الآخر هي المصاحف، وقوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ دعاء على اسم الجنس وهو عموم يراد به الخصوص، والمعنى: قتل الإنسان الكافر، ومعنى قُتِلَ أي هو أهل أن يدعى عليه بهذا، وقال مجاهد: قُتِلَ بمعنى لعن، وهذا تحكم، وقوله تعالى: ما أَكْفَرَهُ يحتمل معنى التعجب، ويحتمل معنى الاستفهام توقيفا أي أيّ شيء أَكْفَرَهُ أي جعله كافرا، وقيل إن هذه الآية نزلت في عتبة بن أبي لهب، وذلك أنه غاضب أباه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن أباه استصلحه وأعطاه مالا وجهزه إلى الشام، فبعث عتبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إني كافر برب النجم إذا هوى، فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم ابعث عليه كلبك حتى يأكله» ، ويروى أنه قال: «ما يخاف أن يرسل الله عليك كلبه» ، ثم إن عتبة خرج في سفرة فجاء الأسد فأكله بين الرفقة. قوله عز وجل: |
﴿ ١٧ ﴾